محمد عبد الحليم غنيم - وراء النافذة

كانت بعجيزتها الضخمة ، وجسدها المترهل ، تملأ المقعد العريض الذى كان فى الأصل طبلية صغيرة تكفى لعرض أطباق طعام شخصين، علت سطح هذه الطبلية وسادة ترهلت وتدلت أطرافها من كثرة جلوسها ،أما هى فتتدلى قدماها إلى الأرض لتستقر بالكاد فى فردتى شبشب اسفنجى ، ومن أعلى تخفى شعرها الأبيض خلف غطاء لا لون له ، لكنه يميل إلى اللون الأسود ، يبدو وجهها الأبيض وقد علته بعض قطرات العرق مثل رغيف خبز ينقصه السواء، عيناها غائرتان ومخبئتان خلف نظارة رمادية تلسبها ليلاً ونهاراً ، تحمل فى يدها عصا طويلة تستخدمها عند القيام من المقعد لدخول الحمام ، ولضرب القط الذى يفاجئها دائماً بالمرور من بين قدميها ، فتضطرب وتصرخ مهددة بالعصا ، التى دائماً ما تخطئ إصابته ، وتستخدمها أحياناً فى الطرق بها على حافة النافذة التى تجلس خلفها ، وأشياء أخرى وعند ذلك يأتى صبى المقهى أسفل المنزل ، وكأنه كان ينتظر هذه الطرقة ، فيصعد السلم الخشبى الضيق ، جرياً ومع ذلك يزيق الخشب تحت قدميه ويلبّ ، وسريعاً ما يكون أمامها وهو يقول ناظراً فى خجل تحت قدميه ، دون أن ينظر إلى أعلى حيث يبدو جسد المرأة تحت الثوب الذى ترتديه على اللحم باذخاً وثرياً ، فما من مرة نظر فيها الصبى خلسة إلا و رأى شيئاً من جسدها ، عنقها الضخم و كأنه مصاب بالورم ، أو منطقة ما بين الثديين ، حيث تتخفف فى معظم الأوقات من ارتداء حمالة الصدر، أو جانب من الثدى فى بياضه الناصع ، أما فى الأسفل فيتأمل االصبى سريعاً ساقى المرأة ، يقول الصبى :

أمرك يا ستى .

ولم تكن أبداً سته ، إنها زوجة المعلم الكبير ، الذى يرقد الآن مشلولاً ، فوق سرير حديدى قديم و يتدثر بلحاف قديم صيفاً وشتاءً ، تفوح منه فى معظم الأوقات رائحة البول المختلطة بالدخان ، فتبدو مثل رائحة مياه النرجيلة ، هو يكره هذه الرائحة . ينظر الصبى جانياً ، فيسمع نحيبا خافتا ، يعلم تماماً ، أنه نحيب سيده ويعلم أيضاً ، كما رأى فى مرات عديدة ، أنه من أثر العصا التى تحملها المرأة فى يدها الآن ويخشى جداً أن تضربه بها ، لذلك هو متوجس جداً ، ولن يجعلها تطوله مثل القط ، من جديد . يقول :
– أمرك يا ستى .
فترد على الفور ، وهى تميز من الغيظ .
– ألم تسمع يا بأف .
وعندما لا يجيب الصبى ، تكتشف المرأة أن جزءاً من جسدها الباذخ كان معروضاً بثراء أمام الولد ، فتلم الثوب فوق صدرها ، وتشد الجلباب إلى أسفل وتبتسم لنفسها وهى تنظر باحتقار للراقد فى السرير تفوح منه رائحة البول النتنة ، وعند ذلك تكتشف أن الراقد كان ينظر إليها أيضاً ، لكن ثمة فرق بين النظرتين نظرة الراقد بين الحياة والموت مطفأة عيناه على حقد وضغينة ، ونظرة هذا الصبى الذى لم يتجاوز الثامنة عشر وقد خط شاربه والتمعت عيناه وهو ينظر إليها ، تعلم أنه يخفى وراء عينيه الخجولتين ونظرته المنكسرة رغبة فيها ، تعلم ذلك تماماً . يتهدج صوتها وهى تقول فى لهجة حانية هذه المرة .
– الغذاء اليوم سمك ، عندنا ضيوف .
تلتقى عينا الولد بعينها وقد بدأ يسترد رباطة جأشه .
– أى خدمة أخرى يا ستى .
– ليفة جديدة ، سأحمى معلمك قبل مجئ الضيوف وعليك أن تساعدنى .
ينظر الصبى إلى الأرض فى خجل تام هذه المرة ، ويتذكر قصة الصبى السابق الذى نزل مسرعاً بعد مساعدة المعلمة فى تحميم المعلم ، وأصر على عدم البقاء فى المقهى ، وعدم الصعود إلى المعلمة مرة أخرى. يعلم تماماً هذه القصة وما بها من مبالغات زبائن المقهى و تخيل نفسه مكان هذا الصبى ، وقال لنفسه لن أهرب ، وعند ذلك نظر إلى جسدها الثرى تحت الثوب الوحيد ، وقال فى حدة وتحدٍ
– حاضر
ثم نزل مسرعاً . وهو يسمع خليط من نحيب المعلم وصياح المرأة .
– أوعى تتأخر .. قبل الليل ما يلييل .



* وراء النافذة
د. محمد عبد الحليم غنيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى