علي السباعي - النافذة.. قصة قصيرة

إنَّ نافذة في جلدي قد أشرعت. ظلت تبرق أملاً، وتتزود بشيء من ذلك الحب النابع من كون البؤس في ظروف واحدة واحداً رغم تغير المكان. نافذتي شفافة كالزجاج سرعان ما تتهشم بحجارة يطلقها طفل ما لأنه قد رام التخلص من سقمه بقذفه حجارة، ولا يعلم مكانها أحد حتى أنا، قد تكون المجهول! ذلك المجهول الذي يطل على الماضي ليبشر الحاضر ويزف لـه نبوءة ما! أو عروس تنتظر موعد زفافها بلهفة! آنئذٍ تلتمع بها كؤوس من ارتعاشات الحب فوق مائدة الحلم الوردي، وأرى القمر أصبح أبيض كمصباح يغفو فوق زجاجة والزجاجة هنا الليل ـ الحب ـ الخيبة! ليطل من شعاع المصباح ومن خلال كؤوس اللذة عند مائدة الحلم، امرأة عجوز سوداء في السابعة والستين، لها عينان صغيرتان وحشيتان تغطيهما حواجب بيضاء كثة. تتدلى خصل الشعر الأبيض لكلا الحاجبين على عينيها ليمنحانهما شيئاً غامضاً. ربما يكون ذلك الغموض طلباً جميلاً يجعل هنالك ترابطاً واضحاً بين الطفولة وخيباتها والكؤوس الفارغة وارتعاشات الأيادي وهي تطلب المزيد من نادل الحياة، القدر. تخاطبني بصوت ضعيف يصدر من أحد مقاعد المائدة الوردية، صدر متماسك كالصلب إلا أن حبلاً مجنوناً التف حول عنقي كالأفعى بالتفافها حول الرقبة، فتجعل الدماء تتزاحم وتعربد في عروقي عند الرقبة كأنها تقول:
ـ أراك خائباً يا فتى.
شيء قد طفح في عيوني فجأة. إذ أشاهد خيطاً رقيقاً قائماً من ضياء القمر يلوم في عينيها متقداً مظفراً بالذي قد فعل بي سؤالها ويداها الكبيرتان ترتجفان بوهن، لأقول لها بخيبة الذي خسر حبيبته بخجله المفرط:
ـ أجل إنني خائب.
تبحث بوجهي علها تجد شيئاً ضائعاً تستطيع العثور عليه بوجه فتى خائب، تحدق فيه، تتبحر فيه، تتعمق فيه كأنها نسيت ماضيها كله في وجهي أو في عيوني، كما تقول أمي لي دائماً مداعبة إياي: لك عيون جميلة كأنهن عيون فتاة هندية!
عيون المرأة رجعت خائبة غير مشرقة رغم وحشيتها، تراجعت صوب جفونها مندثرة متأثرة برؤية ماضٍ أو بؤسٍ كانت قد وجدته في وجهي، لتقول بعد طول تبحر في صفاء وجهي وباستفهام:
ـ لماذا أنت خائب؟
أجبتها وكأني حمامة حاصرها صياد ماكر بشباكه الخفية، فأهرب محلقاً في ذلك الفضاء الشاسع بعيداً عن المادة، والتماعات الكؤوس الفارغة: خضت غمار تجارب كبيرة وعملاقة لكن! ما الفائدة؟ كل الذي حصلت عليه هو... أللاشيء، وها أنتِ تضيفين شيئاً جميلاً ألا وهو خيبتي.
سرحت ببصرها كذاك الصياد الذي فرت منه حمائمه البيض جميعها، لأن عصفوراً أسود اللون قد مزق شباكه كلها، وفرغت جميع تلك الكؤوس من بؤسها، وتحركت المائدة الوردية ساعتها لكونها تخلصت من بؤس قيد تلك الحمائم البيض، قالت كأنها عثرت على قدح يحتوي على حمامة بيضاء واحدة قد كسرت أجنحتها وجعلتها خائبة ترقب الآتي: الأمل في الحياة شيء رائع ومؤنس، بالرغم من كونه يعطي للنفس دفعات من القوة إلا أنه وهم.
تستطرد قائلة:
- في العالم أفضل شيء هو كؤوس ممتلئة، وأمل وهم

تتابع وعيناه الوحشيتان تضطربان بالذكريات والخيبة:
يا فتى أتعرف الأمل الوهم؟
أطأطئ:
ـ رأسي خجلاً، وكأن شعري الأبيض قد تحول إلى سياط تلهب يأسي وخيبتي بحيث يجرجرانهما إلى الخارج، حين ذاك يجلد كل من يأسي وخيبتي بسياط تجعل الماضي يتلاشى مع صفعات الهواء العنيفة حينما يلامسهما السوط صافعاً، ومع ذلك رحلت عيونها بعيداً عني ولم أجبها.
الكؤوس تُملأ من جديد، والمائدة الوردية عامرة بالخيبة كقصر عامر بالخدم، وتعيد كل تلك الأيام خيباتها وتدلقه دلقاً في باحة القصر عند المائدة، لتقول مستفهمة ومن جديد:
ـ يا فتى لماذا خرجت خائباً هكذا كما أشاهدك أمامي؟
حنان فياض قد دحر نظراتها الوحشية جعلها تسكر حد الثمالة، ثم جرجرها ذلك الحنان مشبعة بالخيبات فتضطرمان من جديد بحنان واسع أود توسده وإلى الأبد,. أتوسد في عينيها ذلك الدفء الرائع وتلك الرموش التي تدغدغ صدري بلذة لأقول بلوعة:
ـ خرجت من الحياة الآن وأنا أطلب عيونك وسادة لي وسط جفونك بعيداً عن الخيبة.
تحدق بي وكمن يمتص الهم من القلب ، تقول وكلماتها كأياد تمتد لتنقذ غريقاً من النهر. فهكذا لم أجد من ينتشلني غير كلماتها وحنان عينيها الجديد:
ـ يا ولدي خذ كل حنان قلبي وتوسد عيوني لترفل بالراحة.
أحدق بشيء خلفها ربما كان هذا الشيء حباً قد نسيته هذه الأم خلف زيقها والآن سحبته إلى أمام عينيها بعدما غابت عنهما النظرة القاسية. أتبلد اللحظة وأصبح كطفل أستيقظ من النوم فزعاً من حلم مرعب، لأقول لها بأسى:
ـ الحياة كالبيضة عندما توضع فوق أحد كؤوس المائدة الوردية دون سلق تبقى عند رأس الكأس ترفض السقوط. كم مرة حاولت تحطيم الكأس لكي أسقط لكنني لم أستطع، ومع ذلك نحن عند قمة الكأس عند الدرك الأسفل مع الثمالة.
لا تتكلم، وكأنها أخذت كفايتها من الحب الخائب. فارتطمت بأحد الكؤوس وتكسرت قشرتها الخارجية وخرَّ مافيها من يأس وخيبة فوق مائدة الحلم الوردي. يتعاظم بداخلي سخط مستبد وفي نفس الوقت جبن رهيب حطم تماسكي وكسر كل كؤوس المائدة، رحت أصرخ طالباً المساعدة من المرأة:
ـ لقد تحطمت كل كؤوس الخيبة وخرج فوق المائدة الأمل الوهم، ولم يبقَ فوق المائدة سوى علبة سعوطك الهندية، التي تزدان بزخارف سود كأجنحة غراب مداج.
أبصر في وجهها وقد تغلب عليه ألم سرمدي، قد يكون ألم عالمها ذي القشور المكسورة، ألم عاث صاحب الأقداح المحطمة، لتقول لي:
- إنك مسكين.
لا أقوى على الكلام وأظل تائهاً عن طريقي كالسكران يتخبط في وحل من المياه الآسنة، وعيناها تحدقان بحنان وعطف نحوي، وتجتزئ القول:
ـ يا ولدي كل شيء يتكرر ليعيد نفسه يومياً، وإن صباحك لم يعد غير كؤوس فارغة، وسماءك ليس فيها ماضٍ يولد من نجوم، بل ماض يولد من مائدة وردية.
تصمت لبرهة ثم تستطرد بالقول:
ـ حياتك كتلك الكؤوس لها حاملوها ومائدتها، وبعدما يفرغ منها ترمي بأوساخها التي هي هنا خيباتنا.
هذه المرة ألمها السرمدي قد طغى على تجاعيد وجهها، وأقول مخففاً من وطأة الألم عن نفسها قائلاً:
- إنها الحياة.
تخرج من جيبها علبة سعوطها الفضية، وتقوم باستنشاق السعوط، وأنا أراقبها وكأن كلماتي قد عملت بداخلها عمل المهدئ في مريض يعاني سكرات الموت. تضحك برهةً وكان أنفها جميلاً رغم كبر سنها، وعيناها أصبحتا منذ لحظات أكثر وداعة وحناناً يطوف فيهما كسفينة تجوب وتمخر عباب البحر برتابة الشيخوخة وهي تقدم على المرفأ الأخير لها. تقوم من جديد باستنشاق السعوط ليعتمر صدرها زاكماً متأثراً من السعوط، ليصدر عن ذلك فعل إرادي حر، تقول وهي تأخذ بيدي لتخلصني من خيبتي:
ـ هيا يا ولدي لنحطم كل الأقداح ونكسر تلك المائدة اللعينة ونحطم النافذة، الآن السفينة قد وصلت إلى الميناء الآمن يا ولدي.
نحن على الأرض واليوم هو يوم حزيراني شديد الحرارة، عندما حطمنا جميع الكؤوس والمائدة ذات الحلم الوردي وخرجنا من السفينة التي كانت قد عملت على شكل بار عند ضفة النهر.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى