عبد القادر وساط - رسالة إلى أحمد بوزفور

مساء الخير.
هناك أسماء نسوية لها رنة موسيقية عذبة في الأذن، بصرف النظر عن معناها في المعجم. ومنها اسمُ "سمادير"، الذي يعني: " ما يتراءى للناظر كأنه الذباب الطائر." وقد كانت هناك نساء كثيرات يحملن اسمَ " سمادير" في الزمن القديم. ومنهن زوجة الشاعر دُريد بن الصمة. وهي "أم معبد"، التي ذكرها هذا الشاعر في مطلع داليته الشهيرة، في رثاء أخيه عبدالله:
أرَثَّ جديدُ الحبْل منْ أمِّ مَعْبَدِ = بعاقبةٍ و أخْلَفَتْ كلَّ موعدِ
وفي زمننا هذا، لم يعد أحد يطلق على ابنته اسمَ سمادير. لكننا نجد، بالمقابل، نساء كثيرات يحملن اسمَ " ريحانة "، الذي كانت تحمله والدة هذا الشاعر الجاهلي المقدام. ويزعم بعض الرواة أن ريحانة - أم دريد - هي المذكورة في قصيدة عمرو بن مَعْديكَرِب المعروفة:
أمنْ ريحانة َ الداعي السميعُ = يؤرقني و أصحابي هجوعُ
و كان الصمة - والدُ الشاعر دُريد - قد سبى ريحانة هذه في إحدى غزواته، فحاول أخوها عمرو بن مَعْدِيكَرِب أن " يستردها " بالقوة فلم يقدر، فنظم هذه القصيدة العينية، يَذكر فيها أختَه السبية. ثم تزوج الصمة ُ ريحانة، فولدتْ له خمسة أبناء، منهم عبدالله الذي رثاه أخوه دريد بالدالية المشار إليها. وقد ابتدأ الشاعر داليته الخالدة هذه بضرب من النسيب يلائم الرثاء ( أرَثَّ جديدُ الحبل من أم معبدِ). وفي هذه المرثية نجد ذلك البيت الذي ذاع واشتهر:
و ما أنا إلا منْ غَزيّةَ إنْ غوتْ = غويتُ و إنْ تَرْشدْ غزية ُ أرْشدِ
ومن أبياتها الرائعة في ذكْر الأخ القتيل :
فإنْ يكُ عبدُالله خلّى مكانَهُ = فما كان وقّافاً و لا طائشَ اليدِ
صَبا ما صَبا حتى علا الشيبُ رأسَهُ = فلما علاه قال للباطل: ابْعدِ
و هَوَّنَ وجْدي أنني لم أقلْ لهُ = كذبْتَ و لم أبخلْ بما ملكَتْ يدي
و هوَّنَ وجْدي أنما هو فارطٌ = أمامي و أني واردُ اليوم أو غدِ
وفي هذه الدالية بيت لا أعرف له مثيلا فيما أتيح لي أن أطلع عليه من أشعار الأقدمين. وهو ذلك الذي يصف فيه الشاعر كيف دعاه أخوه عبدالله لنجدته، بينما الرماح تتناوله وتنُوشُه :
غداةَ دعاني و الرماح يَنُشْنَهُ = كوَقْع الصياصي في النسيج المُمَدَّدِ
والصياصي- كما لا يخفى عليك - جمعُ صِيصِيَة، وهي شوكة الحائك. وأنا معجب بهذا البيت لأن فيه تصويرا فنيا مؤثرا لهذا الأخ الذي تنغرز في جسمه رماحٌ ذاتُ وقْع كوقع صياصي الحائك في ثوبٍ يُنْسَج .
ولدريد قصائد أخرى بديعة ولا كهذه الدالية. فمنها بائيته التي يتغزل فيها بالخنساء الشاعرة. أما مناسبة نظمها فيرويها أبو الفرج الأصبهاني كما يلي: " مرَّ دريد بن الصمة بالخنساء تُماضِر بنت عمرو بن الشريد، وهي تَهْنَأ بعيرا لها وقد تبذلتْ حتى فرغَتْ منه ثم نضَتْ عنها ثيابَها واغتسلتْ ودريد بن الصمة يراها وهي لا تشعر به فأعجبتْه فانصرفَ إلى رحْله وهو يقول:
حيُّوا تُماضرَ و ارْبَعُوا صحْبي = و قفوا فإنّ وقوفَكمْ حسْبي
إلى آخر القصيدة التي يصف فيها كيف أنه لم ير قط امرأة مثلها تَهنأ ناقة جرباء، أي تطليها بالقطران كما هو معلوم:
ما إنْ رأيتُ و لا سمعتُ بهِ = كاليوم هانئَ أيْنُقٍ جُرْبِ
ثم يصف كيف كانت الخنساء تضع الهِناء - القطران- مواضعَ النقب.
والنُّقْب - كما كنتَ تُدرس لطلبتك في الجامعة يا صديقي - هي القطع المتفرقة من الجرَب. فالخنساء - التي يتحدث عنها الشاعر هنا بصيغة المذكر - لا تضع الهناء إذن إلا في مواضعه :
متبذّلاً تبدو مَحاسنهُ = يضعُ الهِناءَ مواضعَ النقْبِ
وقد صار هذا البيت مثلا يُضرب لكل من يضع الشيء في موضعه. ويختم الشاعر بائيته ببيت بديع حقا :
فسَليهمُ عنّي خُناسُ إذا = عضَّ الجميعَ الخَطْبُ ما خَطْبي
إنه ( سيناريو) جميل لدريد بن الصمة يراقب الخنساء من حيث لا تراه، بينما هي منهمكة في معالجة الناقة الجرباء بالقطران، حريصة على ألا تضع هذا القطران إلا في المواضع التي يوجد فيها الجرب. ثم إنها تَخلع ثيابَها بعد ذلك كي تغتسل، وقد أمنتْ عيون المتلصصين .بينما الشاعر دريد - الذي بلغَ من الكبر عتياً - يتأمل ذلك الجسد العاري وقد سال له لعابُه.
حكاية جميلة لولا أنها تستعصي على التصديق!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى