يوسف يعقوب حداد - عاصفة في قلب

الحب، والأمومة، اتفقنا على الصراع في قلب زوجة. . .

فلماذا تراها فاعلة؟!

كنت قرب النافذة أتلهى بشغل الأبرة، واستروح آخر نسمات الربيع، وألقى على الطريق نظرات متباعدة لعلى أرى طفلي وهما في طريقهما من المدرسة إلى البيت. وفي آخر نظرة لم تقع عيناي على وجهي طفلي، وإنما رأيت زوجي يجتاز آخر مرحلة من الطريق إلى البيت، فألقيت على الساعة نظرة وجلة، فإذا زوجي قد عاد اليوم مبكر بنصف ساعة على غير عادته! واستولى على القلق، فألقيت ما في يدي، وأسرعت إليه خافقة القلب، وسألته - ما بك يا عزيزي؟

فأجابني بصوته الهادئ النبرات - لا شئ.

ولكنه كان يخفي عني الحقيقة، فقد كان وجهه شديد التجهم والانقباض. وحين دلفنا إلى داخل المنزل، جلس (جان) على حافة المقعد، وقال:

- الحقيقة أنني استلمت رسالة اليوم، أثارت اهتمامي. هي من ابن عمتي (دك برنت) ولعلك تتذكرين مقابلتك له في الشمال، يوم كنا نقضي شهر العسل.

فأمنت على قوله - نعم. . . أتذكره جيداً، وقد استلطفته كثيرا. ثم قلت مازحة - كان يؤمئذ يجتاز أخطر أدوار الشباب وقد أولع بي فكان ولعه هذا مصدر سخريتنا منه. لعله اليوم في الرابعة والعشرين. . . أليس كذلك؟!

ولكنه لم يهتم بحديثي، ومضى يقول - استطاع الحصول على عمل في المطار لنا، وأنه يتساءل فيما إذا كنا نقبله عندنا ريثما يجد له مكاناً آخر.

وبدا عليه أنه يسألني رأيي، فقلت له - لم لا؟. لدينا غرف كثيرة، يستطيع أن يشغل إحداها. . . ثم أننا هنا نشكو الوحدة، فلا قريب ولا صديق يزورنا ونزوره فسيخفف عنا (دك) هذه الوحدة. . . والأطفال؟. . تصور وقع الخير عليهم.

وسرعان ما أولع الطفلان بدك، وسرعان ما انسجم دك معهما. . . وكثيراً ما كانوا يتحدثون عن الطيران، حتى أصبح كل من في المنزل خبيراً بأموره وما يتعلق به!. . ولكن ولع دك بالطفلين لم يكن أكثر من اهتمامه بي!

ومرت الأيام، فإذا زوجي يتغير. لم يعد يدير دفة الحديث كما كان يفعل من قبل، وبدأ ينفرد بنفسه كثيرا. . . وازداد اهتمامه بالصيد وكان الصيد هوايته المفضلة. وكنا ذات مساء نجلس حول مائدة العشاء، فبدأ الطفلان سلسلة أسئلتهم الساذجة.

قال جاك - كيف كان طيرانك اليوم يا دك؟

- لا بأس به يا عزيزي.

وقال (بل) محدثاً شقيقه - ألم تر مغامرته اليوم فوق بناية المطار؟

فتحدث جان زوجي من بعيد، وقال لبل وفي حديثه الشيء الكثير من العتب واللوم: إذن فقد ذهبت اليوم إلى المطار وقد وعدتني بالأمس ألا تذهب!. . أنسيت أننا اتفقنا على تنسيق طوابع البريد معا؟ فهتف الطفل في أسف قائلا - والله. . . لقد نسيت. . . معذرة يا أبي.

ثم عاد إلى دك يحدثه عن الطيران، فاستطعت أن أرى نظرات الحقد والغضب في عيني زوجي جان!

وصعد جان إلى غرفته لينام، وجلسنا أنا ودك والطفلان نصنع نموذجاً لطائرة دك من الكارتون، ومضى الوقت ونحن لاهون، وشعرت وقتئذ بسعادة الشباب تعود إلى تخدير حواسي مرة أخرى. . .

دك الشاب المرح. . . وهذا العمل الصبياني. . . أعاد إلى ذكريات الشباب.

وسمعت زوجي يقول وهو واقف على باب مخدعه في الطابق الثاني - لقد حان موعد الأطفال. . . الساعة الآن النصف بعد العاشرة!

ثم عاد إلى فراشه. وصعد الطفلان إلى فراشيهما، وبقينا أنا ودك الذي قال لي ضاحكا - ألم يحن موعد نومك أنت الأخرى؟

فضحكت، وأدرت عيني إلى النافذة، فإذا أنا أرى القمر الساطع يتوسط كبد السماء، فخيل إلى القمر يشاركني سعادتي!

قال دك - ألم تجربي الطيران في ليلة مقمرة؟ - إنها خسارة. . . أليس كذلك؟

- عندي طائرة جاهزة في أي وقت.

شكراً. . . إنني متعبة الآن.

لا شك أن دك كان يدعوني لنزهة ليلية. . . ولكنه أم يجسر على توضيح رغبته. . . ولكنني فهمتها. . . مسكين دك!

وصعدت درجات السلم متخاذلة، وفتحت باب مخدع زوجي فإذا هو غارق في نومه. فاقتربت منه أمشي على رؤوس أصابعي، وانحنيت عليه أقبله، ولست أدري لماذا جاءتني تلك الفكرة. فكرة المقارنة بين وجهه الذي دبت فيه معالم الكبر، ووجه دك الريان بالشباب!

وسرت إلى النافذة حزينة متألمة، فطالعني القمر بوجهه الضاحك. . . فإذا أعود أنا إلى دك. . . وما هي إلا لحظات، حتى كنا نشق طريقنا مسرعين إلى أرض المطار.

قلت لنفسي وأنا أسبح في الجو إلى جانب دك - يالها من سعادة! وتمنيت لو أن هذه النزهة الجوية لا تنتهي أبداً.

- أأعجبتك هذه النزهة؟

- بل أحببتها كل الحب.

- وأنا؟

في هذا السؤال كان بل جاداً كل الجد، وخيل إلى أن الحب يصرخ في عيني: دك - أوه دك!. . لا تكن.

ولكنه لم يمهلني، وعاجلني بذراعين قويتين، وشفاه ملتهبة.

- أحبك يا روث. . أتذكرين أول مرة قابلتك فيها. . . وكنت تقضين شهر العسل؟. . منذ ذاك اليوم أحببتك، ولكني لم أجد فرصة لأعرب لك عن حبي.

كان زوجي شديد الولع بطفليه. . . لم يكن بعاملهما كما يعامل الأب أولاده، وإنما كان يعاملها كما يعامل الصديق صديقه. لا يكاد يدخل البيت حتى يأخذ طفليه ليشغل كل وقته معها. وأعتاد الطفلان هذه الحياة، حتى أنهما كانا يدعوان والدهما باسمه المجرد، حتى خلا البيت من (بابا) أو (ماما) وكنت أنتقد هذه الطريقة في تربيته لولديه. ولكن رأيه لم يكن ليتأثر برأيي أنا.

وذات يوم أخذ زوجي يعد معدات السفر مع طفليه. . . مع طفليه فقط!. . وتوسلت إليه أن يأخذني معهما، ولكنه أبى على هذه الرغبة - جان. . . خذني معك. ستحتاج لمن يطبخ طعامكم، ويغسل ملابسكم. . . جان، ربما تمرض الطفلان، فماذا تفعل وحدك؟

ولكن السيارة ابتعدت بهم عن عيوني، فوقفت وراء النافذة أسكب دموعي في حرقة ولوعة.

وسمت دك يقول لي في تأثير شديد لماذا تحاربين حبنا يا ورث؟ إن الحب لأسمى من هذه القيود البغيضة التي تقيد عاطفتك بالأغلال

وأمطرني بسيل منهمر من قبلاته.

وكتبت لجان رسالة طويلة أطلب حريتي. . . وانتقلت مع دك إلى منزل صغير أحلناه إلى جنة صغيرة. ولكن حبي لدك لم يكن كل شئ بالنسبة لسعادتي. . . حب دك لم يستطع أن ينسيني طفلي، فأنا في منتصف الليل استيقظ من نومي، فإذا وسادتي مبللة بدموعي. . . كنت أحلم بهما.

وأقف أمام المرآة فأرى جمالي يعتريه الذبول. . . إنني أكبر من دك بعشرة أعوام، ومعنى هذا أنني أسبقه إلى الشيخوخة بعشرة أعوام. . . وفي هذه المدة من يدري ماذا سيكون. . . ربما انصرف دك عن حبي إلى حب امرأة أصغر مني وأجمل!. . وربما هذا لن يكون. وربما كبر طفلاي فيدركان معنى الأمومة، فيعودان إلي. . . من يدري ماذا يخبئ لي المستقبل. على كل حال، فإنني أتمنى لو أستطيع إعادة عقارب الساعة إلى تلك الأيام التي سبقت دخول دك منزلنا الهادئ لأول مرة.

(البصرة - العراق)
يوسف يعقوب حداد
05 - 09 - 1949

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى