الطيب طهوري - ناقة قديشة

إيه يا المبروك.. إيه!.. صوت نايك اليوم أكثر حزنا.. علق أحدنا.. ـ وفرحا أيضا.. أكمل آخر.. ـ وأرق صوتا..أضاف الثالث.. واستيقظ الوهج في الداخل.. غزالا كان.. تحولت الأرجل والأذرع رقصا غجريا.. مد عمي خليفة في مقدمة الركب يده اليمنى.. قبض على طرف البرنوس وأخذ يلوِّح يمينا وشمالا.. رجلاه تتحركان إلى الأمام.. وفي انسجام مدهش ترتفعان وتنزلان.. وفي الوسط كان عمي الساسي..طويل القامة..أبيض الوجه عريضه.. يخيل للناظر إليه أنه إما أبله أو مجنون.. تغرينا براءته المفرطة فنتدافع ليكون قريبا منا.. نستمع إليه منجذبين وهو يحكي مزهوا بجده: كان إذا وُضعت قصعة الشخشوخة أمامه يجلسني في حجره.. ويأكل.. لا ينهض حتى يأتي على آخرها..ثم يتبعها بدلو ماء كامل.. ويضيف: وكان إذا أتته العاقر يمسح بكفه على بطنها هكذا ـ ويمرر كفه على بطنه ضاحكا ـ فتنجب الغلام الذي تريد.. ونقول مؤكدين: وليا صالحا كان جدك يا عمي الساسي.. وليا صالحا حقا كان.. وكان عندما يحس بأن الوهج ازداد اشتعالا أكثر فينا، يطلق نكتة ما.. تسري بيننا كالماء الزلال في الحلوق.. تعيدنا إلى أنفسنا.. تضحكنا وتبكينا.. ثم يرفع صوته عاليا: بَلْبَلْ بلبل بلبل بلبل بَلْبَلْ بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل إيه يا عمي الساسي.. إيه..! كانت أصوات نقرات الدفوف المصاحبة لأنين الناي تملأ الفضاء حولنا.. وكنا نواصل سيرنا بطيئين حين لاح في الأفق الممتد أمامنا قطيع الإبل.. ها هو القطيع.. انظروا..إنه قريب منا.. قال عمي خليفة.. ونظرنا.. وكان عمي الساسي مايزال يحكي عن جده حين ارتفعت نقرات الدفوف فجأة، وامتد صوت الناي عاليا كأنه يعلن عن فرح العمر الذي انتشر فينا.. وتقدمنا..كنا نسرع في اتجاه القطيع.. أصواتنا تتداخل وأرجلنا تسابق بعضها.. رأينا اضطراب القطيع في البدء.. ثم رأيناه وقد عاد إليه الهدوء حين وقفنا.. أمام القطيع وقفنا.. سادنا الصمت المفاجئ.. ووحده المبروك واصل حنينه الدافئ، تعانقه نقرات الدفوف الخفيفة من حين إلى آخر.. وكانت عيوننا مشدودة إلى هناك حين رأيناها تحرك أرجلها الأربعة في شبه رقص آدمي.. العينان في اتجاهنا.. والعنق الشهباء تمتد إلينا.. شق عمي خليفة طريقه بين النياق خفيفا.. فرحا.. مسح بكفيه على فخذها الأيسر.. وشمَّ.. رفعت الناقة رجلها إلى الأعلى.. ثم.. إليه أنزلت رأسها.. مد عمي خليفة ذراعه واحتضنها.. وكان رأسها يلامس صدره، حين صاح: ريحة لَوراس ياناس.. ريحة لوراس.. التفتنا جميعا ونحن نسمع صيحته: كيف هي ريحة لوراس ياعمي الساسي.. كيف؟! وتأملَنا.. حد الدهشة تأملنا.. عمي الساسي.. ثم أجاب: عندما تحسون بالفرح يملأ جوانحكم.. وترون الأمل يعانق القلوب فيكم.. تلك هي.. وأطلق العنان لصوته: بَلْبَلْ بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل بلبل.. صحنا جميعا: إننا نحس به.. والله نحس به.. مشى عمي خليفة في اتجاهنا.. ومشت الناقة.. واستدرنا.. بعض النسائم الخفيفة تأتي من جهة الشمال.. والأرض شبه جرداء.. وكان عمي خليفة في المقدمة، يلوِّح ببرنوسه، مادا ذراعيه إلى الأمام حين دخلناها.. كان أنين الناي فرحا أخضر في أزقتها.. كنا نسير.. والناقة تسير مبهورة في وسطنا.. كنا نسير والأطفال حولنا صراخا يتعالى فرحا ند يا.. كنا نسير.. والنساء الواقفات في الأبواب يزغردن سعيدات.. يمرِّرن أكفهن على الناقة.. ينزعن المناديل من على الرؤوس ويلوحن بها.. يزغردن أكثر وينثرن الحلوى.. يفتحن قارورات العطر ويسكبنها علينا.. كنا نسير.. وكان الوقت مساء.. صاح عمي خليفة: ياناس.. أيها الركب..حيث تبرك الناقة نبيت.. وبتنا.. القمر ساطع.. والنجوم المتلألئة تُعِدنا.. وكانت الشمس تلقي بأشعتها الوهاجة حين كنا نتخاطف كريات الروينة من يدي عمي الساسي فرحين.. وانطلقنا.. ثلاثة أيام كاملة.. وحيث تبرك الناقة.. كنا نبيت.. وسرنا.. وكان اليوم الرابع.. صباحا.. حين كنا.. هناك.. عمي خليفة في المقدمة.. والناي حنينا ينأى.. كانت الخيام منتصبة أمامنا.. ورأينا الجموع وضاءة مستبشرة تنطلق نحونا.. ودخلنا.. دخلنا الساحة فرحين.. وانقسمنا.. قبائل.. كنا.. تعددت النايات.. وارتفعت أصوات الدفوف مدوية.. وسرنا.. الذين غرب الوادي.. وقفوا شرقا.. والذين شرقه.. وقفوا غربا.. وفي الوادي أوقفنا الناقة.. حيث تتوجه يأتي الخير.. زرعا وضرعا.. قلنا.. ومشت الناقة.. وتوقفت.. ثم مشت.. وتوقفت..و.. كانت الحجارة حقدا يصب.. تئن الناقة.. تتلوى.. والحجارة تصب.. الواقفون في الشرق: إلى الغرب.. إلى الغرب.. والواقفون في الغرب: إلى الشرق.. إلى الشرق.. كان الصياح يتعالى هرجا مرجا.. و.. بركت الناقة.. ثنت ساقيها الأماميتين ثم الخلفيتين.. وبركت.. ـ لا خير إذن.. صاح عمي الساسي حزينا.. ـ ما كنا هكذا..حرة كنا نطلقها.. تتجه حيث تشاء.. وحيث تشاء تسير.. أضاف عمي خليفة.. ما كنا هكذا.. ما كنا هكذا.. لا خير إذن.. ومتحسرا ضرب الكف بالكف.. واستدار.. الأرض جرداء.. وهرجا.. مرجا.. كان الوقت.. ورأيناهما: من شرق الوادي انطلق.. لحيته المشعثة تعانق ركبتيه.. والقندورة الفضفاضة تحاصره.. من غرب الوادي انطلق الآخر.. رأسه حاسر.. والبذلة سوداء.. كانا.. كالبرق.. ترتفع مؤخرة شاش المقندر وتنزل.. وترتفع مؤخرة معطف الآخر وتنزل أيضا.. ورأيناهما يَغمدان خنجريهما في مؤخرة عنق الناقة.. و.. تلوت الناقة.. كانت تبكي.. ترنحت يمينا.. ثم شمالا.. ثم.. رغت رعدا.. وتحركت من تحت أرجلنا الأرض صخورا.. رحماك يا رب..!.. صاح عمي الساسي.. وصحنا: رحماك يارب.. رحماك يارب..!.. ومبهوتين جلسنا.. وكان يسرع.. رأيناه يمسح بكفيه على الحُوار.. يغطيه ببياض برنوسه، ويحمله.. وتسمرت عيوننا فيه حين عدا وكأنه يطير في اتجاه الخيام التي كانت تنتصب في الساحة، أمام مقام قديشه.. وسمعنا غناء دافئا يأتينا من هناك: قديشه زينةْ لوطان بين جْبال محضيه خلوتْها سبعْ بيبـان اُفيها ديمه محميـه وحين استدرنا.. كان السراب يمتد.. ورأينا ضباعا وذئابا وثعالب تتقدم من بعيد.. في اتجاهنا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى