العربي الرودالي - الاختلاف قاعدة للتماسك (المغرب نموذجا)

قد تتعدد الثورات وتتناسل، لكن الشرط هو تواليها ناضجة عاقلة راشدة...
المغرب هو قطب هام، تاريخيا وحضاريا وثقافيا، في المنظومة المغاربية..وأنه منذ أكثر من 12 قرنا وهو على نظام دولة قائمة الذات بعواصمها الشهيرة والمركزية، في سيرورة عهوده المتعاقبة، والتي شكلت منه أمبراطورية شاسعة..فإنه، هذا البلد، كان هو المركز المحوري لمنطقة غرب شمال إفريقيا، ابتداء من نهر السينغال إلى حدود السودان... ومن هنا استمر مرجعا متأصلا لتراث المنطقة وجامعا للهجاتها ومشكلا للثقافة الاجتماعية وكذا السياسية، عبر العصور منذ أن كان يسمى "نوميديا"أو"موريتانيا"، قديما..ولذا نتساءل: من كان ولا زال يوحد،في هذا الكم العظيم، بين المغاربة في مجتمعهم المتسق كلما حصل خلل؟ .. إنه بكل تأكيد عنصر "الاختلاف" العابر للمجال الترابي والبشري الكبير في المنطقة، بشتى أشكاله..ويتمثل ذلك، دون حصر،في التنوع اللغوي والإثني، ومظاهر الحياة الاجتماعية، وعناصر الثقافة التراثية والإثنوغرافية، وما يطفو أيضا من خصوصيات كل بيئة حياتية، في مناخها وتضاريسها...ولقد تم بالفعل تناسج هذه المكونات، مع ثقافات عريقة ومختلفة عاصرت المراحل التي مرت قديما وتمر حديثا،إلى الآن..وهكذا دأبت هذه العوامل كلها تتنافس، في تناغم، لإنتاج التكامل..فمن خلال هذا التراكم الثري الذي ترسب لدى بلاد المغرب عامة، فإن"الاختلاف" مثل، بكياناته السويوثقافية لساكنته، بنية شطرنج تتفاعل قطعها في تناسق مكين، على رقعة الوطن، بين صعود وهبوط طبعا...وكل دخيل إذا ما اندرج في سياق الانفتاح، لا يعدو أن يتحول سوى إلى جزء من الكل، فيبحث لنفسه عن نجاعته ضمن تلك المنظومة الاجتماعية المتراكبة، حتى إذا لم يفلح فإنه يؤول إلى الاندثار... نعم إنه التميز المغربي، على صورته التركيبية، والذي يضمنه هذا الاختلاف ويؤطر تشكلاته..غير أنه لا يقصد بذلك،"الخلاف" القطعي والمعاكس، لأن هذا الأخير حاد وحاسم ...ولهذا لا محالة سوف يرفض أو يهمش .. إن طبيعة شخصية الإنسان المغربي تتماوج مع العصور، دون أن تنال منه سلبا تململات الأحداث الطفرية...فلا بد إذن من أن تظهر كل مرة آلية تلم هذا الاختلاف الزاخم، وتعيد تدبيره متى انزاح عن النسق العام..ولن يستطيع أي كان، تدبير حركيته، خارج المثل والقيم المشتركة والمتجددة مهما كان..غير أن ما فعله طغاة الاستعمار من مكائد التفرقة والتحرشات، كما في عهد ما سمي ب"السيبة" التي ظهرت بحدة، إبان حكم السلطان الحسن الأول وأبنائه، هو ما عمق الشرخ الإثني وحطم الاختلاف الطوعي، بين القبائل وسياساتها المحلية، وكرس ذاك "الخلاف"العقيم..فكان الثمن باهظا على الوطن الذي ضيع الأعوام والرجال والاستقلال ..فهل ستعطى مرة أخرى الفرصة، ليستغلها الغرب الاستعماري"الإمبريالي" بشكل جديد، كما حصل في أواخر القرن 19 من تكالب، قبل مؤتمر الجزيرة الخضراء وأثناءه، إلى أن تم إخضاع القبائل الرافضة له، بسياسة "فرق تسد"، مع النصف الأول من القرن 20.؟ إن الغرب، وهذه شهادة في محفظة التاريخ، لا ولن يتغاضى عن أي تغيير إلا متى كان لصالحه حفاظا على أمنه وأمن منافعه في البلد...والمثال في ما سمي ب/"الربيع العربي" ، في العصر الحديث، حيث أبان عن تحكمه في الثورات وتوجيهها وفق بوصلته، بل عمل حتى على الاحتفاظ بالطغاة وتبخيس صناديق الاقتراع وتثبيت ديكتاتوريات، وإثارة الفتن بشتى أنواعها بين فرقاء الداخل، كما حدث باليمن وغيرها...وكل هذا في انتظار أن تسوى له المصلحة الانتهازية..فعلينا إذن، أن ننتقل إلى ديمقراطيتنا الفتية، بذكاء وتؤدة وفطنة وحسن تسيير، بمسؤولية كل من القمة والقاعدة بكل إرادة وعزيمة، شعبيا ورسميا، حفاظا على استقلالية الوطن من أي اختراق..لكن كيف؟ هل بقبول أو فرض شخصية منتقاة وفق المصالح الخارجية، كما حصل في مصر؟ أم بقهر الشعب وقمعه، كما كان حاصلا في ليبيا وسوريا سابقا؟ وقبل ذلك، وبكل احترام، تجارب الناصرية بمصر وحزب البعث في العراق، وغيرها من الأنظمة ذات الرؤية العسكرية؟..كل هذا ولى عهده، ولم يعد قابلا للعيش في زمن العولمة الغربية، خاصة في كل منطقة استراتيجية ينتعش فيها اقتصادها وتتوسع مراقبتها لكل تغير.. فالغرب لا يريد لدولنا النامية ديمقراطية فعالة مثلما هي لديه، كما أن توجهه تشوبه تناقضات، والأمثلة كثيرة... ثم إنه يصر على أن يمنع عنا حداثته العلمية والتكنولوجية، ولا يصدر إلينا سوى ثقافة إباحية وإفسادية...إن الاختلاف المميز للمغرب هو بمثابة "قانون مرور" لديه، نحو تطور هادئ وسليم ودون تعثر...نعم، من حق الشعب أن ينتقد حكومته، ويحتج في وجهها، ويكشف عن سياساتها أو ردتها الدستورية والحقوقية، متى أخطأت... كما عليه أن يعرف كيف يقوم اعوجاجها ويحاسب أحزابها، إذا ما زاغت عن السبيل، بتحمل أمانة تصويته، وما لديه من هامش المقاطعة، معتدا بالوعي لتطوير المطالب الجادة..وعليها هي أيضا، أي كل حكومة، ألا تقدم نفسها عنصر"خلاف" معه.. فالوطن للجميع ولا فضل لأحد فيه على الآخر إلا بمحبته والعمل من أجله والحفاظ على وجوده...فكفانا تضييعا للوقت، وكفانا فشلا أمام الأمم..لقد ضيعنا في العهد السابق تطورنا وعطلنا نمونا لسنوات، وكان بالإمكان أن تتحقق أشياء أكبر مما تحقق..فهل سنعيد إنتاج أزماتنا، بعد أن أقفلت بميثاق "الإنصاف والمصالحة"؟.. لقد كان الثمن كذلك باهظا على الوطن الذي ضيع الأعوام والرجال والمستقبل.. إن البلد طموح وقابل للتطور .. لكن عندما تزيغ تنميته عن سكتها، فإن ذكاءه يتحول إلى انتكاسات.


العربي الرودالي

*باحث في علم الاجتماع

2017

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى