عبد الرحيم جيران - من وحي كتاب علبة السرد ... "من منكم يتذكر جنته الضائعة...؟"

عادة ما نحمل أجسادنا من مكان إلى آخر، قد نتحايل على الحركة حتى نمنحها ما يجعلها ذات هدف محدد، لكنّ هناك في الحقيقة شيئا ما خفيا وراء هذه الحركة التي تبدو وكأنها واعية بذاتها، بيد أنها ليست كذلك. هذا الشيء يتخذ هيئة سلسلة من الأحداث قابعة في الخلف، وتدفع أقدامنا- بعد أن نُكسبها الجرأة اللازمة- نحو الأمكنة المفتوحة أو المغلقة، والتي نترك فيها بقايا من ظلالنا بعد أن نغادرها أو نودعها. كل مرة نفعل ذلك، سواء أضبطنا ساعة علاقتنا بالمكان أم لا، نحول الحقيقي إلى كاذب، من دون أن نتنبه إلى أننا قد فعلنا ذلك. ولكي نفهم ذلك علينا أن نبسط القصة غير المروية لعلاقتنا بالمكان. ويمكن اختزال هذه القصة في عنوان، قد نغير في عبارته، لكن جوهره يظل كما هو. إنه الجملة الآتية: "البحث عن الجنة الضائعة". وليس ضروريا التدقيق في الاسم الذي يمكن أن نطلقه على هذه الجنة، اسم عدن أو غيره، لا يهم. كل مكان نتورط في البحث عنه، أو نسعى لأن نكون فيه، هو استبدال بكيفية ما لهذه الجنة الضائعة، وبعبارة محددة: الجنة التي ضاعت منا في لحظة موغلة في القدم من تاريخنا الشخصي، لحظة لم تكن بعد قد أدرجت بالنسبة إلينا في الزمن نفسه. المكان يجد دلالته في المسافة التي تفصل هذه اللحظة البعيدة جدا والوضع الحالي الذي يحتوينا. ليست هذه اللحظة لحظة الرحم- وإن كان من الجائز عدها امتدادا لها-، وإنما هي لحظة مكثفة تتمثل في زمن الرضيع الذي كناه، زمن التخفف، زمن ما قبل القاعدة والسنن. كل شيء كان متاحا لنا فيها، والكل يخدمنا، لقد كنا ملوكا أو ما يشبه ذلك. وقد كان المكان موصوفا بأنه الجنة، لا لأن كل شيء فيه كان موهوبا لنا من دون تعب فحسب، ولكن لأن الوحدة كانت تعمه أيضا، ولم يُصغ بعد وفق المسافة التي تؤسس للفروق بين الحدود (الأعلى والأسفل، السامي والمنحط، الراقي والوضيع...الخ). حين يتدخل الواقع من حيث هو فرق، ونطل على أمكنة اخرى في لحظات الرمز، لحظات الوجود بين الأقران، نشعر بضياع الجنة المفقودة، لأن التناقض بين موضع المهد ومواضع أخرى يُكذِّب كون المكان الذي كنا فيه سادة أرقى الأمكنة. ولأن المكان له صلة بتحديد هويتنا، فإننا لا نصدق أبدا كوننا لم نعد ملوكا، كوننا خلعنا، وصرنا غارقين في الشبه، مثلنا مثل الآخرين. في هذه اللحظة التكوينية؛ أي لحظة الدخول إلى الزمن من حيث هو مفصلة قائمة على السنن ونتاج للرمز، تنشأ تلك السلسلة التي تشكل علاقة الحركة بالمكان طيلة تاريخنا الشخصي. وتصير الحياة برمتها محاولة لاستعادة ذلك المكان الضائع من دون أن نفلح في ذلك، وتصير أيضا كل الأمكنة التي نمر بها مجرد استبدالات خادعة للمكان الأصلي الذي يُكوِّن رحلتنا في الحياة...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى