نهاد التكرلى - دفاع عن الوجودية

مهداة للاستاذ علي متولي صلاح

ما كادت الوجودية تنتشر في فرنسا في اعقاب الحرب العالمية الثانية حتى انهالت عليها الانتقادات والاتهامات من كل حدب وصوب. وقد صار النقاد على مختلف نزعاتهم، من شيوعيين الى مسيحيين، يكيلون لها التهم جزافا. فاتهموا جان بول سارتر ـ مؤسس هذه الفلسفة في فرنسا ـ بانه استوحى فيلسوفا المانيا نازيا هو مارتن هيدجر، ومن ثم فلابد ان تكون فلسفته ذات نزعة فاشية. ونسبوا اليه نشره باسم الوجودية نزعة ركونية للقلق تجعل الانحلال والفساد يدب الى الشبيبة وتصرفها عن العمل. لان سارتر كما يقولون يثير الشباب لاستغلال نوع خاص من اليأس واتهموا سارتر بانه يدافع عن مذاهب عدمية (والبرهان على ذلك غي نظر احد النقاد هو ان عنوان كتاب سارتر الفلسفي هو (الوجود والعدم)!) في مثل هذه السنوات التي يجب فيها اعادة بناء كل شيء من جديد، والعمل لتكريس الجهود لربح الحرب وربح السلام. ثم اتهموه اخيرا بان الوجودي لا يطيب له الا الانهماك في الاقذاع واظهار شرور الناس وضعتهم اكثر من ابرازه الجانب المضيء من مشاعرهم وعواطفهم الجميلة.

وقد حاول سارتر الرد على بعض هذه الاتهامات التي تبدو مستوحاة بباعث من سوء النية والجهل. خاصة وان اصحابها كما يبدو جليا لم يقراوا أي كتاب من الكتب التي يتحدثون عنها، والظاهر انهم قد اختاروا الوجودية هافا يسددون اليه سهام نقدهم لانهم اولا بحاجة الى شخص او مبدأ يتحمل خطايا الاخرين، ولانهم ثانيا وجدوا ان الوجودية مذهب مجرد لاتعرفه ال فئة ضئيلة من الناس؛ ولن يحاول احد التحقق مما يقولون. ومن بين الردود التي فند فيهاسارتر مزاعم هؤلاء النقاد مقال نشره في جريدة الا كسيون الفرنسية بتاريخ 29 ديسمبر عام 1944 نحاول تلخيصه لقراء الرسالة في هذا المقال، ومحاضرة عنوانها (الوجودية نزعة انسانية) القاها سارتر في نادي (منتنان) وقد لخصناها لقراء مجلة الاديب البيروتية في العام المنصرم.

يقول سارتر عن النقد الخارجي الذي وجه اليه: ان هيدجر كان فيلسوفا قبل ان يكون ناز بوقت طويل. وبمكن تفسير اتفاقه مع الهتلربة بالخوف وربما بالوصولية، او بالانقياد والخضوع وهو الامر الاكثر يقينا. وهذا على كل حال امر ممقوت لا يحبذه احد ابدا غير انه كاف وحده للطعن في استدلال النقاد. فهم يقولون: (ان هيدجر عضو في الحزب الاشتراكي الوطني واذن فلا بد ان تكون فلسفته نازية). بينما الحقيقة على خلاف ذلك، اذ ان هيدجر لا خلق له وهذا هو كل شيء. فهل هناك من يجرؤ على الاستنتاج من هذا بان فلسفته تبرير لجبنه؟ اليس المعروف بان هنالك كثيرا من الاشخاص لم يرتقوا الى مستوى مؤلفاتهم؟ هل يجب ان نبين (العقد الاجتماعي) لان روسو كان يضع اطفاله في ملجأ اللقطاء؟ ثم ما اهمية هيدجر؟ اذا اكتشف سارتر فكرته الخاصة فيفكرة فيلسوف اخر او اذاطلب الى هذا الفيلسوف اصطلاحات فنية وطرقا كفيلة بابلاغه الى مشاكل جديدة كان ذلك دليلا على انه يعتنق جميع نظرياته؟ لقد اقتبس ماركس من هيجل منطقه الجدلي فهل يقول احد بان كتاب (رأس المال) مؤلف بروسى؟

ولنأت الان الى الوجودية فنرى هل حاول هؤلاء النقاد تعريفها على الاقل الى قرائهم؟ انهم يحاولوا هذه المحاولة لانهم يعلمونبان ذلك يورطهم في جدال فلسفي ليكلفهم مجهودا كبيرا لا يتناسب وهذه الهجمات المبتذلة التي يشنونها على الفلسفة. ومع ذلك فان هذا التعريف بسيط الى درجة كبيرة. يقول سارتر: من المقرر ـ لو استعملنا عبارات فلسفية ـ ان لكل شيء ماهية ووجودا. والماهية معناها مجموع ثابت من الخصائص؛ بينما الوجود يعني نوعا من الحضور الفعلي في العالم. والشيء الذي يعتقد به كثير من الناس هو ان الماهية تأتي اولا ثم الوجود، فالبسلة الخضراء مثلا تنبت وتستدير طبقالفكرة البسلة، والمخلل مخلل لانه يساهم في ماهية المخلل، وهذه الفكرة تنبع في الاصل من فكرة دينية. وفي الواقع ان الذي يريد ان يبنى بيتا لابد ان يعرف بالضبط اى نوع من الاشياء سيبدعه. فهنا ايضا نجد ان الماهية تسبق الوجود وهذه الفكرة موجودة لدى كل الذين يعتقدون بالله وبانه خلق الانسان، اذ لابد ان يكون قد قام بهذا العمل وفقا للفكرة او المفهوم الذي كان لديه عن الانسان. غير ان بعض المفكرين قد قالوا بالالحاد مع محافظتهم على هذا الرأى التقليدي، وهو (ان الشيء لا يوجد ابدا الا وفقا لماهيته).

وكان جيل القرن الثامن عشر باجمعه يفكر بان هنالك ماهية مشتركة بين جميع البشر تدعى (الطبيعة البشرية). غير ان الوجودية قد جاءت اخيرا فقلبت الوضع لانها قالت بان الوجود لدى الانسان ـ ولدى الانسان فقط ـ سابق على الماهية. وهذا يعني بكل بساطة ان الانسان (يوجد) اولا ثم يكون بالتالي هذا الشخص او ذاك. وبكلمة واحدة ان الانسان يجب ان يخلق ماهيته الخاصة بنفسه. فهو عندما يرمي بنفسه في العالم ويتألم ويناضل فيه انما يعرف نفسه شيئا فشيئا. . ومجال هذا الانسان قبل ان يموت. . ولا ماهي الانسانية قبل ان تزول من على وجه الارض.

والان وبعد ما تقدم: هل الوجودية فاشية ام محافظة ام شيوعية او ديمقراطية؟ من الواضح ان هذا السؤال سخيف لا معنى له. . اذ الوجودية وهي على هذه الدرجة من العمومية ليست سوى طريقة معينة لمواجهة المسائل الانسانية. . رافضة اعطاء الانسان اية طبيعة ثابتة على الدوام. لقد كانت الوجودية سابقا تقترن بالمعتقد الديني كما نجدها لدى كير كجورد. . والوجودية الفرنسية التي يمثلها سارتر تميل اليوم الى الاخذ بالالحاد. . غير ان هذا ليس ضروريا بصورة مطلقة. وسارتر يقول ان كل ما يمكن ذكره في هذا الصدد هو انها لا تبتعد كثيرا عن التصور الذي تصوره مارس للانسان. الا يرتضي ماركس في الواقع هذا الشعار الذي اتخذه سارتر شعارا للانسان: ان يعمل وبعمله يصنع نفسه ولا يكون شيئا سوى ما صنعه من نفسه؟

والان نقول: اذا كانت الوجودية تعرف الانسان بواسطة فعله فمن البديهي انها ليست فلسفة للركونية؛ اذ الانسان في الواقع لا يمكن الا ان يفعل، فافكاره تصاميم والتزامات، وعواطفه مشروعات. انه لا شيء سوى حياته وما حياته الا وحدة سلوكه. اما (القلق) الذي تعلن عنه وجودية سارتر والذي قال عنه النقاد بانه يأكل الانسان ويشله عن العمل، فانه ـ بالرغم من سمو هذه الكلمة ـ يدل على حقيقة يومية في غاية البساطة. يقول سارتر اننا (لا نكون) بل (نصنع انفسنا) ونحن عندما نصنع انفسنا نتحمل مسؤولية الجنس البشري بأجمعه. واننا عند اقدامنا على الفعل لا نجد ازاءنا قيما او اخلاقا منحت لنا بصورة قبلية. . بل علينا في كل حالة ان نقرر ونبت في امرنا بصورة منفردة دون ان تكون لدينا نقطة ارتكاز او هاد يهدينا سواء السبيل، مع كوننا نفعل من (اجل الجميع). فكيف يمكن بعد هذا الا نشعر بالقلق عندما يتحتم علينا الفعل؟ ان كل فعل من افعالنا يمس معنى العالم ومكان الانسان في الكون، ونحن نؤسس بواسطة كل فعل من افعالنا ـ حتى لو لم نرد ذلك ـ سلما من القيم الشاملة. فكيف يمكن الا يأخذنا الخوف ازاء هذه المسؤولية الكلية؟

لقد قال بونج في عبارة بديعة للغاية ان (الانسان مستقبل الانسان) وسارتر معجب بهذا القول. وهو يقول بان هذا المستقبل لم يصنع بعد ولم يبت في امره. اننا نحن الذين سنصنعه، وان كل واحدة من حركاتنا تساهم في رسمه، ويجب ان يكون المرء على شىء كبير من النفاق لكي لا يشعر بالقلق ازاء هذه الرسالة الهائلة الملقاة على عاتق كل واحد منا. ولا شك ان النقاد قد خلطوا عمدا بين القلق والنورستانيا لكي يدحضوا سارتر بصورة اكثر يقينا، فجعلوا من هذا الجزع الرجولي الذي يتحدث عنه الوجودي خوفا باثولوجيا موهوما. ولذلك يقول سارتر ان القلق لا يمكن ان يكون عائقا للفعل لان نفسه شرط للفعل. وهو جزء لا يتجزأ من معنى هذه المسؤولية الساحقة: مسؤولية الكل امام الكل التي تسبب عذاب الانسان وعظمته في نفس الوقت.

انا اليأس الذي يقولون عنه بأنه يسود الحياة في نظر الانسان ويصرفه عن العمل فيجب ان نفهم معناه ونتعمق مدلوله. يقول سارتر: من الجلى ان الانسان يخطىء اذ (يأمل) في امر من الامور، وهذا القول لا يعنى سوى ان الامل اسوأ قيد للفعل. هل كان يجب على الفرنسيين ان يأملوا في انتهاء الحرب من تلقاء نفسها؟ او ان يمد النازيون لهم ايديهم؟ او هل لنا ان نأمل في ان يتخلى اصحاب الامتيازات في المجتمع الرأسمالى عن امتيازاتهم عن طيب خاطر؟ يقول سارتر اننا لو كنا نأمل في كل هذا فلن يبقى علينا الا ان ننتظر مكتوفي الايدي. ان الانسان لا يمكنه ان يريد الا اذا ادرك اولا بانه لا يستطيع ان يعتمد الا على نفسه، وبانه وحيد متروك على هذه الارض وسط مسؤولياته الانهائية من دون سند او مساعدة. لا غاية له سوى الغاية التي سيعطيها لنفسه. ولا مصير له سوى المصير الذي سيبتدعه لنفسه. هذا اليقين وهذه المعرفة الغريزية التي لدى الانسان عن موقفه في العالم هو ما يدعوه سارتر باليأس. فهو ليس ضلالا خياليا جميلا، بل وعلى جاف واضح بالحالة الانسانية. وكما ان القلق لا يتميز عن معنى المسؤوليات فان اليأس يتحد مع الارادة في وحدة لا انفصام لها. ومع هذا النوع من اليأس يبدأ التفاؤل الحقيقي: تفاؤل الانسان الذي لا ينتظر شيئاً ويعلم بانه لا يملك أي حق ولم يترتب عليه أي واجب. تفاؤل الانسان الذي يبتهج بالاعتماد على نفسه وحدها وبالعمل وحيدا لخير الجميع.

وبعد فهل تلام الوجودية على انها تؤكد الحرية الانسانية؟ يقول سارتر مخاطبا النقاد: انكم جميعا بحاجة الى هذه الحرية، وما اراكم الا واضعين النقاب عليها مراءاة ونفاقا لانكم تعودون اليها بدون انقطاع رغما عنكم. يقوم احد الناس بعمل شرير فتفسرونه باسبابه وبموقفه الاجتماعي ومصالحه الخاصة وتسخطون عليه فجأة وتؤاخذونه على مسلكه بمرارة. بينما يوجد على العكس اناس اخرون تعجبون بهم وتتخذون افعالهم نماذج تسيرون بموجبها. فماذا يعنى كل هذا؟ هل يعني سوى انكم لا تساوون بين الاشرار وبين دودة الكرم. . ولا بين الطيبين وبين الحيوانات المفيدة؟ انكم تلومونهم او تمدحونهم لانهم كان بوسعهم ان يفعلوا غير ما فعلوه وبذلك تفترضون فيهم الحرية من غير ان تشعروا.

يقول سارتر ان نضال الطبقات حقيقة واقعة لاشك فيها؛ وانه يساهم فيها بصورة تامة. لكن كيف يمكن وضع هذه الواقعة على مستوى غير مستوى الحرية؟ اننا نرى ان الشيوعيين يتهمون سارتر واقرانه ويقولون لهم انكم بافيون الحرية هذه تمنعون الانسان من ان يكسر عنه قيوده. غير ان هذا الكلام يدل على سوء فهم تام للحرية التي ينادى بها سارتر ـ فهو عندما يقول بان العامل العاطل حر لا يعنى بانه يستطيع ان يفعل كل ما يروق له وان يتحول في لمح البصر الى بورجوازي غني مسالم. انه حر لانه يستطيع دائما ان يختار قبول نصيبه باستسلام او ان يتمرد على هذا النصيب. حقا انه قد لا يتوصل الى تجنب الشقاء غير انه يستطيع ان يختار من صميم هذا الشقاء الملتصق به النضال ضد جميع انواع الشقاء، باسمه وباسم الاخرين جميعا. . انه يستطيع ان يختار نفسه كانسان يرفض ان يكون الشقاء نصيب البشر.

فهل سارتر خائن اجتماعي لانه يستدعي احيانا هذه الحقائق الاولية؟ يقول سارتر لقد كان ماركس اذن خائنا اجتماعيا لانه قال: (اننا نريد تغيير العالم)، فعبر بهذه الجملة البسيطة على ان الانسان سيد مصيره. سيكون هؤلاء النقاد جميعا اذن خونة اجتماعيين لان هذا هو ما يفكرون به في الواقع عندما يخرجون من حدود المذهب المادي الذي ان كان قد قدم خدمات لا يمكن نكرانها فانه قد شاخ ولم يعد يصلح لهذا العصر. اما اذا كانوا ينكرون هذه الحقيقة الاولية فسيكون الانسان لديهم شيئا مثل باقي الاشياء تماما. سيكون قليلا من الفوسفور والكاربون والكبريت وعندئذ لن يكون من الضروري الاحتفاء به او الاهتمام بامره.

بعقوبة ـ العراق
نهاد التكرلى


مجلة الرسالة - العدد 948
بتاريخ: 03 - 09 - 1951

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى