قسطنطين زريق - المجتمع التقدمي

تدور على ألسنتنا في هذه الأيام بضعة ألفاظ أساسية نعبر بها عن عقائدنا ومناهجنا العملية، وعما نطمح إلى بلوغه من غايات وأهداف. من هذه الألفاظ: القومية، والديمقراطية، والاتحاد، والتقدمية، والاشتراكية، وأمثالها. ولما كانت المعاني التي نسبغها على الألفاظ لها خطورتها الكبرى فيما نصوغ من فكر وما نبني من منشآت، وجب علينا أن نوضح لأنفسنا حقيقتها، ونستخرج متضمناتها، كي نسير على هدى، ونشيد على أساس صحيح. ولملنا إذا تبينا الجوهر، وكشفنا عن الأصل، لا نضيع ما نضيعه الآن من جهد ووقت في مناقشة الأعراض والبحث عن الفروع.

ولا جدال في أن هذه المهمة الإيضاحية تقع أولا على عاتق رجال الفكر، فهم المسؤولون في الدرجة الأولى - إزراء مجتمعهم وإزاء التاريخ - عن تحديد المعاني، ورسم الأهداف، وتخطيط السبل وإليهم يتطلع المجتمع لقيادته في الكشف عن الأسس، وتمييز الأصول من الفروع، ووضع الأهم قبل المهم، والنهم الباقي قبل التافه الزائل.

وليس حديثي هذا سوى محاولة لإيضاح معنى لفظ من هذه الألفاظ الأساسية التي نرددها ومشتقاته المختلفة. فكثيراً ما نتحدث عن التقدم، والنقدية، والمجتمع النقدمي، وننقسم شيعاً تبعاً نفهمه منها. ولذا كان حريا بنا أن نقف بين آن وآخر لنتبين حقيقة ما نقصد إليه، ونتفق على ما نعني، توفيراً للجهد، وتوضيحاً لجوهر الخلاف - إذا كان ثمة خلاف - واتباعاً للأسلوب العلمي المنظم في المناقشة الفكرية والسلوك العلمي.

فما هو المجتمع التقدمي، وما هي الصفات الأساسية التي ننطوي عليها تقدميته؟

المجتمع التقدمي هو، أولا، مجتمع متحرك متطور، وإذا أردنا استعمال لفظة غريبة قلنا: (ديناميكي). وليس من الصعب علينا أن نفرق بين مجتمع بهذه الصفات وآخر يغلب عليه الركود والجمود. فالمجتمع المتحرك الديناميكي يتميز بالقوة والتغير. أما قوته فبإنتاجه المادي والعقلي: إنتاجه فيما يستثمر من موارد الطبيعة، ويستغل من كنوزها، وما يبنى من منشآت، وينظم من علاقات، وما يصاحب ذلك كله من نظر عقلي وبحث علمي. وتركيز للمفاهيم. وتجميع للحقائق. وأما تغيره فبتطور منتجاته المادية، وأحواله المعاشية، وأخلاقه، وعاداته، وسبله في الحياة عموماً. وعلى العكس من هذا كله المجتمع الراكد (الستاتيكي) فهو، من ناحية ضعيف بإنتاجه المادي والعقلي، ومن ناحية أخرى ساكن واقف لا تتغير أحواله ونظمه إلا قليلا على ممر السنين.

ولا حاجة بنا إلى القول أن الحركة في المجتمعات المتحركة، والركود في المجتمعات الراكدة، ليسا صفتين مطلقتين، وإنما الاختلاف بينهما اختلاف نسبي يتوقف على أحوال هذه المجتمعات وعلى قوة العوامل المؤدية إلى الحركة والركود أو ضعفها. كذلك هاتان الصفتان ثابتتين لرجوعها - كما يعتقد البعض - إلى الجنس الذي يتكون منه المجتمع، والذي إن تغير أو تبدل فإلى حد أدنى بكثير من التغير أو التبدل الراجع إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية. إن الأبحاث الحديثة، واختبارات الإنسانية، قد أنبتت فساد التعليل الجنسي المطلق، وأقرت للعوامل الاقتصادية والاجتماعية بالأثر المستقبل الراجح، فلكم من مجتمع راكداً في بعض مراحل حياته ثم انتفض وتحرك، على ثبات في تكوينه الجنسي وإرثه العرقي. ولا ينكر أن للعرق أثره، ولكن هذا الأثر ليس مطلقاً، ولا - بعرفنا - راجحا، وإنما الراجح في تطور المجتمعات هو العوامل الاجتماعية المتشابكة الناتجة من علاقة المجتمع بمحيطيه وعلاقة عناصره بعضها ببعض.

وتبعاً لهذا نقول إن مرد الحركة (الدينا ميسم) في مجتمع ما إلى مقدرته على التفاعل بينه وبين محيطة الخارجي، وعلى تفاعله الداخلي في نفسه. والمحيط الخارجي ذو وجهين: محيط طبيعي مادي، وآخر بشري اجتماعي. والحركة والحياة تنشأن عندما يكون المحيط الطبيعي على درجة متوسطة بين اللين والشدة، بحيث تستدعي شدته نشاط المجتمع، وييسر لينة، في وقت ذاته، لهذا النشاط أن يزدهر ويثمر. فإذا كان المحيط الطبيعي ليناً كل اللين، واستطاع الإنسان فيه أن يرضى شهواته البدائية بأيسر السبل، لم يكن هناك داع للهمة والنشاط ولتوليد الحركة وبث الحياة. وكذلك، إذا كان المحيط في الطرف الآخر من حيث القسوة والشدة تغلب على مقدرة الإنسان، في المراحل الأولى من تطوره، وسل حركته، منع تقدمه. ومنع تقدمه. وهذا ما ترى واضحا كل الوضوح في المناطق القاسية المناخ، حرارة أو برودة أو رطوبة أو جفافاً، أو التي يغلب عليها الجليد أو الأدغال أو الصحراء أو أمثالها.

إن هذه الظروف الطبيعية مؤثرة، كما قلنا، تأثيراً حاسما في المراحل الأولى من نشوء المجتمعات ونموها. وهي التي، في الأغلب، تبعث في مجتمع ما الحركة والجدب والجمود، إذ تستنفذ جهوده كلها في اقتناص عيشه الضئيل وتحصره في دائرة ضيقة يصعب عليه اجتيازها. أما المجتمع الذي تتيسر له أسباب الحركة والنمو، ويقطع في هذه الطريق شوطاً مديداً، فإنه يصبح قادراً على التغلب على المحيط الخارجي مهما اشتد وقسا: وها نحن نراه يستخرج المعادن من بطن الصحراء، ويركب متون البحور والأجواء.

ومثل المحيط الطبيعي المحيط البشري. فإذا كان هذا المحيط هيناً ليناً لا يمكن فيه أي خطر استهان أهل المجتمع عيشهم، وانصرفوا إلى ملذاتهم، وساروا إلى الركود فالانحلال. وإذا كان العكس من ذلك خطرا كله وتغلب على المجتمع بشكل المجتمع وكبتت حيويته. وتاريخ البشرية في الشرق والغرب مليء بالأدلة الواضحة على ما تقول، فلا تحتاج إلى إيراد أدلة مفصلة، وإنما يكفينا أن نشير إلى ما تعرضت له بلادنا العربية في الستمائة السنة الأخيرة من غزوات خارجية جامحة وضروب في الحكم الأجنبي المستأثر امتصت حيوية أرضها وسكانها، وجعلتها تركد وتعجز عن الإنتاج بأي شكل من الأشكال. أما الحالة المؤدية إلى الحركة والنمو فهي وجود الخطر - وإحساس المجتمع به - وما يتبع هذا الإحساس من بعث للهمم، وإثارة للنشاط، وتعبئة للجهود.

ولا تقتصر حيوية المجتمع المتحرك على التفاعل بينه وبين محيطه الخارجي: الطبيعي والبشري، بل تتمثل أيضاً في تفاعله الداخلي: بين أفراده، ومنظماته، وطبقاته. فالعلاقات البشرية في المجتمع الراكد علاقات بسيطة، قليلة التغير. أنا في المجتمع المتحرك، فهي تزداد على الأيام تطورا وتعقدا. والحيوية المنصرفة إلى الخارج لا تلبث أن تضعف وتنحل إذا لم تصحبها حيوية في الداخل تؤدي إلى نمو في شتى دوائر المجتمع: في العائلة، والمدرسة، والدولة، وسواها. بل نقول إن التفاعل والنمو في داخل المجتمع هما أصدق دليل على مقدرته على مجابهة المحيط والصمود في وجه قوى الخارج.

وخلاصة القول أن المجتمع المتحرك الديناميكي هو مجتمع متطور، متفاعل مع محيطه الطبيعي والبشري، ومتفاعل في ذاته داخليا.

ولكن ليس كل حركة تقدماً، ولا كل تطور نموا وارتقاء. فما هو السبيل إلى ضمان هذه الأهداف المنشودة؟ وإذا أردنا نحن في البلاد العربية أن ندفع بمجتمعنا العربي إلى الأمام فكيف نأمن أن يكون انبعاثه من ركوده، وتحركه من جموده من جموده، مؤديين فعلا إلى نمو وتقدم، وغير مقتصرين على مجرد الحركة والتغير؟ وبكلمة أخرى، ما هي المقاييس التي يقاس بها تقدم مجتمع على آخر، أو درجة التقدم أو التأخير في نفس المجتمع؟

توضيحاً لتفكيرنا في الموضوع الأساس أتقدم ببضعة مقاييس عامة لا بصفة نهائية حاسمة بل بصفة تمهيدية تجريبية، لعلها تكون أساسا صالحاً للبحث، وخطوطاً عامة نسترد بها هذا الميدان الواسع المتشعب.

أول هذه المقاييس، في نظري، هو مبلغ سيطرة المجتمع على الطبيعة وقدرته على ضبط قواها واستغلال مواردها. فالمجتمع الذي تحده قوة الطبيعة أو تتغلب عليه يكون عبداً لها خاضعاً لسلطانها، ويظل متأخراً عن سواء من المجتمعات التي سبقته في هذا المضمار. وتأخره عنها يكون في ناحيتين أساسيتين: الأولى سلبية والثانية إيجابية. أما في الناحية السلبية فيقي عرضه لأحداث الطبيعة وفعل عناصرها المادية والحية، يتحكم فيه نوع الأرض وشكلها وموقعها، ودوران الفصول، وتقلبات المناخ، وتتسرب إليه الجراثيم الفتالة، والأعراض الفتاكة. فهو، من هذا القبيل، مغلوب على أمره، مستعبد لمحيطه الخارجي. ثم هو محدود من الناحية الإيجابية أيضاً لعجزه عن استدار غنى الطبيعة، واستخدامه لتحسين معاشه وترقية حياته ماديا وأدبياً. وما دام ضئيل الإنتاج، مهدداً بالفقر والمرض، فهو حتما متأخر عن سواه، وغبر مجهز للسير في ميادين التقدم والرقي.

والمدينة الحديثة إنما تمتاز عن المدنيات السابقة في هذا المضمار، ولا حاجة بي هنا إلى التفضيل والإيضاح، فلأمر ظاهر بين دون دليل أو برهان. وإنما يجدر بنا أن نلاحظ أن المدينة الحديثة هي، من هذه الجهة، وحده غير متجزئة. ولا يغرنا اختلافها في نواحي أخرى، فهي في هذه الناحية متفقة كل الاتفاق. لننظر إلى القوتين الجبارتين اللتين تتنازعان العالم اليوم الغربية التي تتزعمها أمريكا، والقوة الشرقية التي تقودها روسيا، نجد أنهما كلتيهما قائمتان على الحرص الشديد والقدرة الجبارة على استثمار الطبيعة واستغلال مواردها. في كل منهما، في الولايات المتحدة وروسيا على السواء، وفي الدول الأخرى بدرجات متفاوتة، اهتمام بالآلة، وانكباب على التكنيك، وحرص على الاقتصاد. وما الآلة والتكنيك والاقتصاد سوى التي يتسلح بها الإنسان لضبط الطبيعة وعلاقته، بها ينتج عن ذلك من علاقات اجتماعية.

وهذا الانكباب على الوسائل الإنتاجية هو سر الحركة (الدينا ميسم) ومصدر القوة النادية والعقلية في المجتمع الحديث على اختلاف ألوانه واتجاهاته. وهو الواجب الأول الملقى على عاتقنا نحن العرب اليوم، لأننا لا نستطيع أن نحمي كياننا إلا عن سبيله. فالعالم أصبح يضيق بغنى غير مستثمر، وموارد غير مستغلة. والدول تكاد تسير في معاملاتها على أن المجتمع الذي لا يستثمر موارده يخسر حقه فيها. ولئن كان القانون الدولي لا يقر هذا المبدأ، بل بالعكس يصرح بسيادة الأمة على أرضيها وإرثها الطبيعي، ولئن كانت شرعة الأمم المتحدة قائمة على مساواة الدول في هذه السيادة، فالواقع أن الدوافع المسيرة للدول في هذه تصرفاتها هي غير ذلك. ولا نكران أن الصهيونية بنت جانباً هاما من حجتها لقضيتها في فلسطين على تفوقها على العرب في استغلال الأرض واستخدام وسائل الإنتاج الحديث. وكان دعاتها يجوبون أطراف العالم مرددين هذه الدعاوة ويستقدمون الوفود والبعثات ليطلعوهم على سبقهم للعرب في هذا المضمار. وكان نجاحهم في هذا، مخالفته أبسط قواعد الحقوق الدولية مقنعاً لكثير من الناس وموجهاً للرأي العام العالمي في مصلحتهم. وليس هذا الواقع فعالا في مثل هذا العدوان الفاضح فحسب، بل هو مؤثر أيضاً في التدخلات الأخرى الأكثر خفاء، التي تدفعها قوى لا ترد من منطق المدينة الحديثة ذاته، لاستغلال البوار، وإحياء الموات، أينما كان ولمن كان.

فاستثمارنا لمواردنا هو إذن داعم لحقنا فيها وإهمالنا لها هو بالعكس، وسواء أشئنا أم أبينا لهذا الحق في مفهوم العالم الحديث. ثم إننا بهذا الاستثمار نهيئ لأنفسنا من الناحية الإيجابية وسائل الدفاع عن كيانا في الميادين الحربية والاقتصادية والسياسية والعلمية، ولا شك في أن سبق الصهيونية لنا قرونا في هذا المضمار هو الذي لها سبل عدوانها علينا واستجرار القوى السياسية والاقتصادية الكبرى إلى مساندتها في هذا العدوان.

وعندما نتبين هذا الواقع ونقره نخرج منه إلى نتائج حتمية لا مفر لنا منها. خلاصتها أن نهضتنا القومية، بما تتضمن من سياسة داخلية ودولية ومن تنظم اقتصادي واجتماعي وتعليمي، يجب أن تبنى أولا على هذه الأركان المتسلسلة: آلة، تكنيك، اقتصاد، إنشاء. فيها يتحرك مجتمعنا وتسري فيه الروح الديناميكية التي تيسر الوسائل لملية كيانه أولا ولنقدمه في النواحي الأخرى ثابتاً.

على أن هذه الوسائل الإنتاجية الاستثمارية لا تأتي عفوا ولا تهبط من علو. وإذا استمددناها من سوانا فهي لا تبقي لنا ولا تعمل في مصلحتنا إلا اكتسبنا معها القوى الأصيلة التي ابتدعتها. والشعوب التي تقدمتنا في هذا المضمار لم تنلها إلا بعد أن حققت شرطها الأساسي وباعثها الأصلي: وهو التحري عن الحقيقة والأسلوب العلمي المنضبط والنتائج العلمية المحققة المتراكمة. هو العقل النامي المنتظم في نفسه المنظم لسواه.

ولا جدال في أن العقل الإنساني هو من أعظم القوى التقدمية في الوجود، فهو ما ينفك يبحث عن المجهول ويغتبط باقتحامه. وما اقتحام الرائد للمناطق المعزولة الصعبة بأيسر من اقتحام العالم للمجهول من أسرار الطبيعة والإنسان، وما نجاحه فيها أعظم، أو السرور الذي يبعثه في نفسه أشد. بل العالم هو في جوهرة وكيانه رائد ممتاز لا تسعد نفسه إلا بالمغامرة والتقدم.

ثم إن العقل المتمثل في جهد العالم الرائد ملح مستمر في تقدمه. فإن لم يطغ عليه ما يطفئ جذوته أو يبطل عمله سار من خطوة وقبض على حلقة من سلسلة الحقيقة المترابطة. وهو لا يقف عند حد ولا يرضى بحال، بل يندفع دوما إلى الأمام منقبا باحثا مكتشفا. هذا هو منطقة وكيانه وهو فيه منسجم مع منطق الحقيقة وكيانها.

ثم هو بعد هذا وذاك منتظم في تقدمه. فالخطىالتي يقبض عليها متماسكة. ذلك أن جوهر الحقيقة التي يسعى إليها ويتقيد بها ويخدمها جوهر متماسك متحد. وليس معنى هذا العالم لا يخطئ ولا يخرج عن السبيل السوي، فكثير ما وابتعد وضاع وضيع، ولكن الأسلوب العلمي المنبعث عن طبيعة العقل وجوهرة كفيل برده إلى الصواب والعبرة ليست الضلالات العريضة، بل في السير الأساسي المتصل والسلسلة المترابطة الحلقات. إن بناء العلم بناء متماسك الأحجار! وإذا اتفق أن وضع حجر فاسد فيه فالجهد العلمي خليق بأن يكتشفه يوما فيطرحه وكل ما بني عليه.

فالعلم، بجوهره الخالص وتقليده الإيجابي الأصيل، تقدمي. وتقدميته تتميز بالتطلع والاستمرار والانتظام. ولذا كان مقياسا من أهم المقاييس التينقدر بها تقدمية مجتمع من المجتمعات. وهو من الناحية العلمية التطبيقية، أساس المقياس الأول: أي قدرة المجتمع على الطبيعة، لأنه، كما ذكرنا، الباعث الأقوى للعمل الإنتاجي الاستثماري. على أن أيضاً ناحيته التي يتجلى فيها مقدار الحقيقة المكتسبة والمجهول المكتشف. فإذا أردنا أن نقارن مجتمعين من حيث التقدم والتأخر، أو نقيس تقدمه مجتمع ما، أمكننا أن نركن إلى هذا المقياس: إلى درجة اكتساب المجتمع للأسلوب العلمي وخضوعه لسلطان العقل، والى مقدار الحقيقة المتراكمة التي يملكها ويؤمن بها ويسير على هداها.

وإذا أراد مجتمعنا العربي أن يكون تقدميا فعلا وجب عليه أن يتمسك بهذا العنصر التقدمي الحي، ويؤمن به، ويجعل سيرة مظهرا صادقا له، وحياته تجسدا لإيمانه به وبالحقيقة التي يؤدي إليها.

ترى أيكفي هذان المقياسان مقياس على الطبيعة ومقياس الاكتساب العلمي كيفية وكمية لقدر تقدمية المجتمعات؟ إن النظر الدقيق ليظهر أن هذين المقياسين لا يستنفذان التقدمية الصحيحة. ذلك أن استثمار الطبيعة هو، في الواقع، عامل مساعد أكثر منه عاملا أصيلا. فهو يهيئ الوسائل للتقدم ويدفع المجتمع قدما في جوهره وتمامه إلا إذا توفر له عامل آخر مستقل عنه. إنه يعد الأسباب ويهيئ ويجهز النتائج لكنه، بنفسه، لا يقر الغايات التي يجب أن توجه إليها الأسباب والقوى والنتائج، إنه يضع بين يدي المجتمع موارد وافرة استخرجها من الطبيعة وثروات استمدها منها وقوى فجرها من بطونها ولكن، ترى، لأي شيء يستخدم المجتمع هذه كلها؟ للبناء والتعمير أم للهدم والتدمير؟ للتحكم والاستئثار أم لنشر العدل والمساواة؟ للحرب أم للسلم؟ للتقدم الشامل المتوازن أم للتقدم الجزئي المضطرب؟

كذلك يقال عن العلم نفسه، وهو المقياس الثاني الذي اتخذناه. إنه يستكشف الحقيقة والحقيقة وحدها غالية ومبتغاه. ولكن من الذي يستخدم هذه الحقيقة ولماذا؟ هو أمر خارج عن سلطته، أو لعل العالم يساعد، عن وعي أو غير وعي، في استخدام الحقيقة لأغراض هدامة إلى التأخير والهلاك في حين أنها وجدت لتخدم التقدم والانبعاث.

فلضمان التقدم الصحيح لا يكفي توفير الوسائل؛ بل يجب تحقيق الغايات الصحيحة التي توجه إليها. لا يكفي مجتمعنا أن يتغلب على الطبيعة ويضبطها، بل عليه مع هذا، إن لم نقل قبل هذا، أن يضبط نفسه ويتغلب على أهوائه. لا يكفيه أن يتبين الحقيقة التي اكتشفها بالعقل، بل عليه أن يولد الإدارة التي تمنع تشويهها أو استخدامها لما هو مناقض لطبيعتها، وبالتالي هادم لأركان المجتمع.

هنا تظهر العلة الأصلية في المدينة الحديثة وداؤها الدفين، فلقد أحرزت هذه المدينة تقدما شاسعاً واسعا في ميدان استثمار الطبيعة، لكنها لا تزال مقصرة تقصيرا شائنا في معرفة الغايات التي يجب أن توجه إليها نتائج هذا الاستثمار وفي تكوين الإدارة الصحيحة لهذا التوجيه. وقطعت كذلك لا تزال عاجزة عن الأمثال لها بل هي تمعن تحويلها عن غايتها واستخدامها للشر والفساد.

يتبع

الدكتور قسطنطين زريق
مدير الجامعة وصاحب الوعي القومي

مجلة الرسالة - العدد 981
بتاريخ: 21 - 04 - 1952

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى