محمد عبد العزيز الكفراوي - إسماعيل بن القاسم المعروف بأبي العتاهية.. -1-

مقدمة:

يروي صاحب مسالك الأبصار أن أبا العلاء المعري كان يقول كلما أراد إنشاد شيء من شعر أبي العتاهية: قال الداهية أبو العتاهية. وتلك العبارة من أبي العلاء المعروف بدقته وعمقه ترينا مدى ما يتعرض له الباحث في حياة شاعرنا من صعوبات وما يواجهه من مشاكل، وذلك لأن من لوازم الدهاة من الناس الالتواء والغموض مما يجعل التعرف على مقاصدهم مما يفعلون ويقولون صعباً. والحق أن الناظر في حياة أبي العتاهية أو القارئ لشعره لا يكاد يفرغ مما يصادفه من مشاكل تريد حلولا، أو أسئلة غامضة تتطلب إجابة شافية.

وأهم تلك المشاكل وأشدها تعقيداً هو تحول الشاعر في سنة ثمانين ومائة للهجرة من شاعر حب وغناء إلى شاعر حزين متشائم لا عمل له إلا تزهيد الناس في الحياة وتنفيرهم من شهواتها، والإلحاح عليهم أن يتجهوا بقلوبهم وأعمالهم إلى ما هو خير منها وتلك هي الدار الآخرة. ولو أن الشاعر قد جعل من حياته الخاصة صورة صادقة لما يردده في شعره من دعوة إلى الزهد في الحياة، لقلنا مع القائلين أنه قد سئم الحياة بعد أن رفضت حبيبة نفسه عتبة الزواج منه، ومال إلى حياة الزهد والصالحين، وأسرف في ذلك الميل حتى لم يعد له ما يشغله إلا التحدث عنها والترويج لها في شعره. أما وإنه ما زال حريصاً على الدنيا أشد الحرص حتى بعد تحوله إلى ما يشبه حياة الزهاد، فلا وجه إذن لإدخاله فيهم. وهنا يعرض ذلك السؤال الذي لم يصادف جواباً مقنعاً في كتابة السابقين من مؤرخي الأدب العربي ألا وهو: أي شيء كان إذن سلوك أبي العتاهية إذا لم يكن زاهداً بالمعنى الذي نعرفه، وأي شيء كان يدفعه إلى ذلك السلوك المتناقض الغريب؟

لعل الإجابة عن هذا السؤال هي أهم وأبرز بحث في الدراسة التي نحن بصدد التقديم لها الآن، وقد استنفدت الكثير من وقت المؤلف ومجهوده، إذ وجد نفسه مضطراً أن يرجع إلى بيئة الشاعر وطفولته، لعله يجد فيها ما يلقي شيئاً من الضوء على ما اكتنف حياته من غموض واضطراب، وبعد دراسة طويلة مضنية أسفرت الحقيقة للباحث الذي تمك ربط الانقلابات الاضطرابات التي طرأت على الشاعر في مختلف مراحل حياته - ومن بينها تحوله الصوري إلى حياة الزهاد - بما صادفه أثناء طفولته من ألوان البؤس والشقاء، وما أصابه في ذلك الحين من أمراض نفسية، وقد كان أشد تلك الأمراض تأثيراً على حياته وأعظمها إيلاماً له مولده الوضيع الذي جر عليه كثيراً من الخزي، وملأ قلبه حقداً على ذوي الجاه واليسار من أهل عصره.

على أن عوامل أخرى قد انضمت إلى تلك التجارب القاسية والأمراض النفسية التي صادفت الشاعر في طفولته، فأحدثت مجتمعة ذلك الانفجار الذي طرأ على حياة الشاعر سنة ثمانين ومائة للهجرة، والذي كان يعتبر حتى كتابة هذه السطور نوعاً من الزهد في الحياة. وأهم تلك العوامل هو سخطه على هارون الرشيد لأسباب سنذكرها فيما بعد، واستغلال الفضل ابن الربيع وزبيدة زوج الرشيد لذلك السخط. فكل من الفضل وزبيدة كان ناقماً على الحياة الصاخبة العابثة التي كان يحياها هارون بين جواريه الحسان وبصحبة وزيره جعفر البرمكي، لما في تلك الحياة من صرف للخليفة عن زوجه من جهة؛ وإضعاف لقدر الفضل بن الربيع من جهة كما سيأتي تفصيل ذلك. وقد وجدا في أبي العتاهية ضالتهم المنشودة، فهو ساخط على الحياة والأحياء وعلى الخليفة وحاشيته بنوع خاص، ورأيا في شعره خير وسيلة للتشهير بالملاهي وروادها، وبالتالي خير وسيلة للحد من نشاط الرشيد في ذلك الاتجاه الذي لا يرغبان فيه.

وهكذا تحول الشاعر من القول في الحب والغزل إلى التزهيد في الحياة والتنفير منها ومن شهواتها وملاذها متحاملا أثناء ذلك على ذوي الجاه واليسار من بني عصره. ومع أن ذلك النوع من الشعر لم يكن في الكثير الغالب إلا تفريجاً عن نفس الشاعر الموتورة وتعبيراً عن عواطفه المكبوتة، ومن ثم لم يكن يستحق عليه كبير جزاء، إلا أن الفضل وزبيدة لم يبخلا على الشاعر بالتشجيع المادي والأدبي لما كان في شعره من خدمة لأغراضهما.

هذه سطور قلائل لم نقصد بها إلا أن نعرض صورة مصغرة لأحد الموضوعات التي تعرض لها بحثنا. وإنا لنأمل أن يجد القارئ لما كتبناه عن أبي العتاهية إجابة لكل ما يجول في نفسه من أسئلة أو خواطر.

هذا وقد قسمنا البحث إلى ستة أبواب الأول: يبحث في تأثر بيئته المضطربة ومنبته الوضيع على حياته.

الثاني: يتحدث عن حبه الفاشل وإلى أي حد كان سبباً في تحوله إلى ما عرف باسم الزهد.

الثالث: علاقته بالرشيد والفضل وزبيدة، واندماجه في السياسة.

الرابع: دراسة إنتاجه الشعري بعد سنة ثمانين ومائة، ومعرفة مدى تصويره لأفكاره.

الخامس: يبحث في عقيدة الشاعر.

السادس: فيه نقد أدبي لشعره.

طفولته وبيئته:

ولد أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم في الكوفة سنة ثمانين ومائة للهجرة، وكان أبوه القاسم يشتغل حجاما بها. أما هو فكان يبيع الجرار، ولكنه ما لبث أن اعتزل تلك المهنة واشتغل بقرض الشعر قاصدا التكسب به. وحين سطع نجمه وضاقت به الكوفة ذهب إلى بغداد وجاهد حتى وصل ذكره إلى سمع الخليفة المهدي الذي أذن له في إنشاد الشعر بين يديه وأجزل له العطاء. ولكن خلافا شديدا نشب بين الخليفة والشاعر بسبب حب الأخير لإحدى جواري الأول وذكره لها في شعره، مما جعل الخليفة يغضب عليه ويضطهده. وحين مات المهدي اتصل الشاعر بابنه الهادي ثم الرشيد، وبعد عشر سنوات قضاها في خدمة هارون كان أثناءها محل عطفه ورعايته، ترك الشعر الغنائي الذي كان يؤلفه للخليفة وهجر مجلسه، ولبس مسوح الزهاد، وأخذ يتحدث عن الموت والقبر ويضع من قدر الدنيا وأهلها، ويدعو الناس إلى الزهد فيها، والبعد عن ملاذها وملاهيها، وينصحهم بالعمل للآخرة ونعيمها. تلك فكرة يسيرة عن أبي العتاهية كما يصوره التاريخ ويتصوره الناس أحببنا أن نقدمها بين يدي بحثنا.

والآن نعود إلى إبداء رأينا في الشاعر. ولا بد لمن يريد أن يدرس حياة الشاعر ويفهم شعره حق الفهم، لا بد له من معرفة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ذلك الانقلاب الخطير الذي طرأ على حياته سنة ثمانين ومائة للهجرة، والذي أشرنا إليه من قبل، وبدون الوقوف على ذلك الانقلاب وأسبابه لا يمكن لنا أن نفهم كل ما جاء بعده من أشعار مع أن معظم إنتاج الشاعر وكل ما يعرف باسم الزهديات، قد نظمه الشاعر بعد ذلك التاريخ؛ ولكننا لن نستطيع معرفة أسباب ذلك الانقلاب وأسراره حتى نعرف الكثير عن بيئة الشاعر وأسرته وطفولته لنتبين مدى تأثير كل ذلك على حياته.

والمعروف عن الفترة التي ولد فيها الشاعر ونشأ فيها، أنها كانت مليئة بالفتن والاضطرابات، إذ أنه ولد قبيل سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الكوفة التي ولد بها وتربى فيها كانت مركز نشاط مناهضي الحكم الأموي من عباسيين وعلويين، وكانت لذلك مسرحا لكثير من مناظر ذلك النضال المرير، كان معنى ذلك أن الشاعر قد رأى وسمع أثناء طفولته بكثير من تلك الحوادث الدامية. وجدير بمثله أن يضيق ذرعا بالحياة والأحياء، وأن ينظر دائما إلى المستقبل نظرة اليائس المتشائم. وإنه لمن المؤكد أن روح اليأس والقنوط التي يصادفها القارئ لشعر أبي العتاهية، قد تمكنت من نفس الشاعر منذ ذلك الحين المبكر ولا سيما إذا لاحظنا أن أباه كان حجاما وكان بطبيعة عمله من ألصق الناس بتلك المناظر الدامية.

وإذا كنا بالرجوع إلى بيئة الشاعر وطفولته قد استطعنا أن نهتدي إلى أحد تلك العوامل التي أدت إلى شيوع روح التشاؤم في شعر أبي العتاهية فليس بمعيينا أن نتلمس الأسباب التي دفعت به إلى الحقد الشديد على ذوي اليسار والجاه من بني عصره حقدا يظهر واضحا في إنتاجه الأدبي بعد سنة ثمانين ومائة للهجرة، كما سنذكره في حينه. وقد اتضح لنا من تلك الدراسة التمهيدية أن نقمته عليهم كانت أثرا من آثار الضعة والخمول اللذين أحاطا بنسبه. فقد كان آباؤه من التفاهة بحيث لم يكن لهم نسب معروف، فهو عربي في قول بعض الناس ومولى على رأي آخرين. ثم نراه يضطرب في ولاءه فيتولى مندلا وحبان العنزيين تارة، ومنصور بن يزيد خال الخليفة تارة أخرى. ولكن ذلك الغموض والخمول لم يكن كل ما يفسد على الشاعر حياته كلما ذكر آباؤه وأجداده، فهناك والده الذي كان يشتغل حجاما، وقد كان ازدراء الناس لتلك المهنة وأهلها شديدا، ولا أدل على ذلك من الفقهاء - برغم ما ينادي به الإسلام من مساواة بين جميع المسلمين - لم يجدوا بدا من الخضوع لتقاليد العصر والحكم بعدم جواز زواج ابن الحجام من طبقة غير طبقته إلا في حالات خاصة، كأن الخزي والعار الذي ألصق به شر مستطير يجب ألا يتعداه إلى سواه.

ولدينا من الأدلة ما يثبت أن أبا العتاهية كان وهو لا يزال صبيا يشعر بضآلة شأنه ويتألم لموقف مجتمعه منه ونظرته إليه. فالأغاني يحدثنا أن قصابا تشاجر مع أبي العتاهية وشج رأسه فأسال دمه ودعاه نبطيا، وذهب الصبي المسكين إلى مواليه يبكي وينتحب ويسألهم أن يمدوا إليه يد المعونة، وليست تلك المعونة هي وقف الدم الذي يسيل منه، ولكن محو ما أصابه من عار حين قال له القصاب (يا نبطي)، والسبيل إلى محو ذلك العار هو أن يعلن أولياؤه من عنزة أنه عنزي وقد كان. وما حادث القصاب إلا نموذج لحوادث أخرى كثيرة تكررت وجرت على الشاعر كثيرا من الخزي والشعور بالضعة.

ومن الحق أن يقال إن الشاعر كاد ينسى أو يتناسى ما مر به في تلك الفترة من تجارب قاسية، فقد استقامت أموره ولمع نجمه في سماء المجتمع حين صار شاعرا مجيدا بعد أن كان بائع خزف مهين، ولكن حدثا جللا قد عرض له فكدر عليه نشوة النجاح وأعاد إلى ذاكرته صورة الماضي البغيض وزاده إيمانا بأن الحياة ليست إلا موطنا للشقاء والألم، وأعطاه دليلاً جديدا على فساد نظام المجتمع، ذلك هو حبه لعتبة وهو ما سيكون موضوع حديثنا في المقال التالي إنشاء الله.

للكلام صلة

محمد الكفراوي

مجلة الرسالة - العدد 984
بتاريخ: 12 - 05 - 1952

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى