عبد القادر وساط - مع رهين المحبسين من جديد ( و في النص مقتطفات من كتابه الجليل: " الفصول و الغايات )

كأني أتقدم ببطء، رغم اللهفة التي تعتريني...
وكأني متوجس بعض الشيء، رغم الفرح الذي يَغمر كياني...
وأراني أمشي بخطى بطيئة، في بلدة صغيرة هادئة، أدركُ أنها معرّة النعمان، وفي زمن موغل في القدم، أعرف أنه القرن الهجري الخامس...
وأراني قاصداً منزل الشيخ الأوحد، أبي العلاء المعري، حتى إذا بلغْتُه فُتح بابُه في وجهي، ودخلتُ دخول الحالم الذي لا عهد له باليقظة...
وإنْ هي إلا خطوات معدودة، حتى أرى الشيخ جالسا في وسط الردهة، وأرى طلابَ العلم - ومن بينهم القاضي التنوخي والخطيب التبريزي- وهم يغادرون المجلس، فالشمس قد مالت للغروب والشيخ قد أدركه التعب...
وإذ أقف في حضرته، ينحني عليه ابنُ أخيه القاضي أبو الحسن علي بن محمد، ويهمس له بكلام لا أتبينه، فيبتسم الشيخ الجليل مما يقول ابتسامة الرضا والقَبول، ثم يحرك رأسه مُرَحّباً، ويأذن لي بالجلوس فأجلس، وفي نيتي ألا أطيل...
وأقول له:
- كيف تجدك يا شيخنا الجليل ؟
فيجيب :
- الحمد لله ملكِ الدهر، وخالقِ السّنَة والشهر. لَكَأنّي بالمَنيّة قد وفدَتْ إليّ، تَحُومُ فوق الهامَة ثم تَقعُ علَيّ. وكيف أَسْلَم وأُفْلت، والدنيا أمٌّ مُقْلت؟ والمرأة المُقْلت: التي لا يعيش لها ولد.
ويصمت قليلا ثم يضيف:
- وأجدُني ركيكاً في الدِّين، ركاكةَ أشعار المُوَلّدين. وها أنذا أصبح وأبِيت وأنا الضعيف الهَبيت . خلقَني ضعيفا فعبدتُهُ عبادةَ الضعفاء. ولو تُرك القَطا لَنام، ولكن استقرَّ كل شيء في علم الله كاستقرار كلمة ثلاثية، بُنيَتْ على حال، لا زيادة فيها ولا نقصان.فيا ربّ أبلغْني هواي وارزقني منزلاً لا يلجُه سواي.
ثم ينشد من شعره:
جسَدي خرْقةٌ تُخاط إلى الأرْ = ضِ، فيا خائطَ العوالم خِطْنِي
وأستزيده فيزيد:
ثيابيَ أكفاني و رمْسيَ مَنزلي = و عَيْشي حِمامي و المنيّةُ لي بَعْثُ
ويصمت من جديد ثم يضع يده على خده ويواصل قائلاً:
- واعلمْ - أيها الوافد الغريب- أني لو أمنْتُ التّبِعَة، لجازَ أنْ أمسك عن الطعام والشراب، حتى أخْلُصَ من ضَنْك الحياة، ولكنْ أرْهبُ غوائلَ السبيل، إنّ فعْلي غيرُجميل. ولي هموم طوال كقصائد الكُمَيت الأسَدي، مختلّة النظم كقصيدتَي عَبيد بن الأبرص وعَديّ بن زَيد العبادي. وقد عرفتُ نفسي بعضَ العرفان وحقَرْتُها وهي جديرة باحتقار.
وأطلب من القاضي قرطاسا وقلما كي أقيد كلامَ الشيخ، لكنه يرفع يده معترضاً ويتلو من شعره:
لا تُقَيّدْ عليَّ لفظي فإني = مثْل غيري ، تَكَلُّمي بالمَجازِ
وأقول له:
- لله أنتَ يا شيخنا أبا العلاء ...
فيقول:
- كُنِيتُ وأنا وليدٌ بأبي العلاء، فكأنّ العلاء مات وبقيَت العلامات. وقد طرْتُ في الصعيد فوقعْتُ غيرَ بعيد، ولم أرَ كالدنيا عجوزاً قد اشتهرَ خبرُها بقتْل الأزواج، وهي على ما اشتهرَ كثيرة الخُطّاب. فهل تُخبرُنا حمامةُ الأيْك، أين السُّلَكَةُ والسُّلَيْك؟
وأقول له:
- يا شيخنا، قد اضطربت الأمور في زمنك هذا، وساءت أحوال الناس واستشرى الظلم وطغى الظالمون وعَلَوْا في الأرض...
فيشرد صاحب اللزوميات قليلا ثم يقول:
بكلِّ أرضٍ أميرُ سوءٍ = يَضربُ للناس شَرَّ سكَّهْ
قدْ كَثُر الغشُّ و استعانت = به الأشدّاءُ و الأرِكَّهْ
ثم يضيف قائلا بعد تفكُّر:
و أرى مُلوكاً لا تحوط رعيةً = فعَلامَ تُؤخَذُ جزْيةٌ و مُكوسُ ؟
ويبدو كأنه شردَ قليلا ثم يضع يده على كتفي ويقول:
فاقتنعْ بالرَّويِّ و الوَزْن منّي = فهمومي ثقيلةُ الأوزانِ
منْ صروفٍ ملكْنَ فكْري و نطقي = فهْيَ قيْد الفؤاد قيْد اللسان
وأطرب لدى سماع البيتين وأخاطب الشيخ قائلا:
- يا سيدي، هذه قصيدة يُعجب بها أبناء زمني، وقد كنتٌ أحفظها في صباي ومطلعها فيما أذكر:
علّلاني فإنّ بيضَ الأماني = فنيَتْ و الظلامُ ليسَ بفانِ
ثم أدرك أن وقت الانصراف قد حان ، فأنهض مودعا، وقبل أن أغادر المكان، رفقة القاضي أبي الحسن، أسمع شيخ المعرة وهو يقول:
تَقفُون و الفلْك المُسَخَّرُ دائرٌ = و تُقَدّرون فتَضْحَكُ الأقدارُ ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى