أنور المعداوي - (بداية ونهاية) لنجيب محفوظ

(بداية ونهاية) دليل مادي لا ينكر، على أن الجهد والمثابرة جديران يخلق عمل فني كامل.

لقد أتى علي وقت ظننت فيه أن نجيب محفوظ قد بلغ غايته في (زقاق المدق)، وأنه لن يخطو بعد ذلك خطوة أخرى إلى الأمام. أقول غايته هو لا غاية الفن، لأن (زقاق المدق) كانت تمثل في رأي الظنون أقصى الخطوات الفنية بالنسبة إلى إمكانيته القصصية. ولهذا، خيل إلى أن مواهب نجيب قد (تبلورت) هنا وأخذت طابعها النهائي وتوقفت عند شوطها الأخير. ومما أيد هذا الظن أن (السراب) وقد جاءت بعد (زقاق المدق) كانت خطوة (واقفة) في حدود مجاله المألوف، ولم تكن الخطوة الزاحفة إلى الأمام!

كان ذلك بالأمس.. أما اليوم، فلا أجد بدا من القول بأن (بداية ونهاية) قد غيرت رأيي في (إمكانيات) نجيب، وجعلتني أعتقد أنه قد بلغ الغاية التي كنت أرجوها له، غايته هو وغاية الفن حين كانت الغايتان مطلبا عسير المنال!

أنني أصف هذا الأثر القصصي الجديد لهذا القصاص الشاب، بأنه عمل فني كامل. هذا الوصف، أو هذا الحكم، مرده إلى أن أعماله الفنية السابقة كانت تفتقر إلى أشياء؛ تفتقر إليها على الرغم من المزايا المختلفة التي تحتشد فيها وتحدد مكان صاحبها في الطليعة من كتاب الرواية!

ماذا كان ينقص نجيب قبل (بداية ونهاية)؟ ماذا كان ينقصه في (خان الخليلي) و (القاهرة الجديدة) و (زقاق المدق) و (السراب)، لقد كان نجيب في هذه الروايات الأربع يمتلك من الخطوط الفنية ما يتيح له من أن يخرج (التصميم العام) للقصة وهو سليم في جملته. ومع ذلك فقد كان ينقصه عنصر الالتزام الدقيق لحدود (الواقعية الأولى) في عرض حوادث القصة وتوجيه حركات الشخوص. وأقول (الواقعية الأولى) لأن (الواقعية الثانية) هي الساحة الكبرى التي دأب نجيب على أن يعرض فيها أكثر نماذجه البشرية!

إن الفرق بين هذين اللونين من الواقعية هو أن اللون الأول نقل (مباشر) لصور الحياة وطبائع الأحياء، كما هي في الواقع المجس الذي تلمسه العين وتألفه النفس. أعني أن تكون الحادثة القصصية أو النموذج البشري مما يقع كل يوم في محيط اللقطة البصرية والنفسية؛ أعني مرة أخرى أن تكون تمثلنا للحوادث والشخصيات تمثيلا شعوريا لا ذهنيا عندما تقارن بين حقيقتها على الورق وبين حقيقتها في الحياة. هذا هو اللون الأول وهذه هي مظاهره، أما اللون الثاني من الواقعية وهو ما نعبر عنه بـ (الواقعية الثانية)، فهو التصوير (التقليدي) لا (الطبيعي) للحوادث اليومية والنزعات الإنسانية. أو هو تلك النسخة من الحياة التي يمكن أن نقول عنها أنها (قريبة) من الأصل، ولا يمكننا القول بأنها (طبق) الأصل، ونسخة كهذه منهما اقتربت من الواقع فهي نسخة (مقلدة) على كل حال. . وقد يكون الفن في جوهرة تقليدا للحياة، ولكن رسالة الفنان هي أن يشعرنا بأن المشهد الذي بصوره أصيل لا أثر فيه للمحاكاة.

وألا يترك لنا فرصة للشك في أن هناك اختلافا بين الصورة الحقيقية والصورة المنقولة، أو أن هناك حلقة اتصال مفقودة بين الواقع والمثال!

نجيب محفوظ في أعماله الفنية السابقة هو ذلك القصاص الذي يمثل (الواقعية الثانية) في الكثير الغالب من الأعيان. ولست أنكر أن بالواقعية الأولى مجالا في فنه، ولكنه المجال (المحدود) تبعا لطريقته الفنية التي تغلب عليه في كتابة القصة. هذه الطريقة الفنية أساسها أن نجيب مولع بأن يضع كثيرا من نماذجه البشرية تحت مجهر التحليل النفسي، ليتخذ من سلوكها الإنساني مادته الرئيسية في تحليل ما يقع تحت المجهر من (حالات مرضية (! قل إذا شئت أنه يطبق بعض الأصول من (علم النفس المرضي) على كثير من أبطال قصصه (المنحرفين) وأنه تبعا لهذا التطبيق يفرض عل فنه أن يسير في خط اتجاه نفسي محدد تدور فيه الشخصية (المريضة) من البداية إلى النهاية؛ تدور فيه بقوة الدفع (المرضية) التي تبرر سلوكها في محيط (الواقعية الثانية). . من هنا يخرج نجيب بعض الشيء عل منطق (الواقعية الأولى)، لأنه يجبر حوادث القصة وحركات الشخوص على أن تسير نحو غاية معينة، تحقيقا لمنهجه الفني الذي يلتمس عند النتائج المادية تفسيرا للظاهرة النفسية أو تشخيصا (للحالة المرضية). وتشعر أن التشخيص النفسي لهؤلاء (المرضى) غير سليم في بعض الأحيان، ومرجع هذا الشعور إلى أن سلوكهم مفروض عليهم فرضا ولا يملكون فيه حرية الاختيار! هنا مفرق الطريق بين واقعيتين: (الواقعية الأولى) و (الواقعية الثانية).

هذه صورة (تقليدية) للحياة كما قلت، وتلك صورة (طبيعية). وموقف الفن بينهما واضح عندما نضع أنفسنا أمام هذه الحقيقة، وهي أن النموذج البشري في حدود الواقعية الأولى موجود في الحياة (بالفعل)، وأنه في حدود الواقعية الثانية موجود في الحياة (بالإمكان). . أي أننا إذا رجعنا إلى بعض الشخصيات التي رسمها الأستاذ نجيب محفوظ في أعماله الفنية السابقة، وسألنا أنفسنا هل هي موجودة بيننا حقا تروح وتجيء، وتقع عليها العين وتدركها الحواس، ونشعر نحوها بشيء من الألفة التي تخلق بيننا وبينها نوعا من المشاركة الوجدانية؟ إذا سألنا أنفسنا هذا السؤال فإننا ننتهي إلى هذا الجواب: وهو أنها غير موجودة (فعلا) ولكنها (ممكنة) الوجود؛ أي أن وجودها غير متعذر لأن منطق الحياة يهضمه إذا (وجد) وكذلك طبيعة الأحياء. ومن هنا نلتمس الفارق الدقيق بين كلمتين: (موجود). . و (ممكن إن وجد)، وبالطبع لا يضيق الفن بالكلمة الأخيرة وإن كان يفضل الكلمة الأولى بلا مراء!!

هذا عنصر من العناصر الفنية كان ينقص نجيب محفوظ. وثمة عنصر آخر كان ينقصه، وأعني به (التذوق الشعوري) الكامل للحياة. . هناك قصاص فهم الحياة حق الفهم وخبرها كل الخبرة، ومع ذلك فهو يتذوقها بقدر معلوم لا يتناسب وخبرته العميقة وفهمه الأصيل؛ فما هو الفارق بين طبيعة (الفهم) وطبيعة (التذوق) في حياة القصاصين؟ لتوضيح هذا الفارق الفني نقول: إنك تفهم الشيء بعقلك ولكنك تتذوقه بشعورك، أعني أن الفهم أداته الذهن الفاحص، وأن التذوق أداته الإحساس الرهيف. . إنهما طاقتان: طاقة عقلية وطاقة شعورية، والذين قويت عندهم الطاقة الأولى وضعفت الثانية هم الذين تتوقد في نفوسهم شعلة الفهم، وتخبو شعلة التذوق، بالنسبة إلى كل قيمة من قيم الأشياء وكل معنى من معاني الحياة.

إن هناك مثلا من (يفهم) قصيدة من الشعر؛ يفهم فيها اللفظ والمعنى، ويفهم فيها الوزن والقيافة، ويفهمها شرحا أن طلبت إليه الشرح والتفسير. ومع هذا كله فهو لا يستطيع أن (يتذوق) فيها الوحدة الفنية، ولا الظلال النفيسة، ولا التجربة الكبرى وهي مصبوبة في بوتقة الشعور. . وقل مثل ذلك عن الذي يفهم (النوتة الموسيقية) للحن من الألحان، ثم لا يتذوق جمال اللحن، ولا يهتز فيه لروعة الإيقاع، ولا يستجيب لأنغامه التصويرية! إن فهم الحياة هو أن تفتح لمشاهدها أبواب القلب. . إننا (نراها) هناك تحت إشعاع الومضة الفكرية، و (نتلقاها) هنا تحت تأثير الدقة الوجدانية! وعلى مدار هذه الكلمات تستطيع أن تنظر إلى نجيب محفوظ في أعماله الفنية السابقة. . إنك لا تستطيع أن تجرده من التذوق الشعوري للحياة، ولكنه التذوق العابر الذي لا يتناسب وخبرته العميقة بها وفهمه الأصيل!

ويبقى بعد ذلك عنصر فني ثالث كان ينقص هذا القصاص الموهوب. . أتدري ما هو؟ هو تلوين الأسلوب القصصي تلوينا خاصا يتلائم وجو المشهد المصور، أو طبيعة النموذج البشري المرسوم. . في القصة مثلا موقف إنساني يتطلب عند تصويره أسلوبا معينا تتوفر فيه لمعات الشاعرية، وموقف آخر لا نحتاجفيه إلى مثل هذا الأسلوب الشاعري، وعندما نتناول الملامح المادية لمشهد من المشاهد أو لشخصيةمن الشخصيات، بأسلوب السرد الفني المألوف الذي تحتشد له القدرة على التقاط الجزئيات، وهناك موقف ثالث يفرض علينا أن نعالجه بأسلوب آخر هو أسلوب التجريد والتحليل، حين تعترض طريقنا تلك اللحظات

الزاخرة بألوان من الحركة الذهنية أو النفسية!

نجيب محفوظ في أعماله الفنية السابقة يكاد يستخدم أسلوبا واحدا في تصوير شتى المواقف والسمات، وأعني به أسلوب الرد الفني المألوف. . مثل هذا الأسلوب إذا ارتضيناه في تلك المواقف المهيأة لتجسيد الملامح المادية للمشاهد والشخوص، وتجاوزنا عنه في تلك المواقف الأخرى المخصصة لتسجيل الحركة الجائشة في الذهن أو المختلجة في الشعور، فإننا لا يمكن أن نسيغه بالنسبة إلى المواقف الإنسانية؛ لأنه يفقدها طابع الجو الشعري الذي يجب أن تعيش فيه، هذا الجو الذي إذا فقدته تعرضت للهمود واعتراها الفتور!

كل من هذه العناصر الفنية الثلاثة التي كانت تنقصه بالأمس: عنصر الالتزام الدقيق لحدود

(الواقعية الأولى)، وعنصر (التذوق الشعوري) الكامل للحياة، وعنصر (التلوين الخاص) للأسلوب القصصي؛ كل منها قد أحتشد له اليوم في صورته القوية الرائعة في (بداية ونهاية)، وإذا هذه الرواية القصصية تعد في رأي النقد عملا فنيا كاملا لا مثيل له في تاريخ القصة المصرية باستثناء (عودة الروح) لتوفيق الحكيم!!

(بداية ونهاية) قصة مصرية تمثل حياة أسرة. . أسرة تذوقت طعم الفقر وتجرعت ذل الفاقة، بعد أن فرقت بينها وبين عائلها تلك اليد التي تفرق بين الأحياء. والفقر وحده هو المسؤول عن البناء الذي تصدع والشمل الذي تبدد، شمل الأسرة الكادحة التي كان للتضحية عند كل فرد من أفرادها طعم ومذاق.

الأم، وحسين، وحسن، وحسنين، ونفيسة؛ كل نموذج من هذه النماذج البشرية التي كونت الهيكل الإنساني العام للقصة، قد فهم التضحية فهما خاصا وكانت له فيها وجهة نظر خاصة، وجهة نظر حددت الطريق وقررت المصير. . كانوافلاسفة حياة؛ فلاسفة أخضعوا الفلسفة لمنطق الشعور المحترق بلهب الحرمان، حتى خرج بعضهم من الفلسفة وهو منحرف العقل مريض النفس، والفقر وحده هو المحور الرئيسي الذي دار حوله السلوك الإنساني لهؤلاء المنحرفين!

هذه الأم العظيمة كان عليها أن تكافح بعد موت الزوج لتخلق من هؤلاء الصغار رجالا يواجهون الحياة وهؤلاء الأبناء الأربعة لم يكن لهم مورد في الحياة غير تلك الجنيهات الخمسة التي كانت تأتيهم من معاش الوالد الراحل؛ كامل أفندي علي الذي أنفق في خدمة الحكومة زهرة العمر وعصارة الشباب! وماذا تفعل الجنيهات الخمسة لأسرة تواجه مطالب الحياة من مأكل ومسكن وملبس ومحافظة على المظهر القديم أمام الناس؟! هنا يبرز دور الأم. الأم الصابرة العاقلة الحازمة المكافحة في سبيل البقاء. لقد باعت أثاث البيت قطعة بعد قطعة لتسكت البطون الصارخة من وطأة الجوع، وهجرت (الشقة) التي كان يدخلها النور

والهواء ولجأت إلى أخرى عشش فيها البؤس والظلام توفيرا لقروش معدودات، وقضى حسنين وحسين أيام الدراسةالثانوية بلا (مصروف) يومي يشعرهما بأن للحياة فرحة يستشعرها الصغار من الأحياء، ومضت نفيسة تطرق الأبواب لتحصل لهم على الأجر الضئيل الذي كان يأتيها من حياكة الثياب بين حين وحين، وهام حسن الذي دلله أبوه حتى طردته المدرسة ونبذته الحياة، هام عل وجهه في الطرقات بحثا عن لقمة العيش من كل طريق غير شريف!

ودارت عجلة الزمن والأم العظيمة الصابرة ما زالت تكافح. . كانت الطريق طويلة، رهيبة، قد انتثرت على جانبيها الصخور. ومع ذلك فقد مضت في طريقها لا تلوي عل شيء: يد تجفف العرق المتصبب من حرارة الكفاح، ويد تدفع إلى الأمام بالقافلة المكدودة التي أنهكها طول المسير! لقد كان هناك أمل. . أمل يتراءى على جنبات الأفق البعيد فينسيهم أنهم متشردون وإن ضمهم مسكن، عراة وإن سترهم ثوب، جياع وإن حصلوا على الرغيف. أمل يتمثل في الغد القريب الذي سيفتح عيني الأم الصابرة المكافحة على منظر فريد، تسعد فيه برؤية الصغيرين وقد أصبحا رجلين، يشغل كل منهما بعد الفراغ من التعليم مكانه المنتظر في دنيا الناس!

وجاء الغد المرتقب يحمل إليهم البشرى. . . لقد ظفر حسين بالبكالوريا والتحق بإحدى الوظائف في مدينة طنطا. قبل الوظيفة الصغيرة ليستطيع أن يمد يد العون إلى أسرته. أخوه حسنين، أمه، أخته نفيسة، كان من الظلم ألا يختصر طريقه في الحياة ليخفف عنهم جزءا من أعباء الحياة. ترى أكان يمكنهم أن يصبروا على شظف العيش حتى ينتهي من دراسته العالية؟ محال! وحين أضمأت نفسه إلى هذه الحقيقة أقدم على التضحية وهو سعيد مرتاح البال.

لقد ضحى حسين بآماله العراض. . إن المصير الذي ينتظرهلن يفترق عن مصير أبيه، وهو مصير الألوف من الموظفين الصغار! مستقبل محدود مظلم ولكنها فلسفة حياة. . وفلسفة الحياة تفرض على أصحابها التضحية في كثير من الأحيان! ونفيسة. . لقد ضحت هي الأخرى وكانت التضحية فادحة، ضحت بالشرف الغالي والعرض المصون. . كانت فقيرة، ودميمة، وأين الزوج المأمول وقد حرمت إلى الأبد عزة المال ونعمة الجمال؟ رجل واحد يستطيع أن يقبلها زوجة وتعيش معه تحت سقف واحد، رجل مضيع في الحياة مثلها فقير دميم! ولقد وجدت يوما هذا الرجل. . هذا الحيوان الذي استجابت له مرغمة تحت تأثير الحلم الجميل، حلم كل عذراء قبيحة الوجه وجدت بعد طول انتظار من يقول لها إنك جميلة، يا زوجة الغد القريب! وسقطت نفيسة. . وفر الحيوان الذي سلبها الشرف وتركها وحيدة تواجه الخاتمة في معركة المصير.

وقالت لنفسها يوما: ماذا بقي لك يا بائسة؟ لا مال، ولا جمال، ولا شرف. . هل بقي شيء تحرصين عليه؟ هل هناك ذرة من أمل في زوج جديد؟ وحين قهقه في أعماقها الجواب. . انطلقت تلبي رغبات الجسد عند كل عابر سبيل! وأمها، وأخواتها، لا أحد يعلم بم انتهت إليه من ضياع. انحدار إلى الهوة السحيقة الرهيبة ولكنها فلسفة الحياة. . وفلسفة الحياة تفرض على أصحابها التضحية في كثير من الأحيان! وحسن، ذلك الشريد الهائم في الطرقات. . ماذا فعلت به المقادير؟ لقد جاع. . جاع لأنه لا يصلح لأي عمل (نظيف)، لقد فقد القدرة على أن يحيا حياة نظيفة، مرتبة، هادئة فيها أمن وفيها استقرار!

هناك في الحياة خط سير يستطيع أمثاله أن يسلكوه. . خط سير يعج بالدروب والمنحنيات التي تختفي فيها الكرامة، والشرف، والفضيلة، والإنسانية. . قيم ستختفي إلى الأبد، ومثل ستذهب إلى غير معاد. .

ولكن ستظهر بعدها اللقمة الدسمة التي تشبع كل معدة خاوية، وسيقبل في أثرها الثوب الجديد الذي ينعش كل جسد مهان، وستخطر البسمة المشرقة التي تسعد كل شعور ملتاع، وهذ1 هو خط السير الذي سلكه الفتى الشريد. . يتاجر بالمخدرات، ويعيش مع العاهرات، ويالها من حياة. حياة ينكرها عليه الشرفاء من أسرته وفي طليعتهم أخوه حسين، ذلك الفتى الطموح الذي تخرج في الكلية الحربية وأصبح ضابطا في سلاح الفرسان!

من فيض هذه الحياة الآثمة الهابطة استطاع حسن أن يخلق من العدم حياة أخوين. . ساعد الأخ الموظف حتى أستقر في وظيفته، ساعده بتلك الأسوار الذهبية التي سطا عليها من بيت عشيقته ذات صباح، ولولا التضحيات المماثلة التي قدمها لأخيه الضابط لما استطاع أن يسدد أقساط الكلية الحربية، وأن يرتدي الحلة لأنيقة ذات النجمة الصفراء. . ومع ذلك يعيره الضابط الشريف بحياته الشائنة، ويحاول جاهدا أن ينتشله من وهدة الإثم والهوان! لقد انحرف حسن وحاد عن الطريق، ولكنها فلسفة حياة. . وفلسفة الحياة تفرض على أصحابها التضحية في كثير من الأحيان!

أما حسنين، الملازم حسنين كامل علي فقد كانت تضحيته من ذلك النوع النادر في حياة البشر. . كان فتى طموحا منذ نشأته الأولى في (عطفة نصر الله) بحي شبرا، تلك العطفة الحقيرة التي لم تحد من طموحه يوم أن كان تلميذا صغيرا في بالمدرسة التوفيقية! كان طموحا رغم فقره، ورغم حاجته، ورغم البيئة التي نشأ فيها ولم تكن توحي لأحد من أبنائها بأمل الطموح. . إنه يقارن منذ أن صار ضابطا بين يومه وأمسه، فيشعر بهول الفارق بين حاضره وماضيه! هذه العطفة الحقيرة التي شهدت أيام بؤسه وبؤس أسرته يجب أن تغادرها الأسرة إلى مكان بعيد؛ مكان يسدل الماضي البغيض ستارا من النسيان. . حسبه أن تلك العطفة القذرة قد شهدت أثاث بيتهم وهو يباع قطعة بعد قطعة ليعيشوا على الكفاف. وحسبه مرة أخرى أن تلك العطفة القذرة قد شهدت أخته نفيسة وهي تسعى إلى كسب عيشهم بعد أن كلت قدماها من السير وتعبت يداها من طرق الأبواب. وحسبه مرة ثالثة أن تلك العطفة القذرة قد شهدت رجال البوليس وهم يقتحمون المسكن الذليل بحثا عن أخيه المجرم الطريد. . كل شيء قد فسد يستطيع حسين أن يصلحه إلا شيا واحد

يتعذر معه الإصلاح، وهو أن يهتدي حسن إلى الطريق القويم! لقد استطاع الفتى الطموح أن ينتقل بأسرته إلى مصر الجديدة، وأن يرد إلى نفيسة كرامتها وكرامة الأسرة حين حال بينها وبين الهوان!

وهناك في ذلك المكان الجديد الآمن تنفس حسنين الصعداء. . لقد بدأت الحياة تبتسم بعد طول التهجم والعبوس، حين انقطعت أخبار حسن الذي كان يهدد طموحه وسمعته ونظرته إلى المستقبل كما فكر فيه!

و (بهية)، تلك الفتاة التي أحبها في عطفة نصر الله وخطبها إلى أبوها وهو تلميذ صغير، تلك الفتاة (البلدي) الفقيرة الساذجة لم تعد تصلح لأن تكون زوجة لضابط عظيم. . إن زوجة المستقبل وشريكة الحياة هناك في ذلك القصر الأنيق الذي ذهب إليه (خاطبا) منذ أيام. إنه يريد أن يقطع كل علاقة تربطه بعطفة نصر الله، ولو كان له في تلك العطفة حب قديم، حب قضى بين أحضانه أجمل أيام العمر وأسعد لحظات الشباب!

لقد اختفى حسن، واستقرت نفيسة، وذهبت بهية، وبقى أن يفتح القلب على مصراعيه ليستروح أنسام السعادة التي كان يحلم بها منذ بعيد. . ولكن القدر لا يريد للأسرة البائسة المسكينة أن تستريح، ولا يريد للفتى الطموح الأمل أ، يسعد بأحلامه وأمانيه! لقد هوى بضرباته السريعة المتلاحقة على أحلام العمر فبعثرها مع الريح في كل طريق. . لقد حيل بينه وبين حبه الجديد، حين رفضت الأسرة العريقة المترفعة أن تصاهر ضابطا يتهامس الناس حول أخته ويتحدثون عن أخيه. وحين أفاق حسين من الصدمة الأولى زلزلت

كيانه الصدمة الثانية، حين جيء إلى بيته بأخيه حسن محمولا تنزف منه الدماء، وعليه أن ينتظر اللحظة الرهيبة المنتظرة، حين طرق الباب رجل من رجال الشرطة ليستدعيه إلى قسم البوليس. حسن! بالطبع ليس هناك غير حسن، تلك السحابة السوداء في أفق ينذر بالغيوم. . وحوله، حوله وحده ينتظره هناك سؤال وجواب!

وفي قسم البوليس وجد أخته الساقطة بدلا من أن يجد استجوابا عن أخيه الطريد. . لقد ضبطت نفيسة في بيت يدار للفساد!! وأظلمت الدنيا في عينيه وضاق الفضاء. . لقد فقد كل شيء: فقد حبه، وفقد أمله، وفقد سمعته وفقد في الحياة القصيرة التي ملاها بالأحلام كل حلم جميل! وأخذ أخته وخرج إلى أين؟ لا يدري فكره ولا تدري قدماه. . إن في أمواج النيل الحانية مثوى لكل بائس شريد منبوذ من الحياة، هكذا قالت له نفيسة حين سألها أن تحدد لنفسها الطريق! ومضت أمامه ومضى خلفها إلى هناك. . إلى حيث يتاح للبائسين أن يعرفوا طعم الراحة بعد طول العناء! وقال الملازم حسنين لنفسه: لقد حكمت عليها بالإعدام فقبلت الحكم وهي راضية صابرة مستسلمة للقضاء. . وما كان أشجعها وهي تستقبل الموت وكأنها تستقبل الزوج الحبيب الذي قضت العمر تفتش عنه في دروب الأمل. امرأة ضحت بأيام الحياة فرارا من قسوة الحياة، وأنت؟ أنت يا رجل ماذا تنتظر؟!

ترى هل كان الملازم حسنين شجاعا حين لحق بنفيسة، أم كانجبانا حين فر من لقاء الناس؟ مهما يكن من شيء فقد كانت تضحيته فلسفة حياة. . وفلسفة الحياة تفرض على أصحابها التضحية في كثير من الأحيان!.


أنور المعداوي
02 - 07 - 1951

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى