حامد حنفي داود - رسالة الأدب بين الأصفهاني والثعالبي -1

كثيراً ما تكون ذاتية الأديب سبباً في تضارب آرائه أو هدمها وخاصة حين يعمد إلى مقارنة كاتب بآخر من كتاب تاريخ الأدب العربي، فيحمله تعصبه للواضع أن يقدم آثاره على آثار غيره، أو يقدمه على أترابه من أجل سفر واحد من أسفاره

هذا ما لمسته حين أثار جماعة من الأدباء نقاشا حادا حول كتاب (الأغاني) الأصفهاني وكتاب (يتيمة الدهر) للثعالبي. وكانت المفاجأة عجيبة حقاً حين رأى ذلك الناقد الكريم أن كتاب الأغاني أدى إلى الرسالة الأدبية القدر الذي لم يؤده كتاب اليتيمة. ولعل ذلك الناقد هاله أن يقع كتاب الأغاني في واحد وعشرين جزءاً على حين يقع الآخر في أربعة أجزاء. وعلى هذا أصبح الأصفهاني - في نظره - أحق بالتقديم من صاحبه

هذه أحكام سريعة مليئة بالخطأ والعيوب. ولعله لم يحملنا على الوقوع فيها إلا في الأحكام السطحية التي نرسلها قبل الدراسة العميقة والآراء المحمصة

ولو أننا نستعرض حياة الأصفهاني في القرن الرابع والثعالبي في أوائل الخامس، ثم أخذنا نوازن بين آثارهما ومقوماتهما الأدبية لاستطعنا أن نجيل الحديث على غير هذا النحو، وأن نرسل أحكاماً دقيقة تقوم على الحجة والبرهان

كان الأصفهاني (356هـ) والثعالبي (429هـ) شيخي عصرنا في تاريخ الأدب ودراسته. وقد حملاً إلينا خلاصة الآثار الأدبية التي وصلت إلى علم هذين القرنين. ولكن شتان ما بين الرجلين في طريقة الأخذ وفي طريقة علاج النص الأدبي

ولعلنا نجد في حياة الرجلين وآثارهما وأسلوبهما ما يعيننا على تلمس ما بينهما من هوة واسعة في نقل (المادة الأدبية) إلينا وفي طريقة حملها وأدائها

عاش الأصفهاني في النصف الأول من القرن الرابع وهو عربي من نسل أمية، وولد بأصفهان يوم كانت موطن كثير من الأشراف النازحين والأمويين الهاربين خلال العصر العباسي الثاني. ولكنه انتقل إلى بغداد سريعاً حيث نشأ وتعلم. وهنالك جمع مادة كتابه الأغاني من الإخباريين وتلقفه من أفواه المؤرخين والمغنين ورواة الشعر، في الوقت الذي كانت فيه بغداد تموج بميادين الشعر، وتكاد تضيق بالشعراء والأدباء على اتساعها، وهؤلاء غير من كانوا يفدون عليها من الدول الإسلامية شرقاً وغرباً وخاصة دولة بني بوية السياسة والحضارة الإسلامية في القرن الرابع

أما الثعالبي فإنه ولد بنيسابور ونشأ في بلاد المشرق حين كانت مسرحا للدول الفارسية الناشئة في ذلك العصر، وفي هذه البقعة من الأرض خالف الثعالبي في نشأته أعيان عصره حيث أخذ الأدب عن رغبة ملحة وميل شديد، فلم يحمل نفسه عليه حملاً أو يكرهها على صناعته كرها، بل كان ملهماً بطبعه وفطرته. وقد وهب إلى جانب ذلك قريحة وقادة وسجية مواتية، يدلك على ذلك أنه كان في أول أمره فراء يبيع فراء الثعالب في الأسواق. ولو كان من صناع الأدب ومتكلفي الشعر الذين يكرهون أنفسهم ويحملونها على علاج هذه الصناعة لصعب عليه أن يغير مجرى حياته على هذا النحو العجيب. وهو إلى جانب هذه الطبيعة المواتية يحمل بين جنبيه نفسا محسة وقلبا نابضا يطوع له صناعة الأدب ويفتح أمامه طريقاً سهلاً ميسوراً فيجد نفسه مشاركاً لأدباء عصره في إحساسهم مرتبطاً بعواطفهم حافظاً لأشعارهم ورسائلهم. ثم يأبى علية هذا الطبع السمح إلا أن يقوده إلى الكتابة الأدبية المنظمة عن بيئته التي عاش فيها، فيجد نفسه مرة أخرى حيال نزعة ملحة إلى تأريخ الحياة الأدبية خلال القرن الرابع كله، فيضع كتابه (يتيمة الدهر). ويخرج الكتاب صورة صادقة لهذه النفس في سهولتها وهذه العقلية في نظامها وهذه الحافظة في وعيها وهذه الثقافة في اتساعها.

أما الأصفهاني فيضع كتابه السالف في واحد وعشرين جزءاً وهو أضعاف مضاعفة لكتاب صاحبنا، سواء في مادته وأخباره. تراه يجمع فيه مادة وافرة من الشعر والغناء وأخبار الشعراء حتى أنه - كما يحدثنا أبو محمد المهلبي - وضعه خمسين سنة وأنه لم يستطع أن يكتبه إلا مرة واحدة في عمره. ويكفيه فخراً أن الصاحب بن عباد زعيم الشيعة وعميد الأدب العربي في النصف الثاني من القرن الرابع - يمدحه ويثني عليه، لما رآه من استقصائه للأخبار وجمعه لحكايات الشعراء حتى قال فيه: (ولقد اشتملت خزانتي على مائة ألف وسبعة عشر ألف مجلد ما فيها سميري غيره. ولقد عنيت بامتحانه في أخبار العرب وغيرهم فوجدت جميع ما يعزب عن أسماع من قرفه بذلك قد أورده العلماء في كتبهم، ففاز بالسبق في جمعه وحسن وضعه وتأليفه.) وعلى الرغم مما أمتاز به الأصفهاني في جمع الأخبار واستقصائه إياها فإنه لم يأمن غائلة النقاد الذين جاءوا بعده: قال ياقوت. (وقد تأملت هذا الكتاب وعنيت به وطالعته مراراً وكتبت منه نسخة بخطي في عشر مجلدات ونقلت منه إلى كتابي الموسوم بأخبار الشعراء فأكثرت، وجمعت تراجمه فوجدته يعد بشئ ولا يفي به غير موضوع منه) وضرب الأمثال لذلك بحديثه عن أبي العتاهية وأبي نواس والأصوات المائلة في الغناء

وهنا يحق لنا أن نتساءل هل كان الأصفهاني في كتابه هذا يصور نفسه ويرسم إحساسه ومشاعره التي تربطه بأدباء عصره - كما فعل الثعالبي -؟ الجواب: لا. لم يكن كذلك فئ شيء لأنه كان يؤرخ لا أكثر. كتب الأصفهاني كثيراً ولكنه لم يكتب غير التاريخ الأدبي الصامت. وملأ أسفاراً ولكنها لا تعدو أن تكون أخبار الأولين والمعاصيرن من الشعراء. فهو أخباري من الطراز الأول، ومحدث مستطرد أمين بكل ما في كلمة المحدث من معنى. ولكنه لم يرسل نفسه على سجية الأدبي، فيذكر رأيه أو يبدي لناقده فيمن يخبرنا عنهم

ولعلك حين تستعرض طريقة العرض عند الرجلين تقف على صدق ما ندعيه - فأنت ترى الأصفهاني يتحدث عن الشاعر يصدر حديثه عنه بسلسلة طويلة من نسبه، يستطرد فيها ما شاء له الاستطراد، وقد يأتي فيها بالفريد المقبول وما كان يلذه السامعون في ذلك العصر حين كانوا يعون بالأنساب ويتفاخرون بها. ولكن الاستطراد به عند هذا الحديث الذي يرسله في حلقات النسب، فيتجاوز النسب إلى ما رواءه وينتقل بك إلى الحديث عن شخص آخر قد لا يربطه بالسابق إلا محض الاستطراد. وهو رباط شكلي بحت - وهنا يذكر لك أشعاراً وقصصاً وروايات تتعلق بالشخص الذي أدار الحديث حوله. حتى إذا ما انتهى به المطاف عاد إلى صاحبه الأول الذي ترجم له، فيحدثك عما وقع له من أحداث، وقد تنتهي به هذه الأحداث الجزئية المتعلقة بصاحبه إلى الحديث عن تاريخ عصره وما كان فيه من عبر ومواقع. ثم يحدثك آخر ذلك كله عن شعر صاحبه والأصوات التي غنيت من هذا الشعر وما لم يغن وما لم يعتبر من الأصوات المائة التي ذكرها في سائر كتابه. ويذيل الترجمة وفاة صاحبه إن كان في الاستطراد ما يناسب ذلك

فأنت ترى أن عنصر الاستطراد هو المنهج الأصيل في كتاب الأغاني وهو عين المنهج الذي استنه شيوخ الأدب العربي من قبل أبي الفرج. فالجاحظ (255هـ) وابن قتيبة (176هـ) وأبو علي القالي (356هـ) وغيرهم من عيون الأدب العربي شرع واحد في هذا المنهج. وقد أثبت المنهج العلمي الحديث أن منهج الاستطراد كان شائعاً في كتابات القوم وأساليبهم منذ فجر الحياة الأدبية في الجاهلية والإسلام وظل حتى أواخر القرن الرابع الهجري

ثم جاء أبو منصور الثعالبي في أواخر القرن الرابع وخرج للناس بمنهج جديد لم يسبق إليه، حيث ترك صناعة الأدب على طريقة الاستطراد الذي شغف به القوم في حياتهم الأدبية. وأخذ يتحدث حديثا منظما عن تراجم الشعراء والكتاب، وهو لا يحدثك عن شعراء هذا العصر وكتابه ككل لا يتجزأ؛ وإنما يحدثك حديث العارف بالبيئة وآثارها في الأدب فيقسم بلاد المشرق إلى أقاليم مختلفة متباينة، ثم يحدثك عمن بهذا الإقليم من الشعراء والأدباء والكتاب

وهو حين يضع كتابه يتيمة الدهر يضرب أمامنا مثلا رائعا لم يسبق إليه في تأريخ الأدباء؛ مثلاً لا زلنا نحن معاشر المحدثين نعده متحررا طريفاً في بابه ولا سيما من الوجهة الفنية في تاريخ الأدب، فكتابه المذكور لا يعتبر كتاباً في تاريخ الأدب فحسب بل هو تاريخ أدبي إقليمي مستقل يتحدث صاحبه عن الحياة الأدبية ورجالها في الدول الإسلامية الشرقية في القرن الرابع

(للموضوع بقية)

حامد حنفي داود الجرجاوي
ماجستير في الأدب وأستاذ العربية وطرق التدريس بالمعلمين الريفية


28 - 04 - 1952

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى