ألفت آدلبي - القرار الأخير

عندما تلقى أحمد أمراً بنقل وظيفته من دمشق إلى ناحية من نواحيها النائية، تأفف وتذمر، ولعن الحاجة التي جعلته عبداً ذليلاً لوظيفة صغيرة.

صعب عليه أن يترك دمشق وفيها ناديه الليلي وقهوته النهارية، وكان يعرف أن لا فائدة من الاعتراض على هذا النقل فسار إلى مقر عمله الجديد صابراً على مضض. وفي الغد باشر وظيفته. كان زميله الذي يقاسمه مكتبه رجلاً ذا فطنة وظرف، لاحظ أن أحمد رفيقه الجديد أديب مهذب، وأدرك الخيبة التي تصيب شاباً لا زوج له حكم عليه أن يترك دمشق وما فيها من لهو وتسلية إلى هذا البلد الموحش المقفر حتى من دار صغيرة للسينما. فأحب أن يخفف عنه بعض الشيء، فأخذ يحبب إليه الانضمام إلى رحلات يقوم بها بعض الموظفين في نهاية الأسبوع إلى الجبال والأردية القريبة حيث الطبيعة الأخاذة والصيد الوفير، وسهرات يقضونها في تبادل النكات ولعب الورق، يشترك فيها أحياناً بعض الموظفين ممن يرغبون في مظاهر المدينة الجديدة، فيصطحبون أسرهم ويسهرون في دار المدير يسمرون حينا ويستمعون لجهاز الراديو حيناً آخر، حيث المدير هو الموظف الوحيد الذي يملك راديو. وهو رجل مضياف أنيس وديع في بيته بقدر ما هو حازم وجاد في وظيفته. وزوجه شابه أنيقة لبقة تعرف كيف تسلي ضيوفها وتخلع على سهراتها جوا بديعاً من المرح والوقار.

فإذا أحب أحمد أن يصحبه في سهرة إلى دار المدير فعل لأن لديه من الثقة بالمدير وزوجه والدالة عليهما ما يجيز له أن يصطحب معه صديقاً له يقدمه إليهما. رضى أحمد شاكر لا حباً لمديره المضياف، ولا رغبة في زوجه الأنيقة اللبقة، بل أملا في أن تكون السهرة هناك أحسن حالا من السهرة في غرفته الباردة، ومصباح المدير أبعث نوراً من مصباحه الضئيل.

وعندما قدمه زميله إلى زوج المدير ذهل أحمد ولم يكد يحبس شهقة كادت تخرج عالية من فمه. . إنها سلمى! مثله الأعلى يعيدها القدر إليه بعد أن أضاعها عشر سنين كاملة. جلس أحمد في زاوية منفردة وأخذ يرد على الأسئلة والمجاملات التي توجه إلى زائر جديد رداً مقتضباً متظاهراً بالاهتمام بما تذيعه آله الراديو من أغان وأحاديث.

أما عقله فكان قد شرد بعيداً جداً. ارتد عشر سنين إلى الوراء.

ترى هل تذكرت سلمى ذلك الشاب النحيل الأسمر الذي كان يتبعها عندما كانت في الثامنة عشرة تسير في الشارع ذهاباً لمدرستها وإياباً منها فيتبع خطواتها ويبعث إليها بكلمات دعابة رقيقة. وكثيراً ما كانت تبتسم لكلماته ابتسامة مشرقة تسفر عن أسنان تلوح نضيدة لألاءة خلف نقابها الشفاف فتبعث ابتسامتها فيه أملاً وسحراً. وربما لازمه طيفها بعض الليالي حتى الصباح. كان هذا ديدنه سنة كاملة إلى أن عاد يوماً من رحلته الكشفية فلم يجدها. ولما سأل عنها قيل له: إن رب العائلة غريب من دمشق فلما أحيل على التقاعد آثر العودة إلى بلده. فعرف أنه حرم منها إلى الأبد. ولا يزال يذكركم كان وصف نفسه بالجبن والغباوة لأنه لم يكتب إليها ولم يحاول أن يجد السبيل للتعرف عليها. أليست ابتسامتها كانت كافية لتشجيعه على الكتابة إليها؟! تباً لهذا النقاب الشفاف! إنه حاجز يحول دون التعارف بين الرجل والمرأة مهما شف ورق. لعلها كانت تبادله الشعور. . . ولو أنهما استطاعا أن يتفاهما لأخلص كل واحد لصاحبه ولكانا اليوم زوجين سعيدين.

عاد أحمد من سهرته. ولو سئل عنها كيف كانت لما استطاع أن يجيب؛ لأنه ما وعي منها حديثاً، ولم يبق في ذاكرته إلا رسم قد أهيف يصلح نموذجاً لفنان: وابتسامة مشرقة لا تزال كعهده بها تسفر عن أسنان نضيدة لألاءة غير أنها كانت فيما مضى تبعث فيه أملا وسحراً. . . أما الآن فقد بعثت فيه ألماً ويأساً وشعوراً قوياً بالحرمان!

مضى شهران فإذا أحمد صياد ماهر يجوب الجبال والأودية القريبة ويمتع نفسه بالطبيعة الأخاذة، وإذا هو صديق حميم لبيت المدير يتحفهم من حين آخر بصيده الوفير ويحظى بالابتسامة المشرقة. ولو سئل عن حاله لأجاب إنه قانع ولعله سعيد. . ولو خير بين العودة إلى دمشق وفيها نادية الليلي وقهوته النهارية فربما آثر البقاء في الناحية الموحشة التي صارت في نظره عامرة آهلة.

ولكن سوء طالعه لم يشأ أن يمتعه طويلاً بهذا النزر اليسير من السعادة والرضا، فقد قدم الناحية مفتش كبير، فأثنى على المدير لحسن تصرفه وعظم كفايته، وأراد أن يكافئه فترك له الخيار في أن يبقى في ناحيته أو ينتخب لنفسه ناحية أخرى

لقد فرح المدير بهذه المنحة وأحال الأمر على زوجه فهي أحرى أن تبت فيه. قلق الموظفون لفراق مديرهم، وكان أحمد أشدهم قلقاً. . .

أتعاوده غباوته وجبنه المعهودان؟ فيحرم من سلمى مرة أخرى! لا. ليس هو الفتى الغر، لقد أصبح رجلاً كامل الرجولة، له صولات وجولات في ميدان الحب والغرام. ألم تبادله سلمى نظرات بنظرات؟ ألم تجاهر بإعجابها به؟ ألم تثن على آرائه وتستسيغ نكاته؟ ألم يلمح بوارق الحب تلوح في عينيها من حين لآخر مهما حاولت إخفاءها؟

فماذا عليه إذا كتب إليها يرجوها أن تبقى، أو حسبه أن تعلم أنه أحبها وظلت مثله الأعلى عشر سنين كاملة وستبقى كذلك دائماً أبداً.

تلقت سلمى رسالة احمد وقرأتها مرات كثيرة. وفي كل مرة كان يخفق قلبها بقوة وعنف وحارت ماذا تجيب. وفي المساء أوت إلى السرير الذي كانت تقتسمه هي وزوجها. . وظلت فريسة صراع عنيف قام بين ضميرها وعاطفتها حتى الفجر.

كانت العاطفة تطغى فتقرر البقاء لتتمتع بهذا الحب الذي هبط عليها من السماء وسوف لا يجود به الدهر مرة ثانية. . سترعاه نقيا طاهراً وستجعله مقتصراً على النظرات المختلفة ودقات القلب العنيفة اللذيذة، ولكن الضمير كان يغالب العاطفة ويكبتها بآيات بينات. ألم تبتدئ قصص الحب التي قرأتها أو سمعتها بنظرات بريئة وتنتهي بآثام مريعة؟! أتجيز لنفسها ما آخذت عليه الآخرين؟

وأخيراً استطاعت أن تخرس الضمير وتصم أذنيها عن آياته البينات وتقرر البقاء. كان الإعياء قد بلغ منها كل مبلغ. فشعرت بالحرارة تتمشى في أطرافها وأحست وهجها في خديها، وفي حركة عصبية أزاحت الغطاء بعيداً وأخرجت ذراعيها العاريتين على رغم البرد الشديد. فإذا يد تمتد بعطف وحنان فنعيد الغطاء يرفق وأناة وتحكمه حول عنقها وفي منحنى خصرها، وأصابع رفيقة تجس الخد لطيفاً لتطمئن على أن ليس هناك حرارة! وكأن الأصابع الرفيقة عندما مست الخد مست الضمير أيضاً فتنبه مرة ثانية، ولكنه كان أكثر نشاطاً وأبلغ حجة فاستطاع أن ينتصر.

وإذا زفرة حرى تخرج من أعماق قلبها ودمعتان كبيرتان تجولان في عينها. . أما شفتاها فقد تمتمتا بكلمتين قاطعتين حازمتين: (سنسافر غداً) وكان هذا هو القرار الأخير.

دمشق

السيدة ألفت آدلبي
25 - 06 - 1951

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى