عبد الرحيم جيران - التصدير الذي يُستهل به كتاب "علبة السرد"

كان من المفروض أن يكون نشر هذا الكتاب سابقا على إصدار كتاب "في النظرية السردية "، نظرا لكونه يتضمّن مجمل العناصر الرئيسة التي ينهض عليها مشروعنا النظري في مجال السرديات، والذي يشكِّل الاطّلاع عليه ضرورة ملحّة لفهم الأسس النظرية والإجرائية التي تسعف القارئ في تلمس الخطوط الكبرى والتفاصيل الصغرى الواجب توافرها لديه حتى يكون بمقدوره متابعة كل تطبيق لها على النصوص السردية. والسبب في تأخير نشر هذا الكتاب، ووضعه بين أيدي القرّاء، عائد إلى كونه كان، في الأصل، جزءا من أطروحة جامعية كانت تنتظر الفرصة السانحة التي تسمح بطبعها كاملة، من دون تقسيمها إلى أجزاء مُنفصلة حرصا منا على وحدة العمل. ولما تعذّر ذلك لحجمها الضخم ارتأينا، بعد تردّد طويل، أن نُخرج القسم النظري منها إلى الوجود تعميما للفائدة، وإعلانا عن ولادة مشروع نظري نظنّ أنه يتّسم بالجدّة، وبارتياد آفاق أخرى مُغايرة في مجال السرديات.
لقد تصرّفنا في تقديم مشروعنا النظري، في هذا الكتاب، على نحو يجعل منه مُؤلّفا مُستقِّلا مغايرا للأصل الذي ورد به في أطروحتنا الجامعية؛ وذلك توخيّا لمزيد من الدقّة في بناء بعض القضايا، وإعادة النظر في صياغة الأسئلة التي تقوم عليها. فقد عملنا على تغيير بعض الاصطلاحات، واستبدال غيرها بها، حتّى يتوافر مزيد من الانسجام للنسق المفهومي الذي يتحرّك في إطاره المشروع برمّته. وأضفنا فقرات جديدة لتغطّي ظواهرَ جديدةً لم تكن قد تبيّنتْ لنا فيما قبلُ، واعتمدنا أمثلة إضافية وردت في هيئة ملفوظات اصطناعية لكي نُوضّح القضايا النظرية ونجعلها بيِّنة، كما اعتمدنا، في هذا الأمر، نصوصا سردية لم تَرِدْ في النصّ الأصليّ. كلّ هذه التغييرات أفضت إلى إخراج هذا الكتاب في هيئة مُختلفة نسبيا عمّا ورد في الأطروحة.
واخترنا لهذا الكتاب عنوان " علبة السرد – نحو غواية السؤال " ليتضمّن في بنيته الهدف من هذا المشروع، والذي يتعدّى فعل الإنتاج النظري في حقل مخصوص إلى الحرص على حضور الذات في العصر، و التعبير عن نفسها من داخل مُتاح صيرورته. فالهاجس الذي كان يشغلني، خلال بناء هذا المشروع النظري، كان ماثلا في القطع مع وضع مُلتبس ترتهن فيه الذات العربية إلى مُحاكاة الآخر من دون مُحاورته، وكأنّه في منجى من الباطل، أو إلى تكليم الخصوصية على نحو مغلوط، أقلّ ما يمكن نعته به هو المُباهاة التي تتّخذ هيئة احتماء يغلب عليه رد فعل نفساني، أكثر مما هو رد فعل عقلاني محسوب بكلّ الدقّة التي يتطلّبها. ولذلك كان من اللازم طرح مسألة المُساهمة في الإنتاج المعرفي- كما يتأسّس على أرضية إنسانية- خارج التصنيفات الهوياتيّة المغلوطة، إيمانا منّا بأن المعرفة العلمية لا تؤول إلى أحد، وإنّما هي نتاج البشرية برمّتها وإرث لها. وتتطلّب المساهمة في هذا الإنتاج القطيعة مع عادة الاستهلاك التي استحكمت فينا، وألفنا ما تبعث عليه من اطمئنان يجلب الراحة لنفس يعذّبها صدى المجد الزائل. ولا سبيل إلى الحضور في العصر إلا بالمرور نحو الإنتاج، بما يتطلّبه من جرأة في توليد الأسئلة وتبيّن المُشكلات في ضوئها، ومن قدرة على صياغة مُمكِن المُشكلة والسؤال وفق تطلّبات العقل والارتهان إلى أدواته. وقد كان الطبيب الفيلسوف الفرنسي فرانسوا داغونيي على حقّ، في إحدى الحوارات التي أجريت معه، حين أوجب على الفيلسوف "أن يكون رجل المُشكلات المُتسائل، لا من أجل التدمير أساسا، وإنّما من أجل التحديث". لقد كان اختيار عنوان الكتاب نابعا، من جهة، من هذه القناعة، بما تستوجبه من مشقّة وصبر، ومن تعلّم وإصغاء، ونابعا، من جهة ثانية، من اقتضاءات المشروع النظرية الداخلية؛ حيث أخذنا على عاتقنا الإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي ظلّت تؤرق ضمنيا النظرية السردية، وهي تتوخّى الإحاطة بمشكلات إنتاج الفعل السردي في تنويعاته المُختلفة، وفي علاقته بالنصّية، بما تتطلّبه هذه الأخيرة من إيجاد الطرائق التي تتصادى بواسطتها المُستويات، وتتراتب داخل النصّ السردي، ومن فهم لإشكالات مُرتبطة بالتعالق بين ما هو فرداني وكوني.
لم يكن الطريق نحو ارتياد أفق مغاير في المجال البحثي المتعلّق بالسرد سهلا، بل كان شاقّا ومكلّفا، بيد أن المشقّة التي كنت أستشعرها في ذلك كانت تنتهي على الدوام إلى الشعور الغامر بمُتعة لا تقدّر. فقد اخترت أن انتهج إلى المُراد سبيل المُغامرة، لا عشقا فيها، ولا رغبة في التميّز، وإنما بغية الإجابة عن أسئلة مُقلقة ظلّت تؤرِّقني منذ أن اتّصلت بعالم السرد، وتعرّفت على الدراسات التي شغلتْ نفسها بمطارحة مُعضلاته، سواء أاتّخذت هذه الدراسات منحى لسانيّا، أم نصّيا، أم سيميائيّا، أم بوطيقيّا. ولم تكن هذه الأسئلة تتعدّى، في بدايات تشكّلها، غير ما يناسب حجم رغبتي في تعرُّفِ عالمِ السرد في خصوصيته، والاستفادةِ من مُمكِنه على المستوى المعرفيّ المحض، ورغبتي في تجريب أدوات مُستقاة من نظريات مُتكاملة لها أسسها الابستمولوجيّة على نصوص تحمل معها تفرّدها. ولم تتحوّل هذه الأسئلة إلى أفق للتفكير المُستقل إلا بعد أن تحوّلت علاقة الأدوات، التي أُسخِّرها انطلاقا من منابعها، بالنصوص السردية إلى مأزق نظري له أسئلته الخاصة، والتي كانت تلحّ عليَّ في إيجاد أجوبة مُقنعة في صددها. ولم تكن هذه الأسئلة تنفصل بطبيعة الحال عن السيّاق الفكريّ العامّ، وعن تطلّبات مرحلة تاريخيّة لها أسئلتها المُقلقة والمُربكة. وقد كان لزاما عليّ - في غياب الشروط الموضوعيّة التي تيسر الطريق إلى حلّ المُعضلات المُطروحة معرفيّا من داخل المجال الذي أشتغل فيه - خوضُ التجربة، بكلّ ما يُمكِن أن يعتريها من نقص، وهفوات.
ولم تكن هذه التجربة تتعدّى المساهمة، ولو على نحو خجول، في ما يُراكمه العالم من إنتاج يحمل بصمات الانتماء إلى ثقافات ومجتمعات تتّمتع بالقدرة على الحضور في الزمان. فالأمر لا يتعلّق بالتعبير عن الذات فقط، لأنّ ذلك يُمكِن تحقيقه بانتهاج طريق الإبداع، وما شابه، ولكن يتعلّق أيضا بارتياد أفق السؤال، حتّى لو كان مُخْطَأً بغية تجديد علاقتنا به، واكتساب الحرّيّة اللازمة في استخدام العقل، من دون رهنه بمطابقته بظلال تُعتمد من أجل جلب المصداقية له. ولم تكن هذه التجربة أيضا تتعدّى إعادة الاعتبار للسؤال انطلاقا من تسخيره بغاية تعلّم المعرفة، واكتساب الطرائق الخاصّة بإنتاجها، ومُكابدتها في ما تفرضه فضيلتها على الباحث من استنفار للحواسّ والمُخيِّلة قصد تنمية الرؤية، وتعويدها على تدقيق النظر، والتنبّه إلى ما لم يُنتبه إليه، والكشف عن مهارة الربط بين عناصر تبدو لأوّل وهلة، وكأنّها مُفكَّكة. وقد قادني كلّ ذلك إلى استبدال اقتفاء آثار النظريات الواردة في المجال النصّيّ والسرديّ إلى الرغبة في فهم كيف يتحقّق الإنتاج النظريّ، واشتراع المنظومات المعرفية، فكان أن استبدلت علاقة الإرادة بإنتاج المعرفة والفهم واستيعاب ما يضعه الآخر دليلا على نمط تفكيره بالمحاكاة القاتلة في الإنتاج الفكريّ. ومن ثمّة لم أقتصر على التفكير في الفعل السرديّ من حيث هو إشكالية، بل عمدت أيضا إلى تحويل التفكير فيه إلى إشكالية تُضاعفه، لا بغاية أن يفكّ أحدهما أسرار الآخر، وإنّما بغاية الإمساك بالعلاقة بينهما على نحوٍ مُرْضٍ. وتحويل هذه العلاقة إلى محكّ أختبر في ضوئه العدّة التي سخّرتها في بناء الجهاز النظريّ؛ بحيث يكون المطلوب ماثلا في خلق نوع من التجديل بين الفكرة والمجال الذي تتجسّد فيه.
لم تكن علاقتي بالمعرفة السرديّة راجعةً إلى اختيار أملاه الانسياق وراء الإغراء الناجم عن الهيمنة التي يُمارسها اليومَ السردُ على باقي الأنواع التعبيريّة الأخرى، ولا عن وفرة دلائل العمل التي تُغني الباحث عن مشقّة التحليل والدراسة، بقدر ما تعود تلك العلاقة إلى تراكم استغرق زمنا لا يُستهان به من حياتي المعرفيّة؛ ذلك أن جلّ الدراسات التي أنجزتها كانت تتّخذ لها موضوعا السرد. ومن داخل هذا الاهتمام، كانت تتشكّل لديَّ بالتدرّج القناعةُ بأنّ النصّ السرديّ، روائيّا كان أم غير روائيّ، يهب المُنشغل بقضايا التحليل النصّيّ أكثر من إمكانٍ للمُقاربة الدقيقة، وآفاقا مُتعددة لصياغة أجهزة نظريّة لها القدرة على تفكيك النصوص وقراءتها، أو قل إنّ الباحث يجد في السرد المرونة اللازمة التي تجعله أكثر قدرة على اختبار أدواته، وصياغة أسئلته. وكنت أجدني، إلى جانب ذلك - وأنا أتوسّل بما أَعَدَّهُ الآخر من أجهزة نظريّة - أراكم أسئلة مُؤرِّقة أفضت بي محاولة فحصها، والإجابة عنها، إلى تمرير تلك الأجهزة ذاتها من زاوية الفهم والنقد؛ الشيء الذي أدى إلى اجتراحي تصوّرا مُختلفا يتأسّس على توليد أسئلته وأجوبته الخاصّة. وما كان لهذا النزوع النقديّ أن يتولّد لدي لولا رغبة مشوبة بكثير من العناد في التعبير عن الذات بوصفها أفقا مُنفتحا على علاقة الإرادة بالمعرفة المتّسمة بالخُلوص والنقاء، لا بعدّها أفقا من المُضاهاة، أو وسيلة تستخدم لغايات أخرى. هذا فضلا عن أحساس كان يُخامرني، على الدوام، ويتمثَّل في النزوع نحو اختبار القدرة في حجم اختلاف الآخر وبهائه. بيد أن هذا الإحساس لم يكن صادرا عن نرجسية مُفرطة في الثقة، ولا عن إيمان أعمى بالخصوصية، وإنّما كان صادرا عن وعي باللحظة التاريخية التي نعيشها، والتي تتطلّب منّا أن نتخلّى عن وضع التتلمذ الاستهلاكيّ، وأن نُحاول الحضور في العصر عن طريق انخراطنا في المُساهمة في بناء صيرورته والإضافة إليه.
لم يغب عن ذهني أبدا، وأنا أفكر في إنجاز هذا المشروع النظريّ، اتّساع الهوّة بين سيّاقات الإنتاج المعرفي وتداوله المُتوافرة في العالم الغربي، ومثيلاتها في العالم العربي، لا على مستوى الوسائل والإمكانات والأهداف، أو على مستوى طرائق توصيل المعرفة وقنوات توزيعها وتكريس نماذجها، كما لم يغب عن ذهني الذهنية المُهيمِنة على الفكر العربي، والتي تتّسم بمقاومة كلّ تجديد يأتي من الداخل، والإكليروس الذي يُحاول حماية مصالحه الماثلة في الاستيلاء على قنوات صناعة القرار الثقافيّ واحتكارها. ولكن لم يكن كلّ ذلك ذريعة للتقاعس عن المُبادرة إلى انتهاج سبيل البناء المعرفيّ المُنتِج عن طريق استشراف أفق الأسئلة والنقد، حتّى ولو كانت هذه الأسئلة مُخْطَأَة، فهي تُرسي، على الأقلّ، جسرا مُتحرِّكا نحو الحضور الفعّال في العالم. فربَّ صوت لا يبين أفضل من صمت مُريب، لأنّ له فضيلة تحريك السكون. وما قدح العزم في داخلي والحماس أن ثلّة من رجال الفكر في منطقتنا العربية قد سبقوا إلى إرساء ما يُمكِن عَدُّه إشارةً إلى إمكان البداية الخلّاقة والحضور الإيجابيّ في العالم، من دون تهيّب، أو إسراف في تجاهل الصعوبات والمُعوِّقات.
ولا أجد شيئا أروعَ أختتم به هذا التصدير أفضل من التوجّه بكبير المودّة والحبّ إلى طلبتي الذين ظلوا على الدوام أساتذتي الأوائل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى