يوسف يعقوب حداد - امرأة معذبة

جاء بغداد يبحث عن المتعة لنفس حرمت المتع منذ عهد بعيد، جاء بغداد ينشد فيها حياة جديدة، حياة ممتعة، بعد أن مل الحياة على وتيرة واحدة، كأنها اسطوانة واحدة، تتكرر كلما أشرقت الشمس وغابت!

وكانت ليلته تلك في الفندق، أول ليله له ينام فيها وحيدا، غريبا، فما سبق أن ألف حياة الوحدة والغربة.

ودقت الساعة الكبيرة المائلة أمامه عشر دقات، فوجد نفسه ضجرا، قلقا، لا يدري أين يقضي سواد هذه الليلة، وقد اعتزم من قبل ألا يترك لحظة واحدة من أيام إجازته القلائل تذهب مأسوفا عليها!. . . وفجأة تذكر أن فتيات (ملهى الأنوار) ينزلن هذا الفندق، فتساءل بينه وبين نفسه، لم لا يذهب إلى (ملهى الأنوار) ويتعرف على جاراته الحسان؟. . . لم لا يمضي هذه الليلة بين كأس ووتر؟!. . .

وفي طرف منعزل من حديقة الملهى، كان يشرب (بيرة) مثلجة، ويسمع نغما عابثا، ويتطلع بعينيين جائعتين إلى أربع وعشرين ساقا، تلمع كالسيوف الصقيلة، تحت أشعة المصابيح الصغيرة الملونة!. . .

ولفتت نظره واحدة منهن، كانت تشرب الكؤوس متتابعة، وتتدلل بإفراط، قد كشفت عن صدرها وظهرها في إسراف، فظل يرمقها في مجلسه، لا يكاد يحول عينيه عن جسدها العاري، أو ينقل نظراته عن صدرها العاجي، وكم اشتاق إلى صدرها العريض ليربح عليه رأسه المتعب. . .

كان من عباد الجمال الغربي، يثيره منه الشعر الأشقر كأنه سلاسل من ذهب، والعيون التي كأنها بحار من لازورد، والجسد الرشيق كأنه رمح صقيل، والنهود النافرة كأنها تتحدى السماء في عجرفة وكبرياء!

وكان صدره يتمزق آسى وحسرة حين وجد هذه الغانية اللعوب تغازل الشيوخ وقد عرفت في محافظهم انتفاخا مغريا، وتعزف عن الشباب وقد أدركت أنهم لا يملكون في جيوبهم غير مناديلهم المعطرة!. . . أحس أنه يشتهي هذه الغانية. . . ولكن دنانيره الهزيلة أضعف من أن تستطيع الوصول به إليها، فأسرع يغادر الملهى، ليدفن رأسه بين طيات وسادته، ويصم أذنيه عن صدى أغاني الراقصات الهنغاريات المثيرة، ويغمض عينيه عن طيف (جانيت) الفتاة البوهيمية اللعوب التي أبث ألا أن تظل ماثلة أمام عينيه بدلالها، وجسدها المملوء فتنة، المتفجر حيوية!

وأوشك أن يتغلب على الشيطان الذي يحاربه، أوشك أن يصرع الوحش الهائل الذي هاج في أعماقه ويستسلم لنوم عميق هادئ، لولا أن رن جرس الباب رنينا متصلا، مزعجا، إطار النوم الذي كان يغالب خفنيه، فاعتدل يحاول أن يتبين الوقت في ساعة يده الفسفورية، فألقى عقارب الساعة تشير إلى الثالثة بعد منتصف الليل.

وتعالت عليه من أسفل السلم ضحكات ناعمة رن صداها في أذني المرهفتين، فتذكر فتيات الملهى، ثم ما لبث أن رأى (جانيت) تلك الفتاة التي أثارته بأنوثتها الحية وجسدها المغري وهي تدلف بخفة ورشاقة إلى غرفة التلفون المقابلة لغرفته، وتتحدث بلغة إنكليزية ركيكة إلى خادم الملهى تسأله أن يرسل إليها زجاجات من (البيرة) المثلجة! فأدرك من التواء الكلمات في فمها، وتعثر الألفاظ على شفتيها أنها ثملة، وأنها فقدت السيطرة على أعصابها!

ولأول مرة رآها من قريب، فراحت عيناه تلتهمان لحمها العاري المتورد وقد انحسر عنه الثوب، ولكنه استطاع أن يقاوم ثورته وتشبث بسريره بقوة وظل صدره يرتفع وينخفض بشدة، وأحس بقلبه يخفق في عنف!. . . لقد أوشك أن يجن في اشتهاء هذه المرأة، وكاد صدره يتمزق حسرة؛ لأنه لا يستطيع إرواء غليله منها!. . . لأول مرة شعر أنه يكره من أعماق قلبه أغنياء الناس، يكرههم، ويحسدهم، مع أنه عاش حياته قانعا بنصيبه من النعمة، يحب الناس وتحبه الناس!

ولم يطل الصمت بعد أن أوت كل فتاة إلى غرفتها وأسلمت نفسها لأحضان فراشها وهي تلهث كالحيوان المتعب، فقد رن جرس الباب مرة أخرى ذلك الرنين الطويل المزعج وأقتحم الفندق ثلاثة من أبناء الذوات، قد أفقدتهم الخمر شعورهم، وفيما هم يجادلون خادم الفندق جدالا سخيفا، مملاً، إذا بتلك الفتاة تخرج من غرفتها عارية إلا من ورقة التوت التي استترت بها جواء، فما كادت عيون الشباب السكارى تقع على محاسنها المكشوفة، حتى ثارت في عروقهم وحوش الشهوة، فتشبثوا بها يريدونها لمتعتهم سواد تلك الليلة، ولكن الفتاة أبت، وحاولت أن تتملص من الأذرع الفولاذية، ولكنها لم تستطيع - فالفريسة قد وقعت بين أنياب الوحوش الكاسرة!. . . غير أن (جانيت) لم تشأ أن تستسلم لهم، كالشاة الذليلة إلى المجزرة - فثارت فيها تلك اللبوءة الجاثمة في أعماقها، وراحت تسمى للخلاص بكل قوتها، وما كان منها وقد كادت تخور قواها، إلا أن تصوب من كفها الرخصة، صفعة قوية إلى أشدهم قسوة، تكفي لإرهاب الوحوش، وإبعادهم عنها، ولكن هذه الصفعة التي تناهى رنينها إلى غرفة الفتى - قد أثارت نشوة الشاب المصفوع، وأحس بأن كرامته قد أذلتها امرأة - يستطيع أحقر الرجال أن يذل كرامتها، ويشتري شرفها وعزتها، فتناول الفتاة بالضرب المبرح حتى أدمى جسدها.

وسمع الفتى صوت (جانيت) وهي تستغيث بصوت باك يقطع نياط القلب، فقفز من فراشه وقد ثارت حميته، وخف لنجدة المرأة المستغيثة. . . وحين لحق بها، وجدها مرفوعة في الهواء، على ذراعي أحد الشباب السكارى، يريد أن يقذف بها من حالق!

وأنقذ الفتاة من موت محتم. . . ثم عاد إليها ليجدها وقد أسلمت نفسها لبكاء مر يفتت الكبد ويذيب الحجر!

لم تكن الفتاة تبكي من جراحها الدامية أو من ألم الضربات المبرحة، وإنما كانت تبكي حظها، تبكي طهرها، تبكي عفافها. . . كانت تبكي لأنها فقدت الطهر والعفاف، وصارت واحدة من بنات الليل، تفرش عفافها تحت أقدام اللذة المنهومة وتعرض جسدها للمذلة والمهانة!. . . كانت تبكي في مرارة مؤلمة وتنشج في حرقة وحرارة؛ لأنها امرأة ضعيفة تعجز عن الانتقام لكرامتها والدفاع عن نفسها. . . كانت تبكي لأنها عند الناس بائعة هوى رخيصة يستطيع كل من يملك ثمنها أن يؤجرها لمتعته وهواه!. . . نعم، كانت تبكي لأنها في هذا البلد امرأة غريبة ليس لها من يحميها وقد حرمتها الحرب زوجها وطوح بها القدر الساخر إلى عالم داعر فاجر تتوائب في ساحته ذئاب ضارية وتتحفز لتقطع عنقها وتفترس جسدها!. . . جرح الرصاص زوجها، واختطف الموت طفلها - وساقها القدر من بلد إلى بلد وتنقل بها من ملهى إلى ملهى، تبيع لطلاب المتعة، وتشتري لنفسها الحياة!

كانت تشكو للفتى ظلم الحياة وقسوة القدر، وتمزج حديثها بالدموع وتنفث من أعماق صدرها الزفرات، وهو جالس أمامها وقد فاض قلبه بالعطف والحنان، ولولا الحياء لمزج دموعه بدموعها، كان رقيق القلب، سريع التأثر إلى حد بعيد! وسألته متوسلة أن يتحدث إلى خادم الملهى يستحثه على إرسال زجاجات (البيرة) فقد اعتادت أن تذيب همومها في كؤوس الخمرة، ولكن الفتى أشفق عليها من كثرة ما شربت تلك الليلة، فأبى عليها أن تشرب، وأقنعها بان تذهب إلى فراشها وتحاول أن تنام. . . إن الإنسان لا ينسى همومه إلا إذا نام أو مات!. . . غير أن الفتاة ألحت وتوسلت وكادت تقبل يديه من أجل كأس واحدة تخفف بها بعض أساها، ولكنه سألها في تأثر بالغ وهو يدفع بها إلى مخدعها في رفق - ولكنك ستقتلين نفسك يا سيدتي. . . أنك تنتحرين! فرفعت إليه عينين ذابلتين بللتهما الدموع، وأجابته في صوت خافت ذبيح النبرات - يا ليتني يا سيدي استطعت. . . ليتني وضعت حدا لهذه الحياة الذليلة، حياة العار والمذلة!

وعاد إلى غرفته. . .

كانت الساعة تعلن النصف بعد الرابعة حين سمع الفتى صوت بابها وهو يفتح، ويرى ظلها أمامه على الحائط المقابل لغرفته وهي تضع كأسا على شفتيها، ودق قلبه دقات مضطربة وهو يسمعها تبكي بكاء مخنوقا وتسعل سعالا مكتوما، فغادر غرفته ليستطلع أمرها، وكم كان ارتياعه شديدا (حين رآها تتجرع كأسا من حامض الفينيك كان خادم الفندق يعقم به الغرف والممرات)!

وأسرع إليها كالمجنون ينتزع الكأس من بين شفتيها انتزاعا، ثم دس سبابته في فمها ليرغمها على إخراج ما أدخلت في جوفها من سم زعاف!

كانت الفتاة بين يديه كالخرقة البالية. . .

كانت كالغصن الذابل المقطوع من شجرة. . .

كانت جسدا متخاذلا جامد الأطراف. . .

أن هذه النائمة على صدره المستسلمة لذراعيه - العارية بين يديه هي نفسها تلك المرأة التي اشتهى أن يمد يده إلى لحمها العاري ليتحسس نعومته وطراوته. . . أنها نفسها تلك المرأة التي أشتاق منذ ساعات إلى صدرها العريض ليريح عليه رأسه المتعب. . . ولكنه بحث عن تلك الرغبات في نفسه فلم يجد لها أثراً. . . كانت قد ماتت في صدره كل الرغبات ولم تعد تختلج أو تتحرك!. . . أن ذاك الوحش الذي كان قد ثار في صدره بعد أن رآها لأول مرة في الملهى قد خمدت ثورته وشلت كل حركة فيه!. . . ذلك الوحش الهائل نفسه قد عاد الآن إنسانا تختلج في قلبه عاطفة نبيلة إنسانية كريمة!

وأسرع يلف جسدها العاري بملاءة فراشه، ويحملها إلى اقرب طبيب!

ولم يبقى في ذلك الفندق أكثر مما بقى، فقد كانت تلك المرأة كلما وقعت عليه عيناها تذكرت تلك الليلة المشؤومة فتنهمل الدموع من عينيها، وتنكأ الجرح العميق الذي خلفته في قلبها. . .

أشفق عليها من مرارة الذكرى، وغادر الفندق إلى الأبد!

عراق. . . بصرة

يوسف يعقوب حداد


مجلة الرسالة/العدد 904
بتاريخ: 30 - 10 - 1950

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى