محمد الديهاجي - تأويلية ريكور.. فسرَّ أكثر تفهم أحسن..

يندرج مشروع بول ريكور، ضمن النظرية التأويلية المتحدرة من الظاهراتية الهوسرلية، كمبحث يختص بالمعنى الأنطولوجي، وذلك بنوع من الانفتاح الإيجابي على مجموعة من العلوم الإنسانية، وهو، لاشك في ذلك، انفتاح مطمور بالخصوبة السجالية/الحوارية .
لقد سعى ريكور بأناة وتؤدة إلى تكوين أنطولوجيا للفهم بنوع من الحوار اليقظ والرصين مع الحصيلة النظرية والمتودولوجية للفكر الفلسفي المتاح، في إطار نزعة انتقادية آثر تسميتها « بإبستيمولوجيا التأويل».
ولما كانت المسبقات المنهجية الفينومينولوجية محاولة للكشف عن معنى الوجود، في طريقها للإمساك بالأنا، لكن بطريقة غير مباشرة، أي من خلال تجليات هذه العتامة الأصلية في الرموز والنصوص والعلامات، فإنها ستتحول، هي نفسها، إلى مسبقات التأويلية الريكورية. إن هذه المسبقات ، هي من جهة، سؤال نحو معنى الوجود، وهي من جهة أخرى، محاولة للوعي بهذا المعنى عبر تفكيك رموزه ودلالاته المطمورة في النظم اللغوية للنصوص.
إن ريكور، في مقدمة كتابه «صراع التأويلات «le conflit des interpretations يشير، بصريح العبارة، إلى تأثره الكبير، في بداية مشروعه الفلسفي، بفينومينولوجيا هوسرل بالأساس. يقول ها هنا :» ولقد تدربت في السنة نفسها على الأعمال التي نشرها هوسرل، والذي يعد المؤسس لتيار الظاهراتية، كما اطلعت على همه في الوصف السليم والدقيق للظواهر المادية[...] كانت مساهمتي الأولى للفلسفة بالإضافة إلى الأعمال المهداة إلى فكر أساتذتي الأوائل، تتمثل في تمرين على الفلسفة

الظاهراتية المكرسة للإرادة

وتبقى المقولتان الأثيرتان «الرمز يدعو للفكر» و «فسر أكثر تفهم أحسن»، منطلق المشروع التأويلي لريكور. فالمقولة الأولى تختزل ، بجدارة نادرة، مبحثه الفلسفي عن الإرادة، وأما الثانية ، فهي التي فتحت له أفقا جديدا نحو صياغة أسس نظرية تأويلية، سيبقى الدرس الفلسفي المعاصرا مدينا له بها إلى الأبد.
إن أصالة الهيرمينوطيقا، في الظاهراتية، تكمن أساسا في قدرتها على صياغة أنطولوجيا للفهم. إلا أن ذلك قد تم بقطع الصلة مع المنهج، على غرار طريقة هايدغر. وليست الأنطولوجيا، ها هنا، سوى أنطولوجيا الكائن المتناهي، ككينونة، لا كحامل للمعرفة. في حين يقترح ريكور طريقا طويلا وطموحا وغير مباشر. لقد كان همه الأكبر هو بلورة هذه الأنطولوجيا عبر وضع إبستيمولوجيا للتأويل.
لم يعد للفهم، مع ريكو، سبيلا للمعرفة، كما كان الأمر عند الظاهراتيين. لقد أصبح طريقة من طرق الكينونة، أي « طريقة هذا الكائن الذي يوجد وهو يفهم». وما دام المعنى هو تجل فاضح لأصالة الكينونة، وأنه يظل دائما محجوبا بالعتامة والتعمية، في إطار «تعابير مضاعفة»، فإن عمل التأويل، في نظر ريكور، هو»عمل الفكر الذي يتكون من فك المعنى المختبئ في المعنى الظاهر، ويقوم على نشر مستويات المعنى المنضوية في المعنى الحرفي. وإني ، إذ أقول هذا[الكلام لريكور]، فإني أحتفظ بالمرجع البدئي للتفسير، أي لتأويل المعاني المحتجبة. وهكذا يصبح الرمز والتأويل متصورين متعالقين. إذ ثمة تأويل،هنا حيث يوجد معنى متعدد، ذلك لأن تعددية المعنى، تصبح بادية في التأويل.»
من هذا التصور، تحديدا، عجل ريكور، بنقل النقاش التأويلي إلى اللغة باعتبارها فعلا محايثا للتجربة البشرية ، من جهة، وللوجود الكلي، من جهة ثانية. إنه الطريق الإبستيمولوجي الأصيل، نحو صياغة جديدة للكوجيطو، من خلال أهم الوسائط الإنسانية كالعلامات والرموز والنصوص…
وفيما يخص تصوره للخيال، فقد انطلق ريكور في صياغة نظريته في الخيال، من الوقوف أولا عند الصعوبات والإحراجات الكلاسيكية لفلسفة الخيال، ذلك أن أولى هذه الصعوبات تتمثل في كون هذه الفلسفات تنطلق « من ذاتها تبعا لما يظهر لكل واحدة أنه النموذجي في تشكيلة دلالات الأساس. هكذا تميل إلى بناء نظريات للخيال أحادية المعنى كل مرة، لكن ندية.»
وكذلك من جملة الإحراجات التي عاشها إشكال الخيال في التقليد الفلسفي، السمعة السيئة التي كانت لكلمة «صورة». فهي تارة كلية ذهنية(علم النفس السلوكي)، وتارة ثانية إثارة اعتباطية لأشياء بعيدة، وتارة ثالثة إثارة لأشياء غير موجودة ومتوهمة، وتارة رابعة إدراك ضعيف للواقع.
وفي معرض حديثه عن الخيال في علاقته بالاستعارة، يُقرُّ ريكور بأن الخيال «يقدم وسيطا نوعيا، في لحظة بزوغ دلالة جديدة خارج خرائب الإسناد الحقيقي» . فالمسندات الشاذة ـ الاستعارة مثلا وعلى عكس الكناية والمجاز المرسل ـ تعمل دائما على توسيع المسافة المنطقية بين الحقول الدلالية. وبناءا عليه فالخيال[عند ريكور دائما] هو « الإدراك الحاد والرؤية الفجائية لملاءمة إسنادية جديدة، بما في ذلك طريقة بناء الملاءمة في انعدامها.»
وأما الصورة فتعني في اللعبة التخييلية، تعليق الدلالة ، وكذا نشر المعنى في مجلات حواسية، ومن ثم فإن الخيال الريكوري هو « لعبة حرة بإمكانيات ما، في حالة عدم الالتزام حيال عالم الإدراك أو الفعل. وفي حالة عدم الالتزام هذه، نجرب أفكارا جديدة وطرقا جديدة للكينونة في العالم.»

٭ محمد الديهاجي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى