أمل الكردفاني - عناكب الفوضى.. قصة حقيقية

  • التقيت به في السوق العربي ، وجلسنا الى بائعة شاي ، كان قد تخلص من ادمانه على لبس البدلة ورابطة العنق ؛ أخبرته قبلها بأن هذا سيحدث ان عاجلا او آجلا ان استمر بتفكيره المثالي تجاه الحياة في السودان. أخبرته بأنه سيبيع بدله ورابطات عنقه واحدة تلو الأخرى ليعيش ؛ وأن العشرة جنيهات التي يمنحها للمتسولين سيتسولها هو نفسه يوما ما. وهذا قد تحقق بالفعل. جلسنا في البنبر نحتسي كوب الشاي فتغوطت علينا حمامة وامتلأت ملابسنا بغائط الحمامة ، ضحك الناس علينا وصاحت بائعة الشاي: بختكم...
    يقال ان من تتغوط عليه الحمائم يصبح غنيا. فتفاءلنا بما قالته ست الشاي ذات الجسد الممشوق كحراب دراويش المهدية ، والمؤخرة التي تنفر عن خصر نحيل يقسم الجسد الى نصفين كل نصف له طعم العسل بنكهة مختلفة.

    مضت سنوات وتحققت توقعاتي التي دائما ما تتحقق ، فقال باستياء وهو يمسح العرق عن عينيه بمنديله من خلف نظارته ، ولكن كيف ، نحن مؤهلون .. في حين ان انصاف الجهلاء يملكون كل شيء؟ أجبته بحسم: نحن في بلد انهارت فيه كل مقومات الدولة الحديثة ، البلد الآن رقعة تموج فيها القطعان ، كل قطيع يستند الى قوة الجماعة ، اما الطائفة او القبيلة او السلاح ، وفي ظل هذه الفوضى فليس أمامك إلا ان تختار القطيع الذي يجب ان تنتمي له.
    نظر الى السماء ؛ وسأل وأنا متأكد من أنه يعرف الاجابة مسبقا: ماذا تقصد.
    أجبته: انت تعرف ماذا أقصد.. انت لديك انتماء قبلي ، لا حل امامك سوى ان تعود الى جذورك.
    بدت له الفكرة مخيفة فاتسعت عيناه ونفض راسه ككلب تحمم بالمطر...
    قلت له: ستموت.. ستموت متعفنا ان لم تفعل ... لكن ليس من الخطورة ان تموت ولكن الخطورة تكمن في زوجتك وابنتيك... ستتركهما في هذا الجحيم... وعلى كل حال اتمنى ان تفهم ان تعليمك ودراستك ومعرفتك وثقافتك لن تنفعك ان لم ينفعك ذكاؤك في الاستفادة من الفوضى.....
    لقد استمع لكلامي جيدا ؛ كنت اعلم انه يدرك انني لا اسدي نصائح كاذبة ، فالسودان هو بلد العناكب ؛ عناكب الفوضى ؛ وعناكب الفوضى هي التي لا يمكن ان تعيش في بيئة منظمة ، انها عناكب تنسج خيوطها المتشابكة حيثما اتسعت دائرة الوسخ لتصطاد الذباب الحائر ، عناكب الفوضى هي وحدها التي تستطيع ان تحصل على حقوقها وفوق هذا تسرق حقوق الآخرين ولو أدى ذلك لتدمير الدولة نفسها. عناكب الفوضى هي التي تجعل الجسور تسقط وتنهار جراء عدم توفر المتطلبات الفنية فيها ، وعناكب الفوضى هي التي تجعل من أمي يحصل على رتبة عسكرية عالية ، وعناكب الفوضى هي التي تتسبب في ضياع مليارات الدولارات على مشاريع وهمية تزيد الدولة رهقا على رهق... وعناكب الفوضى هي التي تستطيع ان تؤسس شركات وهمية وقبل صدور الموافقة على تسجيلها تتمكن من الحصول على عطاءات بملايين الدولارات... وعناكب الفوضى هي التي تستطيع ان تصل للقصر الجمهوري وتتجسس على الرئيس نفسه وتمارس التجارة الفاسدة ثم تحتمي بالدول الأجنبية التي كانت تتجسس لمصلحتها ، وعناكب الفوضى هي التي تجعل من وزراء ومسؤولين يحصلون على القاب علمية مزيفة يتباهون بها لإكمال شعورهم بالنقص جراء تعيينهم عبر تملق الكبار... وعناكب الفوضى هي التي تستطيع ان تقتل بدم بارد وتنجوا من المحاسبة والعقاب ، وعناكب الفوضى هي وحدها التي تستطيع ان تمارس الجنس مع العذارى بالمال ثم تخرج من صرح القضاء رافعة رأسها بحكم قضائي بالغرامة فقط ، وذات هذا القضاء هو الذي يعاقب بائعة شاي بالسجن لأن لباسها الداخلي قصير ، وعناكب الفوضى هي نفسها العناكب التي تدخل حاويات المخدرات الى الدولة عبر مينائها البحري وهي ذاتها التي تخرج اطنان الذهب عبر مطار الخرطوم الدولي.
    قلت له ذلك : اخبرته بأن الأمر لا يتعلق بكونك حاصل على شهادات جامعية او فوق جامعية ، فأنت لست في سويسرا ، وان لم تفهم ذلك ستعيش نرجسية كاذبة تضمحل وتتآكل يوما بعد يوم حتى تدخل الى طه بعشر وانت تحسب ارقاما وهمية في الهواء.
    استمع الى كلامي جيدا... بعد ذلك ... تحول صديقي الى عنكبوت فوضوي كبير ....كان ذكيا بما يكفي ليتحول الى أحد عناكب الفوضى... ولإكمال عنكبته هذي .. قام بحظري على هاتفه والغى صداقتي على وسائل التواصل الاجتماعي ، بل ومحا وجودي من ذاكرته تماما....وجودي الذي بدأ منذ سبعة عشر عاما....
    حينها ابتسمت بفخر... لقد استطعت ان اجعل شخصا ما ينجو من المهلكة... المهلكة التي تسمى الوطنية ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى