ناصر الجاسم - ابن الماء.. قصة قصيرة

حَسَـا شابٌ جميل، والجمال الذي في وجههِ جمالُ أنثى، والجمال الذي في جسده جمال ذكر، يعشق السباحة في نبع الخدود لحدّ الهَوَس، تراه في الصباح يسبح على ظهره وفي المساء يسبح على بطنه، وفي الليل يتقلب في السباحة من على جنبه الأيمن إلى جنبه الأيسر، وأحياناً يغفو نائماً على سطح الماء وسط إطار من المطاط منفوخٍ بالهواء، حتى سمّاه الناس ابنَ الماء، وأشاعوا حوله حكاية أنّ أمَّهُ ولدته في الماء عندما نزلت لتسبح في النبع فجراً وهي حامل به في شهرها التاسع، وكان مخاضها عسيراً، فغرقتْ وساحت عباءتها في مجرى نبع الخدود واحتجزتها أشجار العقربان الخضراء النامية على حافتي المجرى، وفي الصباح عندما وردتْ النسوةُ النبعَ للسقيا سمعنَهُ يصرخ في زاوية منه، فانتشلنه عارياً وألقمنه أكثر من ثدي، ونادتْ إحداهن زوجها الذي يسبح في النبع بعيداً عنهنّ ووهبها إزارَه كساءً له، وستر عريَه بالغوص ماشياً وسابحاً في مجرى النبع حتى وصل لبيته القريب.

وكانت أثداءُ النسوة تأتيه كلّ صباح ومساء حتى اكتمل نموُهُ، وقد أحبّهُ الفلاحون وتعهّدوهُ بالإطعام، فكانوا يرمون إليه- وهو راكـسٌ في ماء النبع- شماريخَ الرطب وقروص الخبز الأحمر التي يتلـقّـفها بساعديه الطويلين، ويرمون إليه التينات الصفر والليمونات الخضر والأترجّاتِ والبرتقالاتِ وعناقيدَ العنب الأحمر والرمانَ السواري والخوخاتِ والمشمشات والباذنجاناتِ والبامياءَ والفاصولياءَ البيضاء والبطيخَ الفريدوني وهم فوق عربات الكارو التي تجرّها الحمير البيض والسمر، حتى غدا نبعُ الخدود مائدةً له ولغيرِهِ من الفقراء الذي يسبحون معه أو يعلّمهم السباحةَ، وقد كان يعلم الأطفال السباحة مجاناً، وليس الأطفال الأصغر منه سناً فحسب، بل يعلم حتى من هم يكبرونه، وإذا ملّتْ نفسُه طعام الفاكهة والخضروات أخرج بندقيةَ صيدهِ الهوائية التي يدفنها تحت الثرى ويضع فوقه أشواك نبات العاقول الإبرية قريباً من وسادته الوحيدة عباءَةَ أمِّهِ حيث مكان نومه العميق وحلمه المتكرر بظهورها إليه من قاع النبع وهو يسبح فيه.

أخرج بندقيته واصطاد بها طيور الأوز المهاجرة، أو طيور البطّ البري التي ترِدُ إلى النبع، أو تناول نبـّاطتَهُ التي تكون عادةً قريباً منه مطروحةً على أي مكان من حواف النبع، وألقمها حجراً صغيراً وأصاب به مقتلاً من بلبل أو عصفور كائنٍ فوق نخلة أو شجرة تسقي من ماء النبع، وأقام لنفسه حفلةَ شواء صغيرةٍ، نارها من يباس الأشجار التي حوله، ودعا إليها كل من كان في النبع يسبح، وإن وجد مائدتَه غيرَ كافيةٍ زادها فوراً- بالغطس في النبع- بالسمكات الصغيرات التي يصطادها من أذيالها بيديه عندما يغوص عميقاً في قاع النبع، وقد يقتنصها قنصاً من بين أسرابها الصغيرة التي تعوم جماعات فوق سطح الماء أو قريبا منه.

أنقذ حسا كثيرين من الغرق في نبع الخدود، أنقذ المجنونة أمَّ عين، التي تغطي عيناً واحدة من عينيها عن الناس بغطاء من القماش الأسود وتفتح عينها الثانية لتخوف الأطفال الذين استدرجوها إلى هناك لتقع في النبع انتقاماً منها، ثم تضطرّ لكشف عينيها كلتيهما فيخافون منها أكثر ويهربون.

وأنقذ الأعرجَ عامراً مع حماره الأبيض الذي تحلّ عصافيرُ الدوري فوق ظهره العريض وتلقّط بمناقيرها الحشراتِ منه وتنظّفه، وذلك بعد أن كان منقلباً في النبع على ظهره ويحرّك قوائمَهُ الأربع للأعلى، فما كان من حسا إلا أن عدّل هيئته وخرج به إلى السطح راكباً فوق ظهره المريح وهو محتفظ بصبغة الحناء التي صبغها به عامر.
وأنقذ الأعمى بداح الذي أخطأ في عدّ خطواتِ قدميه بخطوةٍ واحدةٍ زادها نتيجةَ سماعه ضحكة حلوة لفتاةٍ تسبح في النبع مع صديقاتها، فما كان منه إلا أن ينزلق في النبع لتتلقّفَ جسدَهُ يدا حسا المشعرتين.

وأنقذ أيضا بقرة البريدي التي وضعت لتوّها عجلين اثنين سمينين، والتي أغرتها حزمُ الحشيش الطرية الطافية فوق سطح النبع بعدما جهّزها الفلاحون لتسبح في الماء إلى زرائب الحيوانات المشيدة على امتداد مجرى النبع الطويل لتجد في طريقها من ينتشلها من الماء ويدخلها إلى الزرائب، فما كان من بقرة البريدي إلا أن ركضت إلى تلك الحزمِ فسقطتْ في النبع غارقةً وأخذتْ تدور فيه وحزمُ الحشيش تدور معها دون أن يطالها فـمُـها، لينقذها بعد ذلك حسا بدفعها من ردفيها العريضين إلى السطح بيديه القويتين، وقد هيأ لها في الأعلى حزمة من العقربان، وجعل حليبها الكثير سبيلاً لواردات النبع والمارة.

وأنقذ دجاجاتِ أمِّ عويشير البيّاضاتِ على الشرط التي تدحرجتْ في مكبـّـتها من فوق سطح سيارة الأجرة وسقطتْ في النبع بسبب منعطف الطريق الحاد قبل أن تصل لسوق الخميس لتُباع هناك.

وإذا احتاج حسا للمال رضيَ أن يغادرَ النبعَ لدقائق يكتريه أحدُ الفلاحين الطاعنين في السن لينظّف مجرى الماءِ الذي يسقي بهِ نخلَهُ من الحشائشِ النابتةِ فيه بمحشّه الذي يخبئهُ في جوف شجرةِ السدر العظيمةِ النامية عند النبع، والتي تظلّل السابحين فيه وقتَ الظهيرةِ في فصل الصيف.

وقد كان حسا طيباً جدا لحدّ أنه يسكّنُ حركةَ جسده في النبع عند حلولِ الغروب، ويرضى بصفوفٍ من الضفادع النهرية تصطفّ على ظهره وتتزاوج وتمارس النقيق وتقفزُ من فوق ظهرهِ إلى الماءِ وتعود إليه، وكان يفقهُ أنها تسبّح الله، وأنها تصلي على سجادةٍ طاهرة هي جلدُ ظهره.


الأربعاء 6 شوال 1439هـ 20 يونيو 2018م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى