زياد صلاح - محطاتٌ اعتبارية، على " الطريق إلى الزّعَتْري "..

إذا ما اتفقنا - وعلى غير عادتنا في هذا الإقليم المشتعل - على أن الأسلوب ، هو السلوك النظري المقروء للكاتب . وأنه لا ينفصل بحالٍ عن سلوكه العمليِّ المنظور ، فإننا ولا بدَّ أن نمدّ أيدينا لنطرق ذلك الباب الذي سندخل منه إلى فضاء معجمٍ جديد ؛ مقتفين ما ينجم من آثارٍ حسيةٍ ، وفكريةٍ ، ونفسيةٍ ، عن انعكاس خصائص اللجوء - كوجودٍ سالب - على النتاج الإبداعي لروائيٍّ كادحٍ ومكافح ٍمثل محمد المقداد. ولا سيما في رواية "الطريق إلى الزعتري" التي تعمّد - مشكوراً - أن يضع في مقدمتها مقولة "طاغور" الشهيرة ، عن كون الزمن ، هو أشرف النقاد.
كيف لا، وهو الذي كان، وما زال، وسيظل ، أكثر عدلاً من أن يمرّ بأحدنا دون الآخر . فجميعنا نذهب إلى محطة الغد ، في قطارٍ واحد.

أنْ تحمِل إحساسك الثقيل بما يحدث، متجاوزاً به الحدود التي أضحت تفصل - بفضل (الخلاف) على أسماء الأشياء، وعلى نحوٍ مفجع - بين مرحلتين متباينتين من عمرك المفرّغ قسراً من محتواه، وحياتك المجرّدة من معناها بالإكراه.
أن لا تجد مكاناً تحت الشمس التي خلقها الله من أجلنا جميعاً، لتقف فيه وتقول شيئاً عما تفكر فيه.. قبل أن يسلمك التعب إلى رصيفٍ افتراضي، محاذٍ لشارعٍ عربيٍّ، تبحث فيه الفوضى عن نفسها، فتجدها بسهولةٍ مفرطة.
ثم يغلبك النعاس فتنام، كطائر الفلامنجو، واقفاً على ساقٍ واحدةٍ، داخل فسحة الكلامِ عن حياةٍ يفضل عنها الممات ؛ أولها ظلمٌ وآخرها ظلام.
أن تكون عاجزاُ حتى عن أن تحزن ..
ومتروكاً مثل محاربٍ قديم، على هامش الاهتمام بما يعنيك من أفكارٍ جدّ مؤرقةٍ ، وأحلامٍ شبه محترقة..
أن تكون مقيّداً بفضيلة الصمت على ما تكابده خارج المجال الحيوي الطبيعي لوجودك .
ونازفاً دماً ممزوجاً بمغزى هذا الوجود الحالِم، في عالمٍ أقل ما يمكن أن يقال عنه، أنه أكثر من ظالم .
أن تكون أنت، ولكن ، ليس خارج مدى رماية بنادق الأشقاء الأعداء.
أن تكون أنت ، ولكن ، بعيداً حتى عن أطراف أصابعك المرتعشة من شدّة برد اللايقين ..
أن تكون أنت ، ولكن في غيابك .. !!
تلك هي اللعبة غير المسلية، التي كان عليك أن تموت أكثر من مرّة، حتى تتقنها، فيصفق لك الآخرون ، وهم يبتسمون بشفاهٍ مستعارةٍ ، ولسببٍ آخر، ربما يكون أكثر أو أقل أثارة.
أعود ، كقارىءٍ غير مهادن، بصحبتك إلى الوراء.. إلى حرب تشرين على وجه التحديد. وألتقي في حضورك ( بالعم كسينجر ) - كما تسميه في معرض الرواية - وهو يشعل سيجاراً كوبياً ملفوفاً بأصابع بنات الجار الأصغر اللدود، اللواتي يغسلن قلوبهن بمياه الكاريبي الساحر، عند شروق الشمس.. فأرى الدخان وهو يتطاير في فضاء النص، وأقرأ في السطور، وفيما بينها، عن الكيفية التي تتحول بها أرض الواقع، إلى مسرحٍ سياسيٍّ مفتوح .
ها نحن نعيش مجدداً في ظل تلك السياسة القديمة الجديدة، القائمة على المساهمة في إشعال نار الثورات، حتى يطهو عليها " الكبار" ما قد أعدوه وراء الكواليس من صفقات.. فما إن تنضج كما يجب، حتى يعمدوا إلى إخماد تلك النار. يحدث ذلك، قبل أن نعود - وباتجاهٍ معاكس- إلى المستقبل الذي نأمل أن لا يتحول - في غفلةٍ منا .. أو رغماً عنا - إلى ماضٍ جديد.
لكن الحاضر الذي نعيش فيه الآن، مترنّمين بمقطوعاتٍ مؤثرةٍ جداً، تعزفها اوركسترا المدافع العمياء.. إنما يقع، مثل كل الأشياء الآيلة للسقوط من حولنا؛ على حافة الهاوية.

كل الطرقات لها نهايات - ( يا ابن الضاد ، والمقداد ) - ما عدا الطريق إلى المخيّم..
فالمخيّم، ليس نهايةَ المطاف .. بل هو بدايةٌ " نموذجية " للمأساة التي تقع خارج اللغة.. قبل أن تعيد اللغة تشكيلها من خلالنا، ومن جديد..
أما اللجوء، فهو تجربةٌ إنسانيةٌ عميقةٌ وقاسية، تجري في مختبرٍ بل جدران ؛ سقفه السماء، وكل ما فيه خاضعٌ لمراقبة الأقمار الصناعية، وشروط العراء.
إنها تجربةٌ استثنائية، ينفصل فيها الإنسان حتى عن نفسه، وفاءً لكونه لاجئاً ..
ففي الصحراء، قد يجد الفرد اسماً آخر للحلم، هو السراب..
وفيها، تتراجع صور الأشياء.. ينهدم الجدار.. تختفي النافذة.. وينتفي الباب ..

ويأتي الكاتب بمعنىً مغاير لحياته، مستدعياً الكثير من الألفاظ لأول مرّة، كي يطرّز بها مساحة الورق .. فيبدو هذا مظهراً ملائماً ، للجوهر الذي يتعهده ذلك المعنى المتاخم..
إنه يرسم صورة إحساسه المستجد والسالب بالأشياء ..
فما كان قد كان ، وهو الآن ، ابنُ لحظته الراهنة ، وتوأمُ صورته المرهونة .. صورة يظهرّها المعتدون على حقه في الوجود، بملح البارود.. ولحظةٌ من اللحظات التي تقطر من بين أصابع الزمن ، وهو يصعد بخفةٍ وحرفةٍ ، على سطح مكانٍ يكتظّ بما لا يلزم .. ويعجّ بدخان النيران التي أشعلتها مجدداً، نظرية السلطة القاهرة، في الذهن العربي المعاصر .
صحيح أن ثمة شمساً واحدةً تشرق على قصور الأثرياء، وخيام اللاجئين .. لكنها أيضاً، هي ذاتها التي تكشف عن هذا الفرق الفادح فيما بينهما.. ثم إن الوقائع لها طريقٌ آخر غير طريق الأحلام .. علينا أن لا نكذّب ذلك، حتى لا نضطر يوماً لأن ندفع ثمن تصديقه.
ها نحن نعاين وسائل الاتصال الحديثة ، وهي تتقدم من كل الجهات، لتقتحم عالم الرواية، كما تفعل في الواقع المعاش.. فيصبح الشخص معزولاً حتى عن أقرب الناس إليه، ويمسي رهينةً لما يعتقد أنه أحد أهم مظاهر الحرية النسبية التي يتمتع بها كإنسان .
فيما يتحول الحدث ، أنى كان ، إلى صورةٍ مصغّرةٍ لفكرة العالم المفتوح من حوله ، على كل الاحتمالات ، والمآلات .. من رغيف الخبز وحتى القمر ..
هل كان على الكاتب أن يظلَّ مخلصاً للواقع الذي جعله يُخرج الأحلام الكبيرة - داخل روايته - من الجامع ، لتمشي على أقدام أصحابها، وإلى جانبه، في عرض الشارع ؟!
وهل ظهرت شخصية " المحامي" في هذه الرواية ، لتضطلع بمهمة الدفاع عما يعتقده الكاتب صحيحاً ، فيما يتعلق بالحكم على الأحداث الجارية، ودونما حسابٍ لما سيتقاضاه من أتعاب ؟!
إن قلب "الاستاذ " الذي رقص طرباً في صدره ، بعد أن أذن له الراوي بذلك ، قد يحمل إحدى دلالات التفريق بين ما هو خطأ وما هو صحيح ، ولكن ، ليس بمعزلٍ عن سلطة من يقترفون الأخطاء تحت عنوان احتكارهم للصواب . وذلك ما نشهده عبر الأحداث الدراماتيكية التي وردت في سياق الرواية .. دون أن تحرفه عن مساره ، نحو ايٍّ من الآراء الملتبسة ، أو الأهواء العمياء.

نحن نقرأ كاتباً جنوبياً قد يخطىء عامداً في عد أصابعه ، لكي يختبر نفسه التي ربما يختلف معها يوماً من أجلنا ، أو حتى من أجلها.
وليس من الانصاف، أن لا نقرّ بمقدرته الأدبية التلقائية، على المعاينة غير المباشرة، لموقفنا النظري مما يكتب ، ولو من باب الرؤى النقدية الانطباعية ، حيال ما يطرحه علينا من أفكارٍ نشفق عليه من كونها تنطق بألسنةٍ من نار.
لقد كان من الصعب على الكاتب " محمد المقداد " أن ينهي هذه الحكاية الدامية ، التي بدأتْ بأقصى درجات خيبة الأمل ، بما هو عكس ذلك تماماً. فليس هنالك من روائيّ يمكن أن يعمد إلى إدارة الظهر ـ بالإحساس والفكر - لواقعٍ معقّد ، بات يمارس سلطته الجائرة ، على الخيال المسالم ، ويفرض عليه إقامةً جبريةً ، في مكانٍ معزولٍ ، على هامش النصّ .. هناك ، في أرياف القلب ، وضواحي النفس.
علماً بأن كاتبنا وصاحبنا هو ابن البيئة الاجتماعية والثقافية المحاصرة بسلطة الحزب الواحد.
فالحوار - فوق تلك الرقعة من الأرض - حلم.. والتعدد أمل.. والحرية أمنية.. والأمان خيال..
فهل كنت أيها المطارد في شوارع المدن الخلفية، بحاجةٍ إلى كارثةٍ كبرى كهذه ، حتى تمارس فعل الكتابة على هذا النحو الصارخ .. خارج حدود الوطن ، وعلى العين الثاقبة في وجه الزمن؟!
أتراك من قبل، تتكلم بصوت العقل، عما يمكن لمثل هذه الأسئلة أن تفعله، بعد موته ؟؟
لا بد أنك سألت دمشق عن الحرية الحمراء، بينما هي تبكيك .. فتسيل دموعها من عينيك ..
لست وحدك فيما تريده وتعنيه.. بيد أنك ربما تغدو مكبّلاً بطريقة فهم الآخرين لطريقتك في التعبير عن ذلك.
رغم أنك قد تكون أكثرهم وضوحاً ..!!
لكن، انتظر .. ودعنا لا نختلف - أولاً - على معنى الوضوح .
وهل المروية هي ابنةٌ شرعيةٌ لوضوح راويها .. أم هي صورةٌ مطابقةٌ لنزف جروحه ؟؟
أم أن الصدق له رأيٌ آخر فيما تعتقد أنت، بأنه الأجدى والأجدر أن يُروى ؟؟
لم تكن مع نفسك ضد الآخر .. ولم تجعل منها نداً له .
لقد أردت التأكيد ، على تعريف المنفى ، على لسان المهاجرين إلى ما وراء الأشياء ..
ثم جاء المثقفون ، المدجّجون بأسلحتهم الشفاهية ، لكي يجعلوك تعيد تعريفه من جديد ، بما يتوافق مع ضرورة وجودهم وخصوصيته ، في صلب مشروعك الروائي القائم بالأساس، على المواجهة والمجابهة، لا على الاستكانة والاستسلام.
كان عليك - كمن هم على ما أنت عليه - أن تحاكم مرحلةً سابقة، تبعاً لما يحدث في الحاضر .
لكن الحاضر مراوغٌ يا صديقي .
إنه ثعلب الوقت الرمادي.
وأنت شابٌ طيبٌ ؛ مثلك.
فلا تقل لي بأنك واحدٌ لا غير، حتى لا تضطرني لأن أبكي كثيراً، قبل أن أضحك أكثر ..!!

لدينا هنا، أعني : ( هناك ).. معضلةٌ كبرى تدعى سورية ( غير المفيدة ) ..!!
مطلوب منها، أن تنجب حلاًّ غير عادلٍ لها، تحت القصف الأعمى، وفي ظل هيئة الأمم المغيبة عن كل ما يحدث في هذه المنطقة المستهدفة بالفعل، من احتلالٍ غاشمٍ ، وإحلالٍ ناقم.

قد عرفنا، أن دم الثوار تعرفه فرنسا .. فماذا عن الدب الروسي المتوحش يا صديقي ؟!
رغم أن سماء سوريا المحتلة كأرضها ، قد تحمل الكثير من غيوم العبر .. ولكن ،، ليس بالضرورة أن يهطل الجواب عن هذا السؤال، فوق رؤوسنا، على شكل مطر .

وليس هنالك ما هو أقسى من أن تمسي الحقيقةُ حبلى بالباطل !!
لا بل هنالك ما هو أقسى من ذلك :
أن يكون المشفى هو المنفى.. وتكون القابلةُ ، هي الدنيا الزائلة .

أما زلت كأحد شخوص روايتك ؛ مطمئناً للجبهة الداخلية ؟
يا أخي ، لست وحدك من تكتب الروايات .. ثم تخاف على ما أودعته فيها، من لصٍّ محترفٍ ومخادعٍ، اسمه النسيان ..
فالمخبرون يفعلون ذلك أيضاً .
أنت تكتب عنهم ، وهم يكتبون عنك .
ومن الظلم أن نزعم ، بأن هذه هي عين العدل، التي ينظر بها المتلقّي إلى الأشياء، فيراها؛ ولكن، ليس كما هي ، بل كما تصورها له العاطفة العربية الجارفة.
فقل لي بربك، عن أي سكونٍ يمكن أن نتكلم بفصاحة ، حينما تهب علينا ، ومن كل الجهات، مثل هذه العاصفة !!

أنت تقول ، وقبل أن تصل بنا إلى منتصف الرواية ، التي أتمنى لها أن تستيقظ في نور الصدور ، لا أن تنام في ظلام الأدراج :
( عاد " أبو فندي" من غيبوته ) ..
ثم إنك جعلتنا نرى زوجته الجميلة التي وصفتها بالحورية، وهي تذهب لتعدّ له طعام الغداء، فيما هو يسترجع خطاب الرئيس.. كمن يتفرج على فيلمٍ غير مشوّق، للمرّة الثانية، على أمل أن تتغير فيه الأحداث - عند الإعادة - إلى ما هو أفضل ..!!
فلا تلم القارىء، إن وقف على شاطىء البحر الذي تستدرجه تلك الحورية السورية، بدلالٍ ودهاءٍ .. فيمثل أمامنا، داخل النص - بإذنٍ منك - - ومن أجل عينيها - مثل ماردٍ من ماء .
صحيح أن ذلك البحر يمتد خارج لغة السرد، ولكنه ليس بمنأى عن المشهد الذي نتحدث عنه.
فهل أنت على يقينٍ مما نقرأه لك.. ونسمعه منك .. ونراه نيابة عنك ؟!
علينا أن نعترف، بأن الليل صار أطول، في تلك البلاد المنكوبة .. لكن الشمس، ليست كائناً حياً، حتى تتعرض، مثل ذلك الرجل الذي كان يقف بانتظارنا، عند بوابة أحد الفصول ، إلى غيبوبة .

وردةٌ من ياسمين الشام، لك منك .. ولنا أن نرى، ماذا ستفعل بها وبنا بعد قليل ..!!
صمتك أيضاً، كجدولٍ من ماءٍ ترويه.. أما تلك الزهرة الطافيةُ على سطحه، فيصعب أن نتصور بأنها ليست أرقّ وأجمل ما فيه.
وعلى ضفة نهرٍ متخيّلٍ كذلك البحر، هنالك خيمةٌ منصوبةٌ فوق كومةٍ من رماد .
لقد دفعت كغيرك، حصتك "العادلة" من ضريبة هذه الحرب الجائرة . ولم تقبض بيدك، إلا على فكرة خروجك من الجنة التي استحالت بعد كل ما ألمّ بها من خرابٍ مقيمٍ، إلى جحيم .
ترى ، أي مصيرٍ هذا الذي يدفع أبناء بردى والفرات، تحت وقع احتفالهم - رغم كل شيءٍ -بالحياة، لاجتراح نهرٍ نظريٍّ يجري الهوينا في وداي الخيال..؟!
كان عليك أن تكتب عنهم .. وكان على كلٍّ منهم أن يعيش في ذاكرة زوجته المخلصة كما تشاء.. أعني : كما تحس ، وترى ، وتعايش ..
والمرأة تعشق التفاصيل.. إلا أن الكرْم الذي كانت تحرسه الثعالب احترق. ولم يعد مجدياً أن نتساءل : هل صاحبه كريمٌ ، أم معتقلٌ ، أم خائفٌ ، أم بخيل !!!
وحش اليأس يكاد يفترس حَمَلَ الأمل .. وزوجان حائران، يعودان إلى ماضيهما معاً ، حيث يتبادلان هناك ، أمام ناظريك، أجمل القبل ..
أنت سمحت وأتحت لهما أن يفعلا ذلك ، وليس بين السطور. أليس كذلك ؟ كأنك كنت تبحث عما تقوله عنهما في كتابك المشحون بطاقة خطابك عن الفكر المقموع، والثورة المصادرة .
كتابٌ بورقٍ أصفر ترتاح له العين.. وغلافٍ أزرق، تأنس له الروح ..
في الفصل الثالث من هذا الكتاب، يتابع " المحامي" تدوين مذكراته بحرصٍ شديد..
وانت تقول - بوصفك الراوي العليم - : " كأن القدر كلّفه بذلك "
لكنك تعرف جيداً، أن من أوعز له بأن يفعل كل ما فعل، هو ذلك الكاتب المجرّب، الذي يشغل وظيفة المدير العام لدائرة السرد العالي.. والذي يصعب أن نقول - بعد كل ما قلت - بأنه ليس أنت.

فهل تعمّدت أن تطعم الأذن الكثير من الكلمات.. حتى تستحي العين من القليل من الصور.. ؟!
أم أنك تمشي على ذلك الطريق الممدود باتجاه الحدود، ممسكاً بيد القارىء ، حتى يظن في لحظةٍ ما، أنه هو الذي يمسك بيدك .
ربما أنك الآن تبتسم.
ولكن ..!!
من قال أنه لا يقوم بذلك، حين تكتب، وهو يراقب ما تفعله من أجله، وأجل الأدب؛ عن كثب؟!
نحن ندرك بأنك لم تختزل الحياةَ في مظاهرة .. ولا أيامَ الأسبوع في جمعةٍ عابرة ..
لكن سورية ، التي ما زالت تبحث في يقينك عن معنى الحرية ، سوف تبقى في مكانها هناك، حيث تركها المبعدون عنها، مثلك، قسراً. وسوف يظل لوجودها معنىً واحدٌ هو :
إن تلك الرقعة المباركة من الأرض، لا تقبل القسمةَ من غير باقٍ - مهما كان- إلا على نفسها.

لقد قال لك نفرٌ من الأقزام الذين يتقمصّون ، منذ حين ، أدوار الكبار :
خذ حريتك المصغرّة ، واذهب لتلعب بها كما يلعب الطفل بدميته، خارج حدود الوطن.
فأدرت ظهرك مكرهاً ، لما أطلقه الباحثون عن غدٍ أفضل، من أسئلةٍ وطنيةٍ مشروعة.. بعد أن رأيت بأم عينيك، كيف أن الجواب الوحيد عن كل تلك الأسئلة، كان هو الدم.

في مذكرات المحامي - أما زلت تذكرها ؟ - تكتب البداية نفسها - كما أوحيت لها - وكما هو حال النهاية ..
وفيها أيضاً، تشرق درعا كشمسٍ جنوبية، على كامل التراب السوري المضمّخ بدماء الأبرياء، والأشقياء، والشعراء الذين كانوا يخلطون الشعر بالعطر.. فصاروا يمزجون الحلم بالدم ..
بل إنها تغدو كمعادلٍ موضوعي للنهاية ذاتها .. وكأنك تضع أصبعك على نقطةٍ ما في محيط دائرة الصراع الدموي الذي ما انفك يعيد انتاج نفسه من جديد.. مثل كلّ شيءٍ في بلادنا، ومنذ ألف عامٍ ويزيد..
في حين يتزايد عدد الرافضين لأن يبقى الحال على ما هو عليه.
ولكنك تعلن مبكراً ، بأن أشياءَ كثيرةً تحدث من تحت الطاولة.
لقد دعوتنا باسم تاريخنا الحديث ، لنتناول طعام العشاء ما بعد الأخير ، على مائدة الجغرافيا التي تأخذ شكل الهلال الخصيب.. فاكتشفنا لاحقاً، بأنك كنت تحلم بالعودة إلى الجزيرة العربية. لا لشيء، إلا لتنظر إلى ذلك الهلال الأخضر من هناك .. علك تراه أكثر وضوحاً ، كما أنا الآن، وعن قربٍ يشبه الحب، أراك .
كان من الواضح أن الحب، يختبىء وراء خوفك عليه، من الاحتراق في أتون الحرب.
وكنت أنت تساعده في ذلك ، وكأنك سجّانٌ يهرّب المشاعر والمواقف النبيلة، من سجينٍ إلى آخر ، فيما بين الصفحات ..
أرجو أن تعذرني على هذا التعبير الصادم والصادق، فقد جف ما في قرية ( مَوج ) من ماءٍ على الورق الذي كتبت عنها مطولاً عليه..
في حين، أن الكثير من الناس، وكما وصفتهم على لسان أحد الشخوص، باتوا يذهبون إلى غاياتهم المتحولة، وحتى المؤجلة ، بدافعٍ من غريزة القطيع .
فأي سخريةٍ مريرةٍ، تلك التي يستحيل الدافع فيها إلى مانع !!
وأي حلمٍ متضوَّرٍ ، ذلك الذي ينهش في تفسيره من شدّة الجوع ..!!
دعني أتخيل بأنك تقول لي : لا تنسَ بأن طعام الكاتب هو الكلام .

إنني أعرف مثلك، بأن الشرطةَ السرّيةَ والجهرية، ما برحت تحاصر مفهومك الجليّ للحرية.. ووعيك التام بشروطها المرجعية ..
ولكنك دفعت، كما أسلفنا، جزءاً من ثمنٍ باهض، لشيءٍ نادرٍ في بلادنا، يُدعى : التغيير .
سامحني لأني ذكّرتك بالحصار، الذي لا بد وأن يستدعي إلى ذهنك ظلمة المُعتَقَل، ولعنة غرفة التحقيق، التي تُرسم فيها مصائرُ الناس على نحوٍ مفجعٍ، ومقززٍ ، ومرتَجَل..

في مشهدٍ إضافي مقترح، يتشكّل خارج الرواية.. هنالك شابٌ يودّع خطيبته وراء عربةٍ عسكريةٍ نصف محترقة ، ويخطف منها قبلةً من نار .
حتى أسراب الحمام، طارت فزعةً من أصوات القنابل.. وانسحبت من فضاء الرواية، إلى الفضاء الخارجي ، بعيداً عما يفعله البشر بأنفسهم .
أما أشجار الكينا الحزينة، فهي تتابع ما يجري من حولها، بقلقٍ مصفرٍّ كالورق..
لكن النتائج المأساوية السوداء، أضحت تحتقر أسبابها الدفينة..

وفي لحظةٍ فارقة، من عمر هذه الأزمة المستحكمة، حمل الكثيرون البنادق، لكي يدافعوا بها عن أنفسهم، ويتصدوا لمن يريد أن يطلق النار على ما في رؤوسهم من أفكار.

يا الله ، ما أصعب أن تكون سوريا، أبعد مما تبدو عليه بكثير ..!!
لكنها شؤون الحياة .. وتصاريف الزمن ..
وكما في عبارة الشاعر " محمود درويش " التي ختمتَ بها روايتك الموجعة المفجعة:
" كلُّ أرضٍ تُنبت الحبَّ وطن "

لقد سلَكْتَ بنا الطريق إلى مخيم الزعتري ، على صعوبته، ووعورته، وخطورته، بلغةٍ سلسلةٍ مطواعة، وأسلوبٍ مباشرٍ خالٍ من أي مظهرٍ من مظاهر التعقيد ..
وحينما وصلنا إلى هناك ، كان علينا، أن ننظر إلينا ، ملياً، حتى نراك ..
هكذا يبدأ بنهايته الكلام .. فطوبى لك يا صديقي وأنت ما زلت كما أنت.. وسلامٌ على من كانت دائماً ، وستبقى أبداً، هي الشام .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى