أحمد طناش شطناوي - التجربة بين فك الواقع ومخلب الخيال في رواية الطريق إلى الزعتري..

كل ما دون التجربة تكرار، فما زلنا نعيش في حياتنا حالات متكررة في ذاتها أو في جزء من تفاصيلها، ولكن لا بد من التجربة، سواء أكانت تجربة بحكم الإرادة أم قسرية، والتجربة حالة إن لم يعشها المرء فلن يستطيع أن يرويها أو أن يصف واقعها وتفاصيلها لغيابها عن العقل أو بعدها عن الواقع الذي نعيش، ولا شك أننا جميعا ممتلئون بالتجارب التي نخوضها، ولكن الكاتب والمبدع يعيش التجربة بطريقة مختلفة، فهو من يستطيع أن يعبر عن التجربة بطريقة إبداعية، ليكشف ما تعيشه ذاته المتعثرة بين تفاصيل التجربة، فكل رواية للتجربة اكتشاف آخر للذات، ولما كانت التجارب الإنسانية تشكل غواية خاصة للكاتب صار لا بد للمبدع أن يبلور هذه التجارب في قوالب ابداعية أو فكرية.
يقول الشاعر والناقد عبدالرحيم جداية في هذا الباب " إن مجموع التجارب الحياتية ما هي إلا البناء الرافع للإنسان إلى الأعلى " وهذا يقابل فكرة نيتشا للرجل الأعلى.

ونحن اليوم بين دفتي غلاف روائي يحمل تجربة واقعية مؤلمة كانت نتاجا للسعي وراء الحرية والعدالة.

كان لدخول الربيع العربي قبل سنوات بما شكل من أحداث حملت بين طياتها الكثير من المعاناة والمآسي حضورا كبيرا في الساحة الأدبية العربية، وهنا يبرز دور الكاتب في توثيق هذه التجربة مع ما تحمل من مآسي لتضاف إلى مجموع المآسي العربية التي لا زلنا نتجرع مرارها.


ولذلك لم يقف الكاتب والمثقف العربي بعيدا عن تلك الأحداث، فقد رفدت المكتبة العربية بالعديد من الكتب والروايات التي توثق لحقيقة الواقع التجربي الذي مر على الشعوب التي عايشت الثورات العربية، ووصف التجربة التحررية للشعوب من جور الأنظمة وتسلط المسؤولين وأخص هنا ما مر في الثورة السورية، فقد صدرت العديد من الروايات التي تحدثت عن أحداث الثورة بنقل حقيقي للواقع، وأعد منها رواية ( لاسكاكين في هذا المطبخ ) للروائي خالد خليفة، وروايتا ( أيام في باب عمرو ) و (عائد إلى حلب ) للروائي عبدالله مكسور، ورواية (مدن اليمام) للروائية ابتسام التريسي.
ولا شك أن دور للمثقف دور كبير في التوثيق لا يقل أهمية عن دوره في صنع الحرية، فالمثقف صانع ماهر للحرية عن طريق فكره التنويري الساكن بين سطور مؤلفه، وما ذلك إلا للخروج من قصور العبودية إلى حرية مكتملة ناضجة، والكتابة التي لا تساعد على هذا الخروج هي إما كتابة خائبة أو خائفة أو…. خائنة.

هل هذا يعني أن يكون المثقف مناضلاً سياسياً؟
طبعا لا، بل أن يكون مقاوماً.
يقول المثقف المقاوم ادوارد سعيد " يجب على المرء أن يبدأ مقاومته من وطنه ضد السلطة كمواطن يمكنه التأثير" ويقول نعوم تشومسكي " المثقف هو من حمل الحقيقة في مواجهة القوة".

وضمن هذا الأفق نستقبل في هذا المساء رواية جديدة أضيفت إلى مكتبة أدب الثورات، رواية عالجت جزءا من المعاناة الحقيقة التي عاشها ويعيشها الشعب السوري منذ اندلاع الثورة إلى هذه اللحظة، حيث يقدم المقداد المحتفى باشهار روايته (الطريق إلى الزعتري) من وحي التجربة نقلا واقعيا لجزء من تلك المعاناة بعيدا عن الخيال والصنعة الروائية المعلبة بقوارير الخيال.

فقد قدم لنا المقداد حالات إنسانية من الواقع ضمن قالب روائي مستخدما براعته في تطويع الكلمة واللغة، فاستطاع التخلص من شروط المثقف التي تقبل الكتابة عن الناس الذين يتماثلون مع أفكاره في الحرية والدين والتماثل في الاهتمامات الثقافية ساعيا إلى الحقيقة المجردة التي تلامس الأحاسيس والمشاعر بعيدا عن تكلف الصنعة والمغالاة، فلم يلتزم بشروط المثقفين الذين يكتبون عن أنفسهم فقط، أو يكتبون عن الإنسان الذي يحلمون به، ولا الإنسان الذي يعيشون معه، فقد نقلنا لقلب الحدث لنعيش معه غمار تلك التجربة المغموسة بالقهر واللوعة.

فالمقداد روائي بارع ممتلك لادواته الروائية والسردية، فقد خرج بنا من ثقب الغلاف إلى فضاء الفكرة مستنهضا إنسانية القارئ لتتوجه نحو الحرية والعدالة والسلام واحترام الآخر والاعتراف به، وما كان له ذلك لولا أنه استطاع الخروج بنفسه من سجن المثقف والجدران التي تحيط به ليكون في قلب الواقع وجزءٍ منه.

ولا شك أن المقداد قد أبدع في تقديمه لمجموعة من الأحداث التي يعيشها الشعب السوري في رحلته لنيل العدالة والحرية من البطش والظلم، وذلك من خلال قدرته على كتابة الواقع ونقله بعدالة إنسانية غير مشروطة، فلم يضع المقداد شروطه لمن يتعاطف معهم إنسانياً، ليحدد من يستحق العدالة ومن لا زال قاصراً أمامها، فقد خلص إلى أن الحرية والعدالة أمور لا تقبل التقسيم، والانسانية لا عرق لها ولا دين، لا يمكن أن يكون التطهير العرقي أو الطائفي جريمة في مكان، وضرورة لازمة في مكان آخر.



وما كان لي إلا أن ألمس من رواية المقداد أن التجربة هي حقيقة الانسان الوحيدة في هذه الحياة، لا حقيقة خارج التجربة، كل ما يقع خارجها محض نظرية ستكشف حقيقتها عندما يعتريها زلزال التجربة، لهذا أفضل ما يستطيع الانسان تقديمه للآخرين هو تجربته الشخصية كما يعيشها في الواقع، وحين تنطق التجربة يصمت كل شيء آخر، والابداع ليس شيئاً آخر غير قول هذه الـ(حقيقة) بأشكال متعددة.

وبت أزداد يقيناً أن لا (حقيقة) في الكتب النظرية، الحقيقة بيتها وقبرها الواقع، والمصطلحات الفضفاضة لا تعني شيئاً ما لم تقترن بحقيقة ما، حتما ستصير قوالب فارغة غير ذات معنى، ليس أسهل من التحليق مع الأفكار حين تتحدث عن تجارب لا علاقة لنا بها، فبطلاقة مسهبة يتحدث المثقف عن صراع شعوب أخرى مع الحرية وينتصر لها، لكنه يغمغم الكلام حين يكون مضطراً إلى الحديث عن صراع شعبه مع نيل الحرية، هذا إن لم يلق باللائمة على شعبه، أو يتهمه ويبرئ السلطة، وفي أحسن أحواله يتهمهما معاً، فثمة كلفة تنتظر قول الحقيقة، لكننا سنجد عكس ذلك في رواية الطريق الزعتري، فقد تجرد المقداد من كل شيء إلا من الواقع، تجرد من جميع المصالح إلا من مرار واقع التجربة.

وهنا أتسائل كيف للكاتب أن يهرب إلى الخيال وهو يعيش واقعاً يفوق لعبة الخيال؟
عندما يكون الواقع صارخا بالألم يهترئ الخيال، ويصير أقل إدهاشاً، عندها يجد الكاتب نفسه مجروراً نحو سرد الواقع فقط وهو ممتلئ بدهشة لا لذة فيها، وإني لأراه غير قادر على القفز فوق جرح واقعي، بل أراه أسير واقع يفوق الخيال، حتى وإن استطاع أن يهرب بعينيه.. فالحقيقة ترى..




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورقة قدمت في حفل اشهار رواية الطريق إلى الزعتري في 1/7/2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى