عبد القادر وساط - ابن علي يخطب في نحاة البصرة

تحل اليوم الذكرى السنوية العاشرة للخطبة التي ألقاها طاغية نجدان في نُحاة البصرة، يوم اعتقالهم. وها هو نص الخطبة، كما رواه أبو الحسن الشيباني في كتابه ( كشف الظنون.)

قال أبو الحسن الشيباني:
كنتُ في مجلس ابن علي، حين جيء بنحاة البصرة وهم يرسفون في الأغلال، وفيهم عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي، وعيسى بن عمر الثقفي، وأبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، والأخفش الأكبر، وسيبويه، واليزيدي، وأبو زيد الأنصاري، وقطرب، وأبو عمر الجرمي، والمازني، ويونس بن حبيب. فلما مثلوا بين يدي الطاغية، تفرسَ فيهم طويلا، ثم وقف واتكأ على عصاه، وخاطبهم قائلا:
- يا نحاة البصرة، اعلموا أنكم شربتم كأس الجهالة وركبتم مركب الضلالة، وعزمتم على إشعال نار الفتنة، وأحدثتمْ في لغة العرَب أحداثاً لم تُسبَقوا إليها: تَشدَّدتمْ في السماع، فلم تكونوا تأخذون إلا عن جفاة الأعراب، في أطراف الجزيرة العربية. وبالغتم في التحري عن الشاهد السليم، وزعمتم أن أكثركم من قيس وتَميم، وحقّرتمْ نُحاةَ الكوفة ووصفتموهم بأنهم من عرب اليمن، الذين لا يطمئن إلى لغتهم أحد، لعدم خلوص العربية فيهم، ولأنهم خالطوا الأحباشَ والهنود، وتزوجوا منهم، فامتزج الكلام العربي لديهم بغير العربي. وعبتم على نحاة الكوفة كذلك أنهم أسسوا نحْوَهمْ على القياس، وتساهلوا في الرواية، واعتدّوا بكل مسموع، فلم يفرقوا بين غثّ وسمين. وافتخرتم بأن البصرة تقع في الجنوب الغربي من العراق، على طرف البادية، في صقع عاش في الحرية البدوية، ولم يمتد إليه نفوذٌ أجنبي، يُغَيّرُ من طبيعته. وقلتم إن البصرة هي أدنى مدن العراق من العرب الأقحاح، في البوادي العربية، وزعمتم أن عدم اختلاط أهلها بدم أجنبي قد جعلها تحافظ على سليقتها العربية، وهكذا حططتم من شأن الكوفة، لأنها شديدة النأي عن الجزيرة العربية، إذْ تَفصل بينهما صحراءُ السماوة، المترامية الأطراف، وقلتم إن نُحاتَها يستصعبون الرحيلَ إلى الجزيرة العربية، كي يسمعوا الكلام العربي الخالص والفصيح. وهو كلام باطل. فهذا لعمري شيخنا أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي الكوفي، يشهد على أكاذيبكم. فقد طاف زمناً طويلاً ببادية نجد والحجاز، وأقام بالبصرة مدة غير يسيرة، في زمن شيخكم الخليل بن أحمد.
وزعمتم أن أهل الكوفة إنما قرّبهم الخلفاء العباسيون لرد الجميل إليهم، بسبب مواقفهم القديمة المعروفة، فعَزّت الكوفة، حسب أقوالكم، بعد ذلّ وهوان، وصار يُشار إلى نُحاتها بالبنان. ونسيتم أن معاوية بن أبي سفيان قد فعلَ الشيء نفسه مع البصريين، بعد أن حفظ لهم جميلَ تأييدهم للأمويين.
وعبتم كذلك على أهل الكوفة أنهم لم يكونوا يتجاوبون مع النحو في أوله، وأنهم انصرفوا عنه إلى رواية الأخبار والأشعار. فإياي وهذه الأكاذيب، فإني لا أوتى بمن يروجها إلا رميتُ به في سجن الكثيب. وإياي ودعوة " العنصر العربي البصري الخالص "، فإني لا آخذ داعيا بها إلا نكلتُ به. واعلموا أني آليتُ على نفسي أن آخذ المصيبَ منكم في النحو بذنب المخطئ، وأن أجالدكم مجالدة العارف بكم، وبما جُبلتم عليه من سوء الفعل. فاتقوا الله فينا وفي أنفسكم واحذروا مزالقَ الفتنة، فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة. واعلموا أني لا أعِدُ إلا وفيت، ولا أهمّ إلا أمضيت. وقد أمرتُ صاحبَ شرطتي بإلقاء القبض على كل شاعر يتخذ البصريون من شعره الشواهدَ النحوية، وبدأتُ بأولئك الذين استغل سيبويه أشعارهم لإثبات أباطيله. وهكذا أمرتُ باعتقال عدي بن زيد العبادي، بسبب بيته الشعري:
أكلَّ امرئ تَحْسبين امرءاً = و ناراً تَوَقّدُ بالليل نارا ؟
وأمرت باعتقال جران العود، الذي قال:
يا ليتني و أنتِ يا لميسُ = ببلدة ليس بها أنيسُ
وباعتقال النجاشي الذي قال:
فلستُ بآتيهِ و لا أستطيعهُ = و لٰكِ اسْقني إنْ كان ماؤكَ ذا فَضْل
وباعتقال هشام، أخي الشاعر ذي الرمة، بسبب بيته:
هي الشفاءُ لدائي إن ظفرتُ بها = و ليس منها شفاء الداء مبذولُ
وباعتقال ذي الرمة نفسه، لأنه صاحب البيت التالي:
ديارَ مَيّة إذْ ميٌّ تُساعفنا = و لا يَرى مثلها عُرْبٌ و لا عَجَمُ
و باعتقال العُجير السلولي الذي قال:
إذا متُّ كان الناسُ نصفان شامتٌ = و آخرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أصنعُ
وسوف يُنقل شعراءُ الشواهد هؤلاء إلى سجن الكثيب. وإني لأرجو أن تطول هذه اللائحة، حتى لا يبقى هناك شاعر طليق من بين أولئك الذين ينظمون لكم الشواهد. وأيْم الله إنّ فيهم لأسْرى كثيرةً، فليحذرْ كل واحد منهم أنْ يكون منْ أسراي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى