محمد علوط - تشكلات الكتابة الحكائية في “الحقيقة العارية” لمحمد محضار

يسعدني أن أقدم الأديب المغربي مَحمد محضار ومجموعته الحقيقة العارية التي تنتمي ومجموعته الحقيقة العارية التي تنتمي ألى الجنس الأدبي المسمى بالقصة القصيرة جدا، والصادرة في طبعتها الأولى (2018) عن مطبعة وراقة بلال بفاس .
سعادة تغمرني لسببين أولهما: أن نعيش، هنا، لحظة احتفاء وتكريم لأديب مغربي أبدع في الشعر والقصة والرواية وراكم نتاجا متميزا هو ثمرة عطاء يمتد في تاريخه منذ السبعينيات إلى الآن. وكم كنت سأكون أكثر سعادة لو اتيح لي تقديم مجموعته القصصية (خلف السراب)التي اطلعت عليها، وأقر بأنها إنجاز أدبي راق. وتسمو طبقات عليا فوق مجموعته القصصية الراهنة: الحقيقة العارية . ثانيهما: وهو ما اعتبره: ( الحق في الإنصاف) لأنه في حقلنا الثقافي طالما عرفنا أدباء أوفياء للكلمة الإبداعية مثل الأديب مَحمد محضارلم يوفهم النقد الأدبي حقهم من الاعتبارية الواجبة في سيادة النقدالمحاباتي والشلّلي ّ (من الشلة) أو فقط لأن محمد محضار رجل متواضع ولم يكن من الأدعياء الباحثين عن الشهرة ، وتصدّر المجالس. إنه مبدع يحب أن يكون في مكانه الرمزي جاعلا من فضيلة التواضع شهرته ومسكنه وعنوان إقامته الجمالية .
1.1 القصة القصيرة جدا هي جنس أدبي له اصطلاحه المفهومي الخاص في مجال النقد .أحدالنقاد قال عنه : ” إنه محاولة القبض على الأبدية في اللحظة ” ، وككل الأشكال الأدبية الموسومة بوصف (القِصَرِ) مثل الشّذرة ، والها يكو الشعري ، والأمثال والحكم ، والطرفة والنادرة،و…. ليست أشكالا قَاصِرةً. إنَّ مفهوم القِصَرِ/نقيض الطّول والاتساع والشموليّة لا يقصد به قصر النّص كمساحة كتابية على الورق والصفحة ، وإنما هو مفهوم بَلاغِيٌّ يتجدّرفي صميم التوصيف البلاغي لمفاهيم في مجازات الكلام ومحسناته اللفظية والبديعيّة مثل: ( القَصر ، الحَذف ، والإيجاز ، وتشبيه الجزء بالكلّ) بالمفهومية التي تنص عليها تقعيدات البلاغة العربية. لنأخد نصا مثل “حلم” ص 14 اِستيقظ الحاكم من حلمه مذعورا ، طلب كبير الوزراء ، وأمين السر ، قال لهما بصوت يشوبه الخوف :
- لقد رأيت فيما يرى الرائي ، أنني أسبح ضد التيار ، فنال مني الموج وغر.. قاطعه كبير الوزراء : - لا تكمل يا سيدي ، الأحلام دائما تفسر بعكسها هذا نص اعتمد تركيبا بلاغيا زاوج بين تِكنيكِ القصر والحذف :
- القصر : في جعل حلم الحاكم يفيد عكس معناه وذريعة القصر هي ( الأحلام تفسر بعكسها) كما يذهب في ذلك ابن سيرين في تفسير الأحلام. -الحذف :في نسخ منطوق بمنطوق مغاير له، وذريعة الحذف ( لا تكمل) “وهيَ نهيٌ” يفيد معنى الأمر.ويلجأ إلى قلب أوجد الحقيقة،ليصير الزيف يقينا واليقين زيفا.
1.2 الإيجاز صورة بلاغية تَنْظُمُ بناء نصٍّ مثل ” حديث طفل” ص52 قال أبي لأمي : “أنا أرى الليل في عينيك فجرا” لم أتذكر ماذا قالت أمي .لكنها مدت يدها وأطفأتِ النورَ. لجوء القاص في لغة سردية إلى المجاز الشعري المتمثل في منطوق (إني أرى الفجر في عينيك ) فتح المجال لبلاغة الإيجاز ( قِصَرُ اللفظ واتساع المعنى)/ رؤية الفجر في العينين معنى واسع يفيد نهاية حياة موسومة بالظلمة وبداية حياة مشرقة، أي حلول حياة جديدة بدل حياة موضوع النفي والرفض،وميلاد واقع جديد على أنقاضِ واقع يتهاوى. يعود الإيجاز في عبارة (مدت يدها وأطفأت النور) ليرسم للنص اتجاهين من حيث تشكيل المعنى.
(أ): اتجاه بدلالة سلبية تعني أن للأب صورة مثالية رومانسية عن الواقع والحياة تتعارض مع الصورة النقيض ،الصورة التراجيدية للأم وهي تطفئ النور ليحل الظلام ، معبرة عن فقدان الأمل في الحلم والتغيير.
(ب): اتجاه بدالة إيجابية حين نقرأ ( مدت يدها وأطفأت النور) كنوع من الإيحاء إلى معنى دالٍّ على الدعوة لممارسة الحب ، وبالتالي إخصاب الرحم وميلاد حياة جديدة . وأنا من حيث التأويل مع هذا البعد الدلالي الثاني ، لأن السارد في النص هو الطفل (الطفل) الذي يرمز لمعنى الميلاد والانبعاث ونشأة حياة جديدة .
2.1 تنبني كل نصوص المجموعة ( الحقية العارية) على مبدأ المفارقة بين الحقيقة والوهم ، كل نص يتشكل بما هو ( أطروحة وأطروحة نقيض )« Thèse/Antithèse » لنأخد مثلا نص ” برّ الضياع ” ص 61 ركب الموج يبحث عن أفق جديد . صارع ثم صارع لكي يصل إلى برّ أمان . لكن التيار كان أقوى منه ، وقاده إلى بر ضياع . المفارقة جلية بين الأطروحة (بر الأمان) ونقيض الأطروحة (بر الضياع) .مفارقة تعكس الصراع الذي يعرفه الواقع والوعي بين الحقيقة والزيف المفارقة تنعكس على نحو أشد تمثيلا وروعة في نص ” الحلم والخيال”/ ص 40 عاش يحلم ، ويروض نفسه على احتضان حلمه،وكأنه حقيقة مؤجلة إلى حين .ذات صباح اكتشف أنه هو أيضا كان مجرد حلم ورد سهوا في سياق الحقيقة. الحلم تكذبه الحقيقة العارية. كل المفارقات في النص تعكس دلاليا أن الكاتب يمتلك رؤيا تراجيدية للحياة والواقع والإنسان. في كل النصوص ينتصر الزيف على الحقيقة،تنكسر الأحلام على صخرة واقع مأساوي .تسود القيم المبتذلة محل القيم والمثل العليا،تهيمن رمزية الموت والألم على دلالة الحياة والفرح . هل هي نظرة سوداوية للحياة لدى محمد محضار ؟ أم هو فقط هاجس التمرد على واقع الزيف والكذب والأوهام لا يرى من الواقع إلا نصف الكأس الفارغة ؟
2.2 تستند هذه الكتابة القصصية إلى تشغيل زاخم لجمالية المفارقة ، وهو إجراء استطيقي يمنح حضورا بلاغيا قويا للتأليف (LaParadox) النصي القائم على طِباق العبارة وتضاد المعنى ،هذا نصّ يعكس بقوة هذا الحضور العارم لآلية المفارقة في كتابة النصوص . نص “لقطة من الحياة”/ص 25 دخل إلى أحد الدواوين الإدارية . وضع ملفه أمام الموظف المكلف، ابتسم الموظف وأشار بيده إلى غادة حسناء كانت تقف خلفه. نسج المفارقة جليّ الأبعاد : الابتسامة التي يراها السارد على وجه الموظف تولد بشارة حلم.لكنه حلم ينهار من وراء ظهر السارد حين تذهب الابتسامة نحو الغادة الحسناء. الدلالة واضحة: يريد الكاتب القول بأننا نعيش واقع الزبونية والمحسوبية والوصولية والارتشاء والمحاباة. كل المفارقات في نصوص المجموعة (الحقيقة العارية) تجعل الكتابة السردية أفقا دلاليا مفتوحا على الحضور القويّ ل (السخرية) لاباعتبارها تهكما سمْجاً ،بل كأداة نقد عنيف وقاس لمنظومة (L’ironie) القيم الزائفة في مجتمع موسوم بالكذب وإلغاء الحقيقة ونفيها. محمد محضارلا يجعل من السخرية أطروحة فلسفية في الحياة كما فعل سقراط المشهور بمبدأ التهكم السقراطي ما يقوم به هو تجريد الواقع من أقنعته ولبوساته الكاذبة ، إنه يشخص قصصيا واقعا مزريا عاريا بلا أوراق توث . إنه ليس شخصا طوباويا ولا كاتبا رومنطقيا حالما .. بل صوت واقعيّ حادُّ ،خشنٌ، صارم ، جارح، يُدين ولا يُدان.
3.1 يستلهم الكاتب عالمه القصصي من تربة الواقع الاجتماعي ، مجسدا صو الإخفاقات السياسية والوجدانية في هذا الواقع. إن عنونة المجموعة ب (الحقيقة العارية ) يتطابق مع مضمون عالمها الحكائي :نقد الأوهام السياسية ، فشل قطاعات مثل التعليم والشغل ، البيروقراطية،الفقر والعجز،جفاف المشاعرواندثارقيم الحب والوفاء، الخوف من المجهول والصراع التراجيدي ضد الموت والقدرية، ثم غياب جسور التواصل في الجسد الثقافي والاجتماعي كلها (تيمات) قوية الحضور في قصص المجموعة. ربما يظهر محمد محضار في هذه المجموعة مُغرَقاً في الواقعية إلى درجة أن بعض النصوص يمكن القول عنها أنها تخضع لتكنيك الانعكاس المروي بين النص ومرجعه الواقعي، أو هي ذات طابع تسجيلي كالنص التالي : ”أريد أن أتزوج” /ص21 رافقها كظلها منذ نعومة أظافرها، كان بصحبها كل صباح إلى المدرسة ، ثم ينتظرها عند الخروج ،سار على هذا النهج وهي تلميذة بالثانوي، ثم طالبة بالجامعة ، وأخيرا موظفة. ذات يوم قالت له وهي تنزل من السيارة: - أبي”أريد أن أتزوج” لكن الحكم ليس مطلقا إذ ثمة العديد من النصوص ذات أجواء شاعرية وتقوم على ارتقاء كبير من حيث درجة التخييل ونموذج ذلك نص “حكمة” /ص 64 قال لي أبي : ” اسمع يا ولدي ، إن النار تلد الرماد” لم أفهم قصده لأنني كنت غرّا اليوم أقول له : ” نم قرير العين فأنا كومة رماد بامتياز” ثمة أطياف متعددة لحضور مستويات الوصف المجازي واعتماد التلميح بدل التصريح،وصوغ المفارقات في قالب الاستعارة، واللجوء إلى التشبيه البلاغي. إنها مؤثثات تخفف من حدة الواقعة المؤطرة للعالم السردي في المجموعة.
3.2 نحن ننتسب إلى إرث ثقافي شفاهي ، لذا فإن الذائقة العربية القادمة من غور الثقافة الشفهية تحب الإطالة والاستطراد. ولا زلنا بعد لم نألف الأشكال الومضية الإشارية مثل (القصة القصيرة جدا) . الفكر الشفاهي يحب المعلقات المطولة ، والسير ذات الأجزاء المتعددة والملاحم ، والمرويات التي تتراكم فيها الأحداث وتزدحم بالشخوص مثل ألف ليلة وليلة أو الروايات التاريخية لجرجي زيدان. القصة القصيرة جدا تجعل وعينا بالزمن ينتبه إلى اللحظوي، الجزئي ، والنسبي والعرضي الذي تتخفى فيه الحقائق التي ينسجها الزمان المطلق والأبدية والقدر والتاريخ الكلّي . تقربنا القصة القصيرة جدا من وعي جديد بذاتنا، ينصت إلى تأثير قيم الزمن الصناعي الاستهلاكي زمن الالة والسرعة ، الأزمنة الفارغة من المعنى ، الحياة البشرية التي تشبه عملية ملء شبكة الكلمات المتقاطعة. إنها شكل تعبيري يلائم التعبير عن أزمنة التمزق والتفكك والعزلة. وبالنهاية فإن الشكل المنعوت بالقصة القصيرة جدا هو باستعارة عنوان المجموعة : الشكل المطابق للتعبير عن الأزمنة العارية من المعنى وفقدان القيمة: الحقيقة الوحيدة التي تقولها كل نصوص المجموعة هو أننا ضحايا واقع تغيب فيه الحقيقة، وبغيابها يُعلن موت الإنسان وعدمية الواقع . هل نوافق الكاتب في أطروحته هذه؟ من رأيي : الجواب هو نعم، واقعنا اليوم يقول ذلك كما تؤكده المجموعة القصصية : - الحقل السياسي الخلاق صار مجرد “شعارات ” - الأحلام تتحول إلى كوابيس - الحب اختزل في علاقة مقايضة مادية - الانسان نفسه تحول إلى جثة هامدة - غياب القدرة على الإبداع وموت الأنسنة - حدوث شرخ كبير بين الانسان وذاته أفضى إلى اغتراب جلي عن هذه الذات الحياة كما يراها محمد محضار يمكن القول أنها “عازفة الليل” حيث تحضر الحلكة ويسود الظلام وأستعير هنا الجواب من النص الوارد في ص 28: إنها عازفة بارعة ، تعزف لموزار ، وبتهوفن ، وباخ لكنها تحرمني متعة النوم كل ليلة!

محمد علوط

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى