عبد القادر وساط - من طاغية نجدان إلى وزير الشعر

السلام عليك ورحمة الله، وبعد
فاعلم أني قضيت ليلة البارحة أنظر في السُّمُوط، وهي السبْع الطوال، أو السّبْعيات، أو المذَهّبات، أو المعلقات، كما سمّاها حمّاد الراوية. وقد بتُّ أمعن النظرَ في تلك القصائد، وأرى كيف كان الشعراء يُكثرون فيها من ذكر أسماء الأماكن والقُرى والجبال والمياه. فلما طلع الصباح، دعوتُ بعض شعراء نجدان وسألتُهم عن تلك المواضع المذكورة في المعلقات، في أي بلاد هي، فلم يجبْني منهم أحد. وقد أمرتُ باعتقالهم جميعا وبتسييرهم إلى سجن الكثيب دون إبطاء. إذْ لا يَكون شاعراً عندي من يجهل " جغرافيا المعلقات."
وقد استقر رأيي، أيها الوزير، بعد طول تفكير، على أن تسافر في أقرب الأوقات إلى نجد والحجاز وإلى أرض البحرين وإلى باقي المناطق التي عاش فيها شعراء المعلقات. وذلك لكي تعدّ لي تقريرا وافيا كافيا، بالنص والصورة، عن الأماكن المذكورة.
وسوف تبدأ - بتوفيق من الله - بالأمكنة التي ذكرها امرؤ القيس في معلقته، ومنها الدَّخُول وحَوْمَل، حين قال:
قفا نبْك من ذكرى حبيبٍ و منزلِ = بسقْط اللوى بين الدَّخُول فَحَوْمَلِ
فقد سمعتُ أنهما موضعان قرب جبَل يسمى أسود العين. ولعلك تعلم أن خصمنا الأصمعي كان يروي الشطر الثاني من البيت هكذا ( بسقط اللوى بين الدخول و حومل ) ويرفض ( فَحَومل) لأن المنسوق لا يكون بالفاء. ولكن خديمَنا الفرّاء - رعاه الله - أجازه فقال: " بين الدخول فحومل، معناه فأهل حومل.
ولكن دعنا من هذا الآن. إذْ سيكون عليك أن تستطلع موضعين آخرين، هما تُوضح والمقْراة، لأن الملك الضليل ذكرهما في بيته المشهور:
فَتُوضحَ فالمقْراة لم يَعْفُ رسْمُها = لمَا نسَجَتْها منْ جَنُوبٍ و شَمْألِ
وهناك من يزعم أن المقراة غدير يجتمع فيه الماء، فياليت شعري هل بقي فيه ماء حتى يومنا هذا؟
وأريدك بعد ذلك أن تذهب إلى الموضع المسمى " ثهْمد"، الذي ذكره الغلام القتيل في معلقته حين قال:
لِخَوْلةَ أطلالٌ ببُرْقَة ثَهْمَدِ = تَلُوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ
ثم إلى الموضع المسمى " دَد "، وهو الذي جاء في قول طرفة:
كأنّ حُدوجَ المالكية غُدْوةً = خلايا سَفينٍ بالنواصف منْ دَدِ
وبعدها تزور الرقمتين، اللتين ذكرهما زهير بن أبي سُلمى في معلقته، حين قال:
ديارٌ لها بالرّقْمَتَيْن كأنها = مَراجعُ وشمٍ في نَواشرِ مِعْصَمِ
وقد زعم الأصمعي أن إحدى هاتين الرقمتين توجد قرب المدينة وأن الثانية قرب البصرة، ولكنني لا أحب آراء الأصمعي، بل أميل إلى الكلابي القائل بأن الرقمتين معا توجدان بين جرثم وبين مطلع الشمس بأرض بني أسد. فحذار - أيها الوزير- أن تعود من سفرك دون أن تجيئني بالخبر اليقين. واعلم أن جرثم هذه، التي تحدث عنها الكلابي هي نفسها التي ذكرها زهير في معلقته:
تَبَصّرْ خليلي هل تَرى منْ ظعائنٍ = تَحَمّلْنَ بالعلياء منْ فوق جُرْثم
وسيكون عليك أيضا أن تبحث عن الجِواء الذي ذكره عنترة في البيت الثاني من معلقته:
يا دارَ عبْلة َ بالجواء تكلمي = و عمي صباحاً دارَ عبلة و اسْلمي
فإني أحسب أنه البلد الذي يسميه أهلُ نجد " جواء عَدْنة". ولا تنس، بعد زيارة الجواء، أن تذهب لتأتيني بالأخبار عن المكان المسمى " عُنَيْزَتَين "، حيث كان يتربع أهل عبلة - أي يَنزلون في الربيع - ثم عن " الغيلم "، حيث كان يحل أهل عنترة، كما يبين هو نفسه ذلك في قوله:
كيف المَزارُ و قد تربعَ أهلُها = بعُنيزتين و أهلُنا بالغيلم ِ؟
ولا مفرّ أيها الوزير من استكشاف الماء الذي ذكره عنترة في البيت الثامن والعشرين من معلقته، وهو المسمى ماء الدُّحْرُضَيْن:
شربَتْ بماء الدحرضين فأصبحَتْ = زوراءَ تنْفرُ عن حياض الدّيْلَمِ
وهناك من يقول إنهما ماءان: دُحْرُض ووسيع، فلما جمعهما عنترة غلّبَ أحدَ الاسمين، كما تَقول " القمران " وأنتَ تريد الشمس والقمر. وكما تقول " البصرتــان " وأنت تعني البصرة والكوفة.
وأريدك أن تقوم أيضا بزيارة لقرية الأنْدَرين، وهي قرية مشهورة بخمورها، ذكرَها عمرو بن كلثوم في مطلع معلقته :
ألا هبّي بصحنك فاصْبَحينا = و لا تُبْقي خمورَ الأنْدرينا
ولا تكن مقصّراً في بحثك عن " قاصرين "، التي قال عنها عمرو بن كلثوم:
و كأسٍ قد شربتُ ببَعْلَبَكّ = و أخرى في دمشقَ و قاصرينا
أما الأمكنة التي ذكرها الحارث بن حِلِّزَة في معلقته، فهي كثيرة ولن أفصلها لك في كتابي هذا، ولكنني أنتظر منك تقريرا مفصلا عنها هي أيضاً.
فإذا أنتَ انتهيتَ من زيارتها ووصفها وتصويرها، فبادر إلى استكشاف الجبال التي ذكرها أبو عقيل، لَبيد بن ربيعة، في معلقته، ومنها الغَوْل والرجام:
عَفَت الديارُ محلها فمُقامها = بمنىً تأبّدَ غَوْلُها فرجامُها
وهناك من يرى أن الغول ليس جبلا وإنما هو ماء معروف، وأن الرجام إنما هي حجارة تُجمع أنصاباً. فقف - أبقاك الله - في هذه المواضع المختلفة وتأملها وتمعن فيها واسألها عن أحوالها فإنها ستجيبك بكلام يتبينه الأذكياء، ولا تتمثل بقول لَبيد:
فوقفتُ أسألها و كيف سؤالُنا = صُمّاً خَوالدَ ما يَبينُ كلامُها
ولعمري إن من يتولى وزارة الشعر لدى طاغية داهية مثلي لَخليق بأن يكلم الجبال والهضاب والوديان.
فإذا قرأتَ كتابي هذا، فتجهز للسفر وابعث لي بقائمة الأشياء التي ستحتاجها في سفرك. وسأشرح لك، بحمد الله، كيف تستغني عنها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى