علي العماري - الأمثال العامية في الحياة السودانية

لست أعرف في الفنون الكلامية فناً أدل على حياة الأمة وأصدق تعبيراً عن خوالجها وميولها من الأمثال العامية، فقد يصدق الشعر عن حياة الأمة وقد يكذب، وقد تصطبغ الرسالة والمقالة بطابع الأمة، وقد تقعان بعيداً عن هذا الطابع، أما المثل فمن الأمة وإلى الأمة، لا يعبر إلا عن آلامها وأفرحها، ولا يصور إلا نوع حياتها التي تحياها، بل هو كثيراً ما يصور دقائق هذه الحياة، ويصل إلى أبعد أعماقها. وإذا كان الشعر يدور حوله في حدود ضيقة، ويقتصر على طبقة خاصة من الشعب، فإن المثل هو العملة الكلامية الوحيدة التي يتعامل بها جميع الأفراد، فالمثل الذي يستشهد به الأستاذ في درسه، أو القاضي في محكمته، أو الحاكم في إدارته، هو المثل نفسه، بلفظه ومعناه، الذي يلقيه الفلاح في غيطه، والصانع في مصنعه، والراعي خلف إبله أو غنمه، والمثل في كل ذلك لا يفقد شيئاً من قوته ودلالته. فهو يهدي إلى الطريق، ويحمس الجبان، ويدفع البخيل إلى الجود، ويبلغ في أثره ما لا تبلغه القصيدة من الشعر. والأمثال إنما تنشأ من التجارب، وربما عبرت عن الحقائق الإنسانية الكبرى، وهذه الحقائق من القدر المشترك بين كثير من الأمم، لذلك نجد أمثالا شائعة معروفة في أمم مختلفة، تتشابه في المعنى، وفي الغرض، وتختلف في طريقة الأداء، فيبدو في أدائها مزاج الأمة فالأمم وطبيعة حياتها، الزراعية مثلا يتكون كثير من أمثالها من كلمات زراعية. . وهكذا.

وقد تتقارب حياة أمتين أو اكثر تقاربا كبيراً وتشتبه في كثير من الأمور، فنجد أمثالاً غير قليلة متشابهة عندهما، وربما اختلفت هذه الأمثال أيضاً في طريق أدائها، ولكن اختلافها حينئذ يكون أقل، وبعض الأمثال خاص ببعض الأمم لا تجده في غيرها، نتيجة لظروف حياتها الخاصة.

والباحث في أمثال أمة من الأمم ليستدل منها على حياة الأمة، وفلسفتها الخاصة، يحتاج إلى جهد كبير حتى يكون بحثه وافياً شاملاً؛ فهو في حاجة إلى أن يستقصي الأمثال، ويجمعها كلها، ثم ينظر فيها على ضوء ما يعرفه من المظاهر المختلفة في حياة الأمة، من أخلاق وعادات وتقاليد، ويرجع كل مثل إلى جدوله الذي انفصل منه، وسوف يجد في النهاية - إذا كان دقيق الموازنة والاستقصاء قوي الملاحظة - أن الأمثال صورة صحيحة لكل ما يجري في عروق الأمة من عواطف وميول، وما يحيط بحياتها من مد الأيام وجزرها ولكن ليس ذلك في استطاعة باحث عابر، يكتفي بالإشارة، ويقتصر على النموذج والمثل.

ولا شك أننا نستطيع أن نستخرج كل مظاهر الحياة السودانية من الأمثال العامية. ولنعط القارئ على ذلك أمثلة قليلة لهذا النهج من البحث، فالمثل السوداني الشائع (ود العرب دولته يوم عرسه ويوم طهوره) يعطينا فكرة صحيحة عن العادات السودانية في الأفراح من إقامة الاحتفالات أياماً عديدة، يكون فيها العريس موضع الجلة والاحترام من الجميع رجال ونساء، ويكون مخدوما مطاع الكلمة حتى أنه يتخذ لنفسه وزيراً يكون له عوناً في جميع أموره، ويستشيره في الصغيرة والكبيرة منها، ويكون للعريس دالة على أقربائه وأصدقائه لا يحلم بها بعد اليوم من حياته، وفي ذلك يقول الشيخ عبد الله عبد الرحمن مهنئاً أخاه أحمد وذاكرا هذه العادة:

هات اسقني حلب العصير ... حمراء كالخد النضير

وادع الخلاعة والصبا ... واهتف بحي على السرور

وأقم لأحمد من بي ... وت الشعر أمثال القصور

كاد العريس يكون مل_كا في مواتاة الأمور

أو ما تراه ملقيا ... بهمة نحو الوزير

فكأنه في وقته ... رب الخورنق والسدير

ومع دلالة هذا المثل على هذه العادة فإنه يحمل كثيراً من الحسرة الكمينة في نفوس القوم، ويدل على ما يكابدونه من مضض تأسفا على المجد الضائع، والدولة الزائلة. وهل أدل على الحسرة والألم من أن (ود العرب) لا دولة له، ولا صولة إلا في هاتين المناسبتين، يوم عرسه، ويوم طهوره.

والرقيق كان منتشراً في السودان، تعرف ذلك من أمثالهم الكثيرة فيه، وتجارته في بعض الأحايين كانت غير رابحة، والمثل يقول: تاجران لا يربحان، تاجر الهف، وتاجر الكف، والهف الحبوب، والكف يريدون بها الرقيق، وثمن الرقيق - في بعض الأوقات - كان زهيداً جداً، بدليل المثل: (فكة ريق، أخير رأس رقيق) وفكة الريق، الطعام القليل الذي يتناوله الإنسان في الفطور.

وتأخذ أمثالهم في الصديق، فنؤلف منها قواعد وأصولا وأسساً تقوم عليها الصداقة الحقة، ولهم عناية بهذه الناحية لأن الصداقة من الأمور اللازمة لحياتهم، فأهل السودان أكثر الشعوب مجاملة - فيما أعرف - وقياماً بالواجب، وهم لا يفرطون في شيء من ذلك في الأفراح أو في غيرها. والكرم فيهم طبيعة غالية، والضيافة من الأمور العادية، ومن شأن كل هذه الأشياء أن تقرب بين القلوب، وأن تنشئ صداقات كثيرة، لذلك نجد لهم أمثالا كثيرة في هذه الناحية، وبالنظر فيها نجدها مصورة لكل ما يحيط بهذا المعنى الكريم (فالرفيق قبل الطريق). (وماية صاحب ولا عدو واحد). و (أيد على أيد تجدع بعيد) ومعنى تجدع تقذف، و (العود الواحد ما بيوقد نار) كل هذه الأمثال ترغب في اتخاذ الصديق، وتحبب في الإكثار منه، ولكن هل يصادق الرجل كل الناس؟ لا. (فالخلا ولا الرفيق الغسل) فليتحمل المرء وحشة الخلاء، وما فيه من متاعب، فإنه خير له من أن يزامل رجلاً بخيلاً لا مروءة له، ولا رجولة فيه، ولا معاونة ترجى منه (وخصام الرجل الدكر، ولا صحبة الرجل الأصنينة) والأصنينة: الجبان، وصحبته عار، ولكن خصومة الرجال الأحرار شرف وأي شرف. فإذا اختار الإنسان صديقه، ووفق في اختياره، فليحمله كنفسه، والمثل السوداني يقول: (ربك وصاحبك ما عليهم مدسة) وليحافظ على صداقته ما استطاع، ولا يطمع في شيء من ماله أو نفسه (فالطمع على االرفيق أخير منه القماح) وليهن إذا اشتد (فالحبل بين فاضلين ما ينقطع) وعلى الإنسان أن يعرف أن الصداقة تحتاج إلى كثير من المصابرة، وأن الأصدقاء ليسوا ملائكة، وأنه يجب ألا يحاسب أصدقاءه على الصغيرة والكبيرة، فإنه حينئذ لا يجد صديقا، وهذا معنى المثل السوداني (اللي ما يبلع ريق على ريق ما يلقى رفيق) وفي معنى هذا المثل طال كلام العرب شعرهم ونثرهم:

إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت، وأي الناس تصفو مشاربه

ولعل من أبدع ذلك ما بعث به أحد الكتاب إلى صاحبه منذ ألف سنة يقول: (فأما الإنصاف في الصداقة فهو ضالتي عند الأصدقاء ولا أقول:

وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يرق وبصفو أن كدرت عليه

فإن قائل هذا البيت قاله والزمان زمان، والأخوان إخوان، وحسن العشرة سلطان، ولكني أقول: وإني لمشتاق إلى ظل:

رجل يوازنك المودة جاهدا ... يعطي ويأخذ منك بالميزان

فإذا رأى مثقال حبة خردل ... مالت مودته مع الرجحان

وقد كنا نقترح الفضل، فأصبحنا نقترح العدل؛ وإلى الله المشتكى لا منه).

هذا، وإنا لنجد في الأمثال السودانية ظاهرة بيانية طيبة هي ميلها إلى التشبيه في بعض الأحايين، فمن أمثالهم (الإبرة ما بتشيل خيطين، والقلب ما يسع اثنين) فالمقصود من المثل هو الجزء الثاني، ولكن جاءوا بالأول ليدلوا به على صدق الثاني، وأنه من غير الممكن أن يسع القلب أثنين، وأنه من غير الممكن الذي يشاهده كل إنسان أن الإبرة لا تسع خيطين. ومن أمثالهم (رفيق اثنين كداب، وراكب سرجين وقاع، وماسك دربين ضهاب) فالمقصود تصوير حال المنافق الذي يجمع في الصداقة بين اثنين مختلفين، متماديين، ويزعم لكل منهما أنه صاحبه، والأثير عنده، فهذا كذاب، وهو شبيه بمن يركب سرجين، أو من يسير في دربين، فهذا كثير الضلال، وذاك كثير الوقوع، ومنها (صاحبك أن أباك قلل عليه الحوم، وباطنك أن وجع كثر عليه الصوم) لا شك أنهم يقصدون إلى أن ينصحوا في شأن الصاحب، حين تظهر منه الكراهية والتجنب، وأن خير علاج لهذه الحالة أن يقلل الإنسان من الاتصال به، فإن ذلك أدعى إلى أن تعود بينهما الألفة، وهم يذكرون تشبيهاً صحيحاً حسناً لهذه الحالة، فالمعدة إذا فسدت لا يصلحها إلا الإقلال من الطعام، وهو تشبيه متطبق غاية الانطباق، كما يلاحظ أن التشبيهات كلها إنما هي تشبيه المعاني المعقولة بالأمور المحسة، وذلك من أفضل ألوان التشبيه وأوفاها بالغرض. على أنهم في هذه الحالة قد يدقون ويبلغون غاية الأمد، حتى ليجعلون المعنى بارزاً واضحا، حين يقرنونه بالمشبه به، فقد نقول الفاجرة لا تتوب، ولكن كلامك يكون في موضع الشك والتردد، فإذا قلت كما قالوا (الماء ما بتروب، والفاجر ما بتوب) بلغت بالمعنى غاية الاستحالة، فلم ير إنسان الماء وقد راب، ولا يطمع أن يراه كذلك، وهذا شيء مستقر في العقول والقلوب، فليستقر فيها كذلك أن من المستحيل أن تتوب الفاجرة.

وفي الأمثال الوطنية فلسفة عميقة في بعض الأحايين، تحتاج إلى تأمل، وتستدعي الإعجاب، فمن أمثالهم (العترة تسمح المشي) يضرب للرجل يستفيد الصواب من خطئه، لأن السائر حين يعثر يتنبه لنفسه، ويسير سيراً صحيحاً، و (الفاس ما بتقطع عودها) و (الحتة العفنة تعفن اللحم كله) و (اللي وراه المشي أخير له الجري) و (يا حافر حفرة السوء وسع مراقدها) و (الجمل ما بيشوف عوجة رقبته) وهي أمثال ظاهرة المعنى وفيها عمق كثير.

وبعد فهذه لمحة صغيرة في الأمثال العامية السودانية، على قدر ما يسمح به مقال في مجلة، وإني استحضر لهذه المناسبة المثل السوداني (على قدر غطاك مد كرعيك).

علي العماري
المعهد العلمي - أمدرمان

مجلة الرسالة - العدد 899
بتاريخ: 25 - 09 - 1950

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى