عبد القادر وساط - الطاغية يُحدث وزارة للشعر

حدثنا صاعد بن الحسن عن أبي الحسن الوراق عن أبي عوانة عن أبي حامد الكوفي، قال:
بعثَ صاحبُ نجدان في طلبي، في يوم من أيام الربيع، فانتقلت إلى قصره العامر، فلما بلغتُ بابَه، رأيتُ مكتوباً عليه بخط كوفي جميل:
قَصْرٌ عليه تحيةٌ و سلامُ = نشَرَتْ عليه جَمالَها الأيامُ
فقلتُ لنفسي: الساعةَ يسألني الطاغية عن قائل هذا البيت وأنا لا أعرفه، فاغتنمت فرصةَ قربي من الحاجب فملتُ عليه وقلت له:
- يا سيدي، هلا أخبرتني من هو صاحب البيت البديع، المنقوش على باب هذا القصر المنيف...
فأجابني بازدراء، دون أن ينظر إلي:
- هو لأبي الوليد أشْجَع بن عمرو السلمي
فشكرته ثم توجهت إلى داخل القصر، وقد زايلني شيء من الروع. وكان ابنُ علي جالسا على سريره الأخضر، وبين يديه كتاب ينظر فيه، فلما رآني رفع رأسه إلي وقال:
- يا أبا حامد، ما الذي يقوله الناس عني في المساجد والمقاهي والملاعب والأماكن العمومية؟
قلت:
- يا سيدي، أنتَ من نجْدان في بيتها ومن بيتها في وسطه، وأنتَ المحبوب في خاصتك، المحمود في عامتك، وقد سار ذكْرك في البلاد والناسُ مُجْمعون على محبتك، مُجْتَمعون على نصرتك، مرددون لما قاله فيك الشاعر بكْر بن النطاح حين مدحك بقوله:
لهُ همَمٌ لا منتهى لكبارها = و همّتُهُ الصغرى أجَلُّ منَ الدهرِ
قال أبوحامد:
فنظر إلي ابن علي عندئذ وهو يمسك كتابَه بين يديه، ثم قال:
- قاتلَ اللهُ ابنَ النطاح، ما أشعره! لقد هممتُ غيرَ مرة باعتقاله وإرساله إلى سجن الكثيب، وذاك لأنه عِجْليّ، من بني سعد بن عجْل، وأنت يا أبا حامد تعلم ما بين بني نجدان وبني عجل من عداوة. ولا تنسَ أيضا أنه كان، فيما مضى من الزمن، صعلوكا يصيب الطريق، ولكنني عدلت عن اعتقاله لأنه شاعر صحيح الطبع، متّقدُ القريحة، وشعره حَسَن السبك، متناسق الأجزاء..
ثم إنه نظر إلي ليرى ما يكون رأيي، فقلت له:
- أجل أيها الطاغية، إن له شعرا عذباً، يتغنى به الناس. وقد بلغني أن الشيخ أبا عبيدة النحوي نفسه يَرويه ويَستحسنه.
فلم أكد أنطق بذلك الكلام حتى تغيرَ وجهُ ابن علي، وشرعَ يرمقني بنظرات السخط، ثم قال:
- ويلك يا أبا حامد، كيف تَذكر أبا عُبيدة، وهو نحوي بصري، في عقر قصري؟
قلت:
- يا سيدي، إنما ذكرتُه لعلو كعبه في النحو واللغة والأدب. وأنت خير من يَعلم أن له تصانيف زادت على المائتين، وأنه لا يروي عن العرب إلا الصحيح. وقد قال عنه الجاحظ: " لم يكن في الأرض خارجي ولا إجماعي أعلمُ من أبي عبيدة. "
قال ابن علي:
- يا أبا حامد، ما كان ينبغي لك أن تذكر هذا البصري الألثغ في مجلسي! كأنما غاب عنك أنه رجُلٌ جَبّاهٌ، بذيء اللسان، وسخ الثوب، خارجيّ المذهب وأنه ميال للمُرْد، وأن أبا نواس قد هجاه بذلك فقال:
صلّى الإلهُ على لوطٍ و شيعته = أبا عُبَيدةَ قُلْ بالله آمينا
قال أبو حامد:
فأدركت عندئذ فداحةَ الموقف الذي صرتُ فيه، وقلتُ لنفسي " ضعتَ والله يا أبا حامد، وعمّا قليل يبعث بك الطاغية إلى سجن الكثيب، حيث تقضي ما تبقى لك من العمر وما لك طعام إلا الأسودان، التمر والماء، فانظر كيف تتدارك الأمر بحسن الحيلة ". ثم إني رفعتُ رأسي بعد طول إطراق، وقلتُ لابن علي، وأنا أسأل الله حسنَ العاقبة:
- أيها الطاغية، إنما ذكرتُ أبا عبيدة لأنه - وهو البصري - كان شديد العداوة لبعض علماء البصرة. بل إن الأصمعي نفسَه كان إذا أراد دخولَ المسجد، قال لمن معه: " انظروا لا يكون فيه ذاك " - يعني أبا عبيدة. فهذا ما جعلني أتجرأ وأذكره في مجلسك، فإن عاقبْتَ فبحقك وإن عفوتَ فبفضلك.
فأطرق ابن علي قليلا، ثم رفع رأسه إلي وقال:
- يا أبا حامد، لقد برح الخفاء وانكشف الغطاء، وأنتَ تعلم أن أولى الناس بالعقوبة أقدرُهم على العفو...
قال أبو حامد:
فكدتُ والله أن أصحح كلامه، وأن أقول له: " نعم يا سيدي، إن أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة "، ثم أدركت أنه قلبَ الكلام عامدا، كما يفعل دائما عند الغضب، فبدا لي أن ألين موقفه قليلا بذكر بعض الأشعار، فقلت له:
- يا سيدي، ها أنتَ ترى كيف بلغتْ بي الشقوة أن جعلتُ نفسي غرضا لعقابك، وكيف بلغَ بك الفضل أنْ عفوتَ عني، وقد صدقَ والله أبوالشغب العبسي حين قال فيك:
إذا كانَ أولادُ الرجال حزَازَةً = فأنتَ الحلالُ الحلو و الباردُ العذْبُ
فلما سمع الطاغيةُ ذلك البيت انفرجتْ أساريره بعض الشيء، ثم قال لي:
- قد عفونا عنك يا أبا حماد، فلا تعد إلى مثلها أبداً، فإني كما قال ابنُ ناشب:
( و ما بي على منْ لانَ لي من فظاظةٍ = و لكنني فظٌّ أبيٌّ على القَسْر )
واعلمْ إني استقدمتك إلى قصري لأحدثك في أمر جلل. فقد قررتُ أن أحدث وزارة للشعر وأن أجعلك على رأسها. وسأعهد إليك بأن تمتحن شعراء نجدان في اللغة والنحو والعروض وفي معرفتهم بأشعار القدماء والمحدثين، وفي اطلاعهم على أدب الأعارب والأعاجم. وإني آمرك أن تستدعي كل واحد من هؤلاء الشعراء وتسأله عن رأيه في الرجُل يزعم أنه شاعر ولكنه لا يُحسن شيئا مما ذكرناه: أشاعرٌ هو أم متشاعر، أم في منزلة بين المنزلتين؟ فمن قال بأنه شاعر نكلنا به وربطناه بالقيود وسَيّرْناه إلى سجن الكثيب، ومن أقرَّ بأنه متشاعر أحسنّا إليه وأجزلنا له في العطاء ثم بعثناه إلى المعاهد للدرس والتحصيل، ومن قال إنه في منزلة بين المنزلتين، أمهلناه شهرا ثم عدنا لامتحانه من جديد حتى يتضح لنا أمره. فانهض على بركة الله يا أبا حامد، واستعد من ساعتك لهذه المهمة الجليلة، فإن أشكلَ عليك أمر من الأمور فعد إليّ، ولا يغبْ عن ذهنك وأنت مقبل على هذا الامتحان أن الشعر كالبيت من الأبنية، قراره الطبع وسمْكه الرواية ودعائمه العلْم وبابه الدربة وساكنه المعنى ولا خير في بيت غير مسكون، كما قال الأقدمون.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى