كارل ماركس - الفصل الأول من الأيديولوجيا الألمانية

ماركس و انجلس كتب بين تشرين الثاني (نوفمبر) 1845 وآب (أغسطس) 1846

(I)
في السنوات الأخيرة، قامت ألمانيا، كما ينبئ الأيديولوجيون الألمان، بانقلاب لا نظير له. فإن عملية انحلال المنهج الهيغلي، التي بدأت منذ شتراوس، قد تحولت إلى غليان عالمي شمل جميع ""قوى الماضي"". وفي الفوضى العامة، انبثقت دول جبارة لكي تزول في الحال من جديد، وظهر للحظة عابرة أبطال دفع بهم من جديد منافسون أجرأ وأقوى إلى غياهب الظلام. وكانت تلك ثورة ليست الثورة الفرنسية بالمقارنة معها، سوى لعبة أطفال؛ وكان ذلك صراعاً عالمياً يبدو حياله الصراع بين الديادوخات تافهاً. وبسرعة عاصفة، لا تصدق، كان بعض المبادئ يزيح الآخر. وفي غضون ثلاث سنوات – من 1842 إلى 1845 – جرى في ألمانيا تطهير أكمل من الذي جرى من قبل في غضون ثلاثة قرون.
وكل هذا جرى، كما يقال، في ميدان الفكر الخالص.
ومهما يكن من أمر، نواجه هنا حدثاً طريفاً، عنينا به عملية انحلال الروح المطلق. فعندما انطفأت فيه الشرارة الأخيرة للحياة، تفسخت مختلف الأجزاء المكوّنة لهذا caput mortuum* ودخلت في تركيبات جديدة، وشكلت مواد جديدة. أما الناس الذين كانوا يمارسون حرفة الفلسفة، والذين كانوا يعيشون قبل ذلك باستغلال الروح المطلق، فقد انقضوا الآن على هذه التركيبات الجديدة. وشرع كل يتعاطى بأعظم ما يكون من الرغبة والحماسة تصريف النصيب الذي وقع في يده. ولم يكن من الممكن تحاشي المزاحمة. في البدء اتسمت المزاحمة بطابع رزين، شريف على طريقة البرجوازية الصغيرة. ولكن، فيما بعد، عندما تبين أن السوق الألمانية تزدحم بالبضائع، وأن البضاعة لا تجد طلباً في السوق العالمية، رغم جميع الجهود، فسد الأمر كله، على الطريقة الألمانية العادية، من جراء الإنتاج الصناعي والمزيّف، وإفساد النوعية، وتزييف الخامات، وتزويق اللصائق، والمشتريات الوهمية، وحيل السفاتج، والنظام التسليفي الذي لا يعتمد على أية تربة فعلية. وتحولت المزاحمة إلى صراع ضار يمدحونه ويصورونه لنا بصورة انقلاب ذي أهمية تاريخية عالمية، بصورة عامل يسفر عن أعظم النتائج والمنجزات.
ولكي نقدر حق التقدير كل هذه الشعوذة الفلسفية التي تستثير في صدر البرجوازي الصغير الألماني الموقر مشاعر قومية مستطابة جداً له، ولكي نبين بجلاء تفاهة كل هذه الحركة، حركة الهيغليين الشباب، وكل محدوديتها الإقليمية، وعلى الأخص لكي نكشف التضاد المضحك المبكي بين أفعال هؤلاء الأبطال الفعلية والأوهام بصدد هذه الأفعال، ينبغي إلقاء نظرة إلى كل هذه الضجة من المواقع القائمة خارج ألمانيا*.

1- الأيديولوجية على العموم، والأيديولوجية الألمانية على الخصوص(1)
إن النقد الألماني لم يغادر ميدان الفلسفة حتى مساعيه الأخيرة ضمناً. إن جميع قضايا هذا النقد – البعيد جداً عن بحث مقدماته الفلسفية العامة – قد نشأت في تربة منهج فلسفي معين، عنينا به منهج هيغل. ولم تقم التعمية في أجوبته وحسب، بل قامت كذلك في أسئلته بالذات. وهذه التبعية حيال هيغل هي سبب هذا الواقع، وهو أنه ما من ناقد من هؤلاء النقاد الحديثي العهد حاول حتى أن يعكف على نقد منهج هيغل من جميع جوانبه، رغم أن كلاً منهم يؤكد أنه تجاوز حدود فلسفة هيغل. وأن مناظرتهم ضد هيغل وضد بعضهم بعضاً تنحصر في كون كل منهم يتلقف جانباً من جوانب المنهج الهيغلي ويوجهه سواء ضد المنهج برمته، أم ضد تلك الجوانب التي يتلقفها الآخرون. في البدء، تلقفوا المقولات الهيغلية في شكلها الصافي، غير المزيف، ومنها، مثلاً، ""الجوهر"" و"",عي الذات""*؛ ثم امتهنوا هذه المقولات بتسميتها بأسماء أكثر اتساماً بالصفة الدنيوية، مثل ""الجنس""، ""الوحيد""، ""الإنسان""** وإلخ..
إن النقد الفلسفي الألماني كله، ابتداء من شتراوس حتى شتيرنر، يقتصر على نقد التصورات الدينية***. وقد كان الدين الفعلي وعلم اللاهوت بمعنى الكلمة الأصلي نقطة الانطلاق. أما ما هو الوعي الديني، والتصور الديني، فإن هذا قد تحدد فيما بعد بأشكال مختلفة. وإن التقدم كله قد تلخص في كون التصورات الميتافيزيائية والسياسية والحقوقية والأخلاقية وغيرها من التصورات، السائدة في الظاهر، قد انحصرت كذلك في ميدان التصورات الدينية، أو اللاهوتية، ناهيك عن أنه تلخص في إعلان الوعي السياسي والحقوقي والأخلاقي وعياً دينياً أو لاهوتياً، وفي المناداة بالإنسان السياسي، والحقوقي، والأخلاقي – ""الإنسان على العموم"" في آخر المطاف – إنساناً دينياً. وكانت سيادة الدين مفترضة سلفاً. وشيئاً فشيئاً أخذوا يعلنون كل علاقة سائدة علاقة دينية، وحولوها إلى عبادة – عبادة الحق، عبادة الدولة، وما إلى ذلك. وفي كل مكان، ظهرت العقائديات وحدها، وظهر الإيمان بالعقائديات وحده. وأخذ العالم يتسم أكثر فأكثر بسمة القداسة طالما لم يتمكن القديس المحترم ماكس**** من إعلانه مقدساً en bloc***** ومن تصفية هذه المسألة بالتالي إلى الأبد.
كان الهيغليون الشيوخ يعتقدون أن كل شيء مفهوم بنظرهم، ما دام موضوعاً في إطار هذه المقولة المنطقية الهيغلية أو تلك. أما الهيغليون الشباب، فقد كانوا ينتقدون كل شيء، مقحمين التصورات الدينية في كل مكان، أو معتبرين كل شيء لاهوتياً. إلا أن الهيغليين الشباب يشاطرون الهيغليين الشيوخ إيمانهم في كون الدين، المفاهيم، العام، تسود في هذا العالم الموجود. ولكن بعضهم يثورون على هذه السيادة ثورتهم على الاغتصاب، بينما يمجدها البعض الآخر كشيء مشروع.
وبما أن التصورات والأفكار والمفاهيم، وعلى العموم منتوجات الوعي الذي جعلوا منه شيئاً مستقلاً، هي، بنظر هؤلاء الهيغليين الشباب، قيود حقيقية تقيد الناس، مثلما هي تماماً، بنظر الهيغليين الشيوخ، رباط حقيقي يثبت المجتمع البشري، فإنه يصبح من المفهوم أن يتعين على الهيغليين الشباب أن ينالوا ضد أوهام الوعي هذه فقط. وبما أن العلاقات بين الناس، وجميع تصرفاتهم وكل مسلكهم، وقيودهم وحدودهم هي، حسب خيال الهيغليين الشباب، منتوجات وعيهم، فإن الهيغليين الشباب يتقدمون من الناس، بصورة منسجمة تماماً، بمطلب أخلاقي غايته الاستعاضة عن وعيهم الحالي بوعي إنساني، أو ناقد أو أناني*، وبالتالي إزالة الحدود التي تضيق عليهم. إن هذا المطلب القائل بتغيير الوعي يقتصر على المطالبة بتفسير ما هو موجود تفسيراً مختلفاً، الأمر الذي يعني الاعتراف به، بإعطائه تفسيراً آخر. إن أيديولوجيي الهيغليين الشباب هم، خلافاً لجملهم وتعابيرهم ""التي تهز العالم"" على حد زعمهم، من أعظم المحافظين. وأصغرهم سناً وجدوا تعبيراً دقيقاً لأجل نشاطهم، بإعلانهم أنهم لا يناضلون إلا ضد ""الجمل"". إلا أنهم ينسون فقط أنهم لا يعارضون هذه الجمل إلا بالجمل، وأنهم لا يناضلون البتة ضد العالم الفعلي، الموجود، إذا كانوا لا يناضلون إلا ضد جمل هذا العالم. إن النتيجة الوحيدة التي استطاع هذا النقد الفلسفي إحرازها تتلخص في بضعة توضيحات دينية تاريخية، ووحيدة الجانب، بصدد المسيحية؛ أما جميع أقوالهم الأخرى، فليست غير تزيينات لاحقة لادعاءاتهم بأنهم حققوا بهذه التوضيحات التافهة، حسب زعمهم، اكتشافات تاريخية عالمية.
ولكنه لم يخطر على بال أي من هؤلاء الفلاسفة أن يتساءل عن الصلة بين الفلسفة الألمانية والواقع الألماني، عن الصلة بين نقدهم وبيئتهم المادية بالذات.

2- المقدمات التي ينجم منها الفهم المادي للتاريخ
(ص3) المقدمات التي نبدأ بها ليست اعتباطية؛ وهي ليست عقائد جامدة. إن المقدمات فعلية لا يمكن التجرد منها إلا في الخيال. إن المقصود هنا أفراد فعليون، ونشاطهم وظروف حياتهم المادية، سواء منها الظروف التي يجدونها جاهزة، أم التي يخلقونها بنشاطهم بالذات. وهكذا يمكن (ص4) إقرار هذه المقدمات بالسبيل التجريبي الصرف.
إن المقدمة الأولى لكل تاريخ بشري، إنما هي، بالطبع، وجود أفراد بشريين أحياء*. ولهذا كان الواقع الملموس الأول الذي تجدر ملاحظته هو التنظيم بسائر الطبيعة. وبدهي أنه لا يسعنا هنا أن نتعمق، لا في دراسة خصائص الناس أنفسهم الفيزيائية، ولا في دراسة الظروف الطبيعية – العلاقات الجيولوجية، والأوروغرافية، والهيدروغرافية، والمناخية، وغيرها من العلاقات التي يجدون أنفسهم فيها*. ويتعين على كل علم لتدوين التاريخ، أياً كان، أن ينطلق من هذه الأسس الطبيعية، ومن تلك التغيرات التي تطرأ عليها في سياق التاريخ بفضل نشاط الناس.
يمكن تمييز الناس عن الحيوانات من حيث الوعي، من حيث الدين - وعلى العموم بأي شيء كان. وهم أنفسهم يبدأون يميزون أنفسهم عن الحيوانات ما أن يبدأوا ينتجون وسائل العيش الضرورية لهم – وهذه خطوة يشترطها تنظيمهم البدني. إن الناس، إذ ينتجون وسائل العيش الضرورية لهم، إنما ينتجون أيضاً بطريقة غير مباشرة حياتهم المادية بالذات.
إن الأسلوب الذي ينتج به الناس وسائل العيش الضرورية لهم، يتوقف قبل كل شيء على خواص وسائل العيش بالذات، التي يجدونها جاهزة والتي يتعين تجديد إنتاجها.
(ص5) وأسلوب الإنتاج هذا إنما يجب النظر إليه ليس فقط من حيث أنه يعني تجديد إنتاج وجود الأفراد الفيزيائي، فهو أيضاً بدرجة أكبر أسلوب معين لنشاط هؤلاء الأفراد، نوع معين لنشاطهم الحيوي، نمط معين لحياتهم. وكما يكون نشاط الأفراد الحيوي، كذلك يكونون هم أنفسهم. وما يمثلونه يتطابق، بالتالي، مع إنتاجهم – يتطابق سواء مع ما ينتجونه أم مع كيف ينتجونه. وما يمثله الأفراد – إنما يتوقف، بالتالي، على ظروف إنتاجهم المادية.
إن هذا الإنتاج يبدأ للمرة الأولى مع نمو السكان. وهو يقتضي أيضاً معاشرة (Verkehr) الأفراد فيما بينهم. وشكل هذه المعاشرة يتوقف بدوره على الإنتاج.

3- الإنتاج والمعاشرة. تقسيم العمل وأشكال الملكية: القبلية، القديمة، الإقطاعية.
(و. 3) إن العلاقات المتبادلة بين مختلف الأمم تتوقف على المقدار الذي طورت به كل منها قواها المنتجة، وتقسيم العمل، والمعاشرة الداخلية. وهذه الموضوعة تحظى باعتراف الجميع. ولكن ليس علاقة أمة بأمم أخرى وحسب، بل أيضاً كل البنية الداخلية للأمة نفسها تتوقف على درجة تطور إنتاجها ومعاشرتها الداخلية والخارجية. إن مستوى تطور القوى المنتجة للأمة يتبدى بأشد ما يكون من الوضوح في درجة تطور تقسيم العمل عندها. وكل قوة منتجة جديدة، - إذ إنها ليست مجرد توسيع كمي لقوى منتجة معروفة قبل ذاك (مثلاً، زراعة رقع جديدة من الأرض)، - تستتبع المزيد والمزيد من تطور تقسيم العمل.
إن تقسيم العمل ضمن حدود هذه الأمة أو تلك، يؤدي في المقام الأول إلى انفصال العمل الصناعي والتجاري عن العمل الزراعي، ويؤدي بالتالي إلى انفصال المدينة عن الريف، وإلى التضاد بين مصالحهما. والتطور اللاحق لتقسيم العمل يؤدي إلى انفصال العمل التجاري عن العمل الصناعي. وفي الوقت نفسه، تتطور بدورها، بفضل تقسيم العمل في داخل هذه الفروع المختلفة، وحدات مختلفة من أفراد يتعاونون في هذا الفرع أو ذاك من فروع العمل. إن وضع هذه الوحدات المختلفة في علاقتها بعضها ببعض يشترطه أسلوب تطبيق العمل الزراعي والصناعي والتجاري (البطريركية، العبودية، المراتب، الطبقات). وفي ظل معاشرة أكثر تطوراً، تتكشف العلاقات نفسها في العلاقات المتبادلة بين مختلف الأمم.
إن الدرجات المختلفة في تطور تقسيم العمل هي في الوقت ذاته أشكال مختلفة للملكية أي أن كل درجة من تقسيم العمل تحدد كذلك العلاقات بين الأفراد وفقاً لموقفهم من مادة العمل وأدوات العمل ومنتوجات العمل.
إن شكل الملكية الأول هو الملكية القبلية. وهو يتناسب مع مرحلة الإنتاج غير المتطورة، حيث يعيش الناس من الصيد البري والصيد المائي، وتربية المواشي أو، بأكبر قدر، من الزراعة. وفي الحالة الأخيرة يفترض شكل الملكية الأول رقعة شاسعة من الأراضي غير المستصلحة. وفي هذه المرحلة، لا يزال تطور تقسيم العمل ضعيفاً جداً، ويحد منه استمرار توسيع تقسيم العمل القائم في العائلة والمنبثق بصورة طبيعية. ولهذا تقتصر البنية الاجتماعية على توسيع العائلة: رؤساء القبيلة البطريركيون، أعضاء القبيلة الخاضعون لهم، وأخيراً، العبيد. إن العبودية، الموجودة بشكل خفي في العائلة، لا تتطور إلا تدريجياً، مع نمو عدد السكان ونمو الحاجات ومع اتساع المعاشرة الخارجية، سواء بصورة الحرب أم بصورة المقايضة.
إن شكل الملكية الثاني هو الملكية المشاعية القديمة وملكية الدولة القديمة التي تنبثق بصورة رئيسية بفضل توحيد بعض القبائل – عن طريق الاتفاق أو عن طريق الفتح – في مدينة واحدة، والتي تبقى العبودية في ظلها. وإلى جانب الملكية المشاعية، تتطور الملكية الخاصة للأموال المنقولة، وفيما بعد، للأموال غير المنقولة، ولكن بوصفها شكلاً ينحرف عن القاعدة ويخضع للملكية المشاعية. فإن مواطني الدولة لا يملكون إلا معاً، إلا بصورة مشتركة، عبيدهم الكادحين، وهم بحكم هذا مقيدون بشكل الملكية المشاعية. وهذه هي الملكية الخاصة المشتركة لمواطني الدولة النشطاء المضطرين حيال العبيد إلى الحفاظ على هذا الشكل للترابط الناشئ بصورة طبيعية. ولهذا تنحط معها سلطة الشعب المرتكزة على هذا الأساس، وتنحط معها سلطة الشعب بقدر ما تتطور الملكية الخاصة، ولا سيما منها ملكية الأموال غير المنقولة. وفي هذه المرحلة يكون تقسيم العمل أكثر تطوراً من ذي قبل، ونواجه التضاد بين المدينة والريف، ثم التضاد بين الدول التي يمثل بعضها مصالح المدن وبعضها الآخر مصالح الريف؛ وفي داخل المدن بالذات، يقوم التضاد بين الصناعة والتجارة البحرية، وتبلغ العلاقات الطبقية بين المواطنين والعبيد تطورها الكامل.
ومع تطور الملكية الخاصة، تظهر هنا، للمرة الأولى، تلك العلاقات التي سوف نجدها من جديد – ولكن على نطاق أكبر – عند دراسة الملكية الخاصة المعاصرة. فمن جهة، تمركز الملكية الخاصة الذي بدأ في روما باكراً جداً (والدليل قانون ليسينوس الزراعي (25)) والذي تطور بسرعة بالغة منذ زمن الحروب الأهلية، ولا سيما في عهد الأباطرة؛ ومن جهة أخرى، وبالارتباط مع هذا – تحول الفلاحين الصغار العاميين إلى بروليتاريا لم تتطور تطوراً مستقلاً بحكم وضعها المتوسط بين المواطنين المالكين والعبيد.
إن شكل الملكية الثالث هو الملكية الإقطاعية أو المراتبية. فلئن كانت المدينة ودائرتها غير الكبيرة نقطة الانطلاق بالنسبة للأزمنة القديمة، فإن الريف هو الذي كان نقطة الانطلاق بالنسبة للقرون الوسطى. إن تغير نقطة الانطلاق هنا قد اشترطته ندرة السكان الأولين وتشتتهم على رقعة شاسعة، علماً بأن تدفق الغزاة لم يزد عددهم زيادة ملحوظة نوعاً ما. ولهذا يبدو التطور الإقطاعي، خلافاً لما كان عليه الحال في اليونان وروما، في رقعة أوسع بكثير من الأراضي، هيأتها الفتوحات الرومانية وهيأها انتشار الزراعة المرتبط بها في البدء. إن القرون الأخيرة من الإمبراطورية الرومانية بسبيل الانحطاط وفتحها ذاته من قبل البرابرة قد دمرت جملة كبيرة من القوى المنتجة؛ وانحطت الزراعة، وتدهورت الصناعة من جراء انعدام التصريف، وركدت التجارة أو أوقفت بالعنف، وقل عدد سكان الريف والمدن. وجميع هذه الظروف التي واجهها الفاتحون، وأسلوب تحقيق الفتوحات الذي اشترطته هذه الظروف، طورت الملكية الإقطاعية بتأثير نظام الجرمان العسكري. إن هذه الملكية، شأنها شأن الملكية القبلية والملكية المشاعية، ترتكز هي أيضاً على الجماعة (Gemeinwesen) المعروفة التي يقابلها، بصفة طبقة منتجة مباشرة، لا العبيد كما في العالم القديم، بل الفلاحون الأقنان الصغار. ومع تطور الإقطاعية تطوراً كاملاً، يظهر أيضاً التناحر حيال المدن. إن البنية المراتبية لحيازة الأرض ونظام العصب المسلحة المرتبط بها، قد أعطيا النبلاء السلطة على الأقنان. وهذه البنية الإقطاعية، مثلها مثل الملكية المشاعية القديمة، كانت رابطة موجهة ضد الطبقة المنتجة المستعبدة؛ وكان شكل الرابطة والموقف من المنتجين المباشرين وحدهما فقط مختلفين، لأن شروط الإنتاج كانت مختلفة.
وهذه البنية الإقطاعية لحيازة الأرض كانت تناسبها في المدن الملكية الحرفية، التنظيم الإقطاعي للحرفة. وكانت الملكية تقوم (و40) هنا بصورة رئيسية في عمل كل فرد بمفرده. إلا أن ضرورة الاتحاد بين النبلاء النهابين المتحدين والحاجة إلى إنشاءات سوقية مشتركة في المرحلة التي كان فيها الصناعي تاجراً في الوقت نفسه، وتفاقم المزاحمة من جانب الأقنان الفارين الذين كانوا يتوافدون إلى المدن المزدهرة آنذاك، والبنية الإقطاعية للبلد برمته – كل هذا أدى إلى ظهور الطوائف الحرفية، وبما أن بعض الأفراد بين الحرفيين الذين كان عددهم يظل هو هو رغم نمو عدد السكان، قد كدسوا تدريجياً، عن طريق الادخار، رساميل غير كبيرة – فقد تطور نظام الصناع والممهّنين، الذي خلق في المدن سلسلة مراتبية، مثل السلسلة المراتبية الموجودة في الريف.
وهكذا كان الشكل الرئيسي للملكية في العهد الإقطاعي يتمثل، من جهة، في ملكية الأرض مع عمل الأقنان الملحق بها، ومن جهة أخرى في العمل الشخصي مع وجود الرأسمال الصغير السائد على عمل الصناع. وكانت بنية هذين النوعين من الملكية مشروطة بعلاقات الإنتاج المحدودة، حراثة الأرض الضعيفة والبدائية، وطراز الصناعة الحرفي. وفي عهد ازدهار الإقطاعية كان تقسيم العمل تافهاً. ففي كل بلد كان يوجد التضاد بين المدينة والريف؛ وكان للبنية المراتبية، والحق يقال، طابع حاد السمات، ولكنه لم يكن ثمة أي تقسيم للعمل هام نوعاً ما عدا التقسيم إلى أمراء، ونبلاء، ورجال دين، وفلاحين في الريف، وإلى معلمين وصناع وممهَّنين، وكذلك بعد حقبة وجيزة إلى عاميين – مياومين في المدن. وكان تقسيم العمل في الزراعة صعباً بسبب من حراثة الأرض قطعاً صغيرة جداً، فنشأت إلى جانبها صناعة الفلاحين أنفسهم البيتية؛ أما في الصناعة ذاتها، في قلب مختلف الحرفر، فلم يكن ثمة البتة أي تقسيم للعمل، وكان تقسيم العمل بين مختلف الحرف تافهاً جداً. وكان التقسيم بين الصناعة والتجارة في المدن الأقدم عهداً قائماً من قبل؛ أما في المدن الأحدث عهداً، فلم يتطور إلا فيما بعد، عندما دخلت المدن في علاقات متبادلة بعضها مع بعض.
وكان توحيد رقع أوسع من الأراضي في ممالك إقطاعية ضرورة سواء بالنسبة للنبلاء ملاكي الأراضي، أم بالنسبة للمدن. ولهذا كان الملك في كل مكان يرأس تنظيم الطبقة السائدة – طبقة النبلاء*.

4- جوهر الفهم المادي للتاريخ. المعيشة الاجتماعية والوعي الاجتماعي
(و.5) وهكذا تبدو الأمور كما يلي: إن أفراداً معينين يمارسون بصورة معينة النشاط الإنتاجي**، يدخلون في علاقات اجتماعية وسياسية معينة. ولا بد للمراقبة التجريبية أن تستوضح في كل حالة بمفردها – بالاستناد إلى التجربة، وبدون أية تعمية وبدون أية محاولة للتأمل العقيم – الصلة بين البنية الاجتماعية والسياسية والإنتاج. إن البنية الاجتماعية والدولة تنبثقان على الدوام من العملية الحيوية لأفراد معينين – ليسوا كما يمكن أن يبدوا في تصورهم بالذات أو في تصور الغير، بل كما هم في الواقع، أي كما يتصرفون، وينتجون مادياً، وبالتالي، كما يظهرون أنفسهم فعلاً في حال توفر حدود ومقدمات وظروف وشروط مادية معينة لا تتوقف على مشيئتهم*.
إن إنتاج الأفكار والتصورات والوعي مشبوك مباشرة منذ بادئ بدء بنشاط الناس المادي وبمعاشرتهم المادية، بلغة الحياة الفعلية. وإن تشكل تصورات الناس، وتفكيرهم، ومعاشرتهم الروحية هي هنا نتيجة مباشرة أيضاً لأفعالهم المادية. والشيء نفسه يصح على إنتاجهم الروحي، وعلى كيفية تجليه في لغة السياسة والقوانين والأخلاق والدين والميتافيزياء وإلخ. . لهذا الشعب أو ذاك. إن الناس هم منتجو تصوراتهم، وأفكارهم، وإلخ.. ولكن الكلام يتناول هنا الناس الفعليين، الفاعلين، المشروطين بتطور قواهم المنتجة تطوراً معيناً، وبمعاشرة مناسبة لهذا التطور، بما في ذلك ضمناً أبعد أشكالها*. إن الوعي (das Bewubtsein) لا يمكنه أبداً أن يكون شيئاً آخر غير الوجود المدرك (das bewubte Sein)؛ والحال إن وجود الناس هو العملية الفعلية لحياتهم. وإذا كان الناس وعلاقاتهم موضوعين على الرأس في الأيديولوجية كلها كأنما في الحجرة المظلمة**، فإن هذه الظاهرة تنجم كذلك عن العملية التاريخية لحياتهم، مثلما الصورة المعاكسة للأشياء على شبكية العين تنجم مباشرة من العملية الفيزيائية لحياتهم.
وعلى النقيض المباشر للفلسفة الألمانية، التي تهبط من السماء إلى الأرض، نصعد هنا من الأرض إلى السماء، أي أننا ننطلق، لا مما يقوله الناس ويتخيلونه ويتصورونه، وإننا ننطلق كذلك، لا من الناس الموجودين في الكلام فقط، وفي الأفكار والتصورات والتخيلات لكي نمضي منهم إلى الناس الحقيقيين؛ فإن نقطة الانطلاق بالنسبة لنا إنما هي الناس الفاعلون فعلاً، ومن عمليتهم الحياتية الفعلية نستخلص كذلك تطور الانعكاسات والأصداء الأيديولوجية لهذه العملية الحياتية. وحتى التشكيلات الغامضة في دماغ الناس هي منتوجات ضرورية أيضاً، ضرب من تبخرات لعمليتهم الحياتية المادية التي يمكن إثباتها بصورة تجريبية والتي ترتبط بمقدمات مادية. وعلى هذا النحو تفقد الأخلاق، والدين، والميتافيزياء، وسائر أنواع الأيديولوجية وأشكال الوعي المتناسبة معها مظهر الاستقلال. وليس لها تاريخ، وليس لها تطور: فإن الناس الذين يطورون إنتاجهم المادي ومعاشرتهم المادية يغيرون كذلك مع واقعهم هذا تفكيرهم ومنتوجات تفكيرهم. ليس الوعي هو الذي يحدد الحياة بل الحياة هي التي تحدد الوعي. وفي ظل طريقة البحث الأولى، ينطلقون من الوعي كأنما الوعي فرد حي؛ وفي ظل الطريقة الثانية التي تتناسب مع الحياة الفعلية، ينطلقون من الأفراد الأحياء الفعليين حقاً وصدقاً، ولا يعتبرون الوعي إلا وعيهم هم.
وطريقة البحث هذه لا تخلو من المقدمات. فهي تنطلق من مقدمات فعلية، دون أن تتخلى عنها لحظة واحدة. ومقدماتها إنما هي الناس مأخوذين، لا في انطواء انعزالي خيالي ما، بل في عملية تطورهم الفعلية، الملاحظة بصورة تجريبية، الجارية في ظروف معينة. وحين يتصورون هذه العملية الحياتية الفعلية، يكف التاريخ عن أن يكون جمعاً لوقائع ميتة، كما عند التجريبيين الذين ما يزالون هم أنفسهم تجريديين أيضاً، أو عن أن يكون واقعاً متخيلاً لذوات متخيلين كما هو عند المثاليين.
وحيث يتوقف التفكير التأملي، - في وجه الحياة الفعلية – هناك يبدأ بالضبط العلم الإيجابي الفعلي، وتصوير النشاط العملي والسير العملي لتطور الناس. وتكف الجمل عن الوعي، لكي تشغل المعرفة الفعلية مكانها. إن تصور الواقع يحرم الفلسفة المستقلة وسطها الحياتي. وفي أفضل الأحوال يمكن أن يحل محلها اختصار أعم النتائج المجردة من بحث تطور الناس التاريخي في كل واحد. إن هذه التجريدات لا تملك بحد ذاتها، في معزل عن التاريخ الفعلي، أية قيمة على الإطلاق. ولا يمكنها أن تصلح إلا لتسهيل تبسيط المادية التاريخية، ورسم تتابع مختلف شرائحها. ولكن، خلافاً للفلسفة، لا تعطي هذه التجريدات البتة وصفات أو مخططات يمكن تصنيف العهود التاريخية في إطارها. وعلى العكس، لا تبدأ المصاعب إلا حين يشرعون في بحث المادة وتبسيطها – سواء كانت ترقى إلى عهد ماض ما أم إلى العهد المعاصر. وحين يعمدون إلى تصورها تصوراً فعلياً. إن إزالة هذه المصاعب مشروطة بمقدمات لا يمكن البتة إعطاؤها هنا، ولا تنشأ إلا في سياق دراسة العملية الحياتية الفعلية ونشاط الأفراد في كل عهد بمفرده. ونحن نفرز هنا بعضاً من هذه التجريدات، ونستخدمها على نقيض الأيديولوجيا، ونوضحها بأمثلة تاريخية.

(II)
1- شروط تحرر الناس العقلي
إننا لن نكلف أنفسنا، بالطبع، عناء توعية فلاسفتنا الحكماء بصدد أن ""تحرر"" ""الإنسان"" لم يخطُ بعد أية خطوة إلى أمام إذا كانوا أذابوا في ""وعي الذات"" الفلسفة وعلم اللاهوت والجوهر وخلاف ذلك من سقط المتاع، إذا كانوا قد حرروا ""الإنسان"" من سيادة هذه الجمل التي لم يكن يوماً عبداً لها*؛ بصدد أنه لا يمكن أن يتحقق التحرر الفعلي إلا في العالم الفعلي وبوسائل فعلية، وأنه لا يمكن القضاء على العبودية بدون الآلة البخارية والمغزل الآلي، والقضاء على القنانة بدون تحسين الزراعة؛ وبصدد أنه لا يمكن البتة تحرير الناس ما داموا يستطيعون أن يؤمنوا لأنفسهم كلياً، على الصعيد الكمي والنوعي، الغذاء والشراب والمسكن واللباس. إن ""التحرر"" هو قضية تاريخية وليس قضية فكر، وإليه تؤدي العلاقات التاريخية وحالة الصناعة والتجارة والزراعة والمعاشرة..** (2) ثم أيضاً، وفقاً لمختلف درجات تطورهم، يستبعدون سخافة الجوهر، والذات، ووعي الذات، والنقد الخالص، مثلها مثل السخافة الدينية واللاهوتية، ثم بعد هذا يستبعدونها من جديد حين يتقدمون بعيداً جداً في تطورهم*. ويقيناً أن هذه الحركات في ميدان الفكر الخالص، وهذا الصعود إلى السماء، وهذا الفقر المدقع البطال، تعوّض في بلد مثل ألمانيا، حيث لا يجري التطور التاريخي إلا بأحقر شكل، عن نقص الحركات التاريخية، وتتجذر، وضدها يجب خوض النضال. ولكن هذا النضال ذو أهمية محلية**.

2- نقد تأملية مادية فورباخ وتناقضها الذاتي
….*** (8) إن المسألة كلها تتلخص في الواقع وبالنسبة للمادي العملي أي بالنسبة للشيوعي، في تنوير العالم الموجود، والوقوف عملياً ضد وضع الأمور القائم وتغييره. وإذا كنا نجد عند فورباخ أحياناً نظرات كهذه، فإنها جميعها لا تتخطى أبداً حدود التخمينات المتفرقة، وتؤثر في عقيدته العامة تأثيراً على درجة من التفاهة بحيث لم يكن من الممكن أن يستشف المرء فيها أكثر من أجنة قادرة على التطور. إن ""فهم"" فورباخ للعالم الحسي يقتصر، من جهة، على مجرد تأمل هذا العالم، ومن جهة أخرى، على مجرد الإحساس. ويتحدث فورباخ عن ""الإنسان بوصفه إنساناً""، وليس عن ""الإنسان الفعلي، التاريخي"". إن ""الإنسان بوصفه إنساناً"" هو بالفعل ""ألماني"". وفي الحالة الأولى، في حال التأمل في العالم الحسي، يصطدم حتماً بأشياء تناقض وعيه وإحساسه، وتخل بالتناسق الذي يفترضه بين جميع أجزاء العالم الحسي، وخاصة التناسق بين الإنسان والطبيعة*. ولإزالة هذه العقبة، يضطر إلى البحث عن الخلاص في تأمل مزدوج ما يشغل وضعاً متوسطاً بين التأمل العادي الذي لا يرى إلا ما هو ""موجود عند الأنف""، وتأمل أعلى، فلسفي، يرى إلى ""جوهر"" الأشياء ""الحقيقي"". وهو لا يلاحظ أن العالم الحسي المحيط به ليس البتة شيئاً ما، معطى مباشرة منذ الأزل، ولا يتغير أبداً، بل نتاج الصناعة والوضع الاجتماعي، وذلك بمعنى أنه نتاج تاريخي، نتيجة لنشاط جملة كبيرة من أجيال بشرية صعد كل منها على كتفي الجيل السابق، وواصل تطوير صناعته وأسلوبه للمعاشرة، وغيّر نظامه الاجتماعي وفقاً للحاجات المتغيرة. وحتى مواضيع ""الصدق الحسي"" البسيط للغاية لا تعطى له إلا بفضل التطور الاجتماعي، بفضل الصناعة والعلاقات التجارية. فإن شجرة الكرز، مثلها مثل الأشجار المثمرة جميعها تقريباً، لم تظهر، كما هو معلوم، في منطقتنا، إلا منذ بضعة قرون بفضل التجارة، وهي، بالتالي، غير معطاة ""للصدق الحسي"" الذي يقول به فورباخ إلا (9) بفضل هذا الفعل من مجتمع معين في زمن معين.
ولكن، بموجب الفهم التالي للأشياء، أي حين تؤخذ كما هي في الواقع وكما انبثقت، تتلخص كل قضية فلسفية عميقة الفكرة، بكل بساطة، في واقع تجريبي ما (وسنبين هذا بمزيد الوضوح فيما بعد). فتلك هي، مثلاً، هذه القضية الهامة، قضية موقف الإنسان من الطبيعة (أو حتى، كما يقول برونو (ص110) (27)، قضية ""المتضادات بين الطبيعة والتاريخ""، كأنما هما ""شيئان"" منعزلان أحدهما عن الآخر، كأنما الإنسان لا يواجه دائماً طبيعة تاريخية وتاريخاً طبيعياً) – القضية التي تلد ""إبداعات لا حد لعظمتها""* حول قضية ""الجوهر"" و""وعي الذات"". إن هذه القضية تزول من تلقاء ذاتها، إذا أخذنا بالحسبان أن الصيغة السيئة الشهرة – ""وحدة الإنسان مع الطبيعة"" – كانت دائماً قائمة في الصناعة، متغيرة في كل عهد وفقاً لتطور الصناعة إلى هذا الحد أو ذاك، مثلها مثل ""نضال"" الإنسان ضد الطبيعة، المؤدي إلى تطور قواه المنتجة على قاعدة مناسبة. ثم إن الصناعة والتجارة، وإنتاج الوسائل الضرورية للحياة وتبادلها، تشترط من جهتها توزع مختلف الطبقات الاجتماعية، وقيام الحدود فيما بينها، ويشترطانها بدورهما في أشكال تحركهما. ويكون الحاصل أن فورباخ لا يرى، مثلاً، في منشستر غير الفبارك والآلات، في حين أنه كان من الممكن منذ مائة سنة أن يرى المرء هناك غير المغازل وآلات الحياكة اليديو، أو أن لا يجد في كامبانيا** روما غير المراعي والمستنقعات، وفي حين أنه كان من الممكن في زمن أوغسطوس أن لا يرى هناك غير كروم وفيللات الرأسماليين الرومانيين. ويتحدث فورباخ على الأخص عن تأمل العلوم الطبيعية في الطبيعة، ويذكر الأسرار التي لا تتكشف إلا أمام عيني الفيزيائي أو الكيميائي، ولكن ما كان يمكن أن تكون عليه العلوم الطبيعية بدون الصناعة والتجارة؟ وحتى هذه العلوم الطبيعية ""الخالصة"" لا تحصل على هدفها، وكذلك على مادتها، إلا بفضل التجارة والصناعة، بفضل نشاط الناس الحسي. وهذا النشاط، هذا الكدح الحسي المتواصل، هذا الإنشاء، هذا الإنتاج، يشكل أساساً للعالم الحسي كله كما هو قائم الآن، على درجة من العمق بحيث أنه لو توقف وإن لسنة واحدة، لكان فورباخ رأى تغيرات هائلة، لا في عالم الطبيعة وحسب – ولكان زال العالم البشري كله بعد فترة وجيزة جداً، ولكانت زالت قدرته بالذات، هو فورباخ، على التأمل، وحتى وجوده بالذات. ويقيناً إن أسبقية الطبيعة الخارجية تبقى في هذه الحال، ويقيناً إن كل هذا لا يصح على الناس الأوائل الذين انبثقوا عن طريق generatio aequivoca*. ولكنه ليس لهذا التفريق معنى إلا بقدر ما يُنظر إلى الإنسان باعتباره شيئاً متميزاً عن الطبيعة. ناهيك عن أن هذه الطبيعة التي سبقت التاريخ البشري ليست تلك الطبيعة التي يعيش فيها فورباخ؛ إنها طبيعة لم يبقَ لها الآن وجود في أي مكان – ما عدا بعض جزائر المرجان الأوسترالية الحديثة المنشأ – ولا وجود لها بالتالي بالنسبة لفورباخ أيضاً.
صحيح أن فورباخ يتفوق على الماديين (الخالصين) تفوقاً هائلاً بكونه يعترف بالإنسان أيضاً ""شيئاً حسياً""! ولكن فورباخ، فضلاً عن أنه لا يعتبر الإنسان إلا ""كشيء حسي"" وليس ""كنشاط حسي""، لأنه يظل هنا أيضاً في مجال النظرية وينظر إلى الناس، لا في صلتهم الاجتماعية المعنية، لا في ظروف الحياة المحيطة بهم، التي تجعلهم من هم عليه في الواقع، - فضلاً عن هذا، لا يمضي فورباخ أبداً في تحليله إلى الناس الفعليين الموجودين فعلاً، بل يتورط في ""الإنسان"" كشيء تجريدي ويكتفي بكونه يعترف ""بالإنسان الفعلي، الفردي، الجسماني"" في ميدان الإحساس، أي بكونه لا يعرف أية ""علاقات إنسانية"" ""من الإنسان حيال الإنسان"" غير المحب والصداقة، ناهيك عن أنهما مصوران بصورة مثالية. وهو لا يعطي أي انتقاد للعلاقات الحياتية الحالية. وعلى هذا النحو، لا يتوصل فورباخ أبداً إلى فهم العالم الحسي بوصفه نشاطاً جمالياً، حياً، حسياً للأفراد الذين يشكلونه؛ ولذا يضطر، إذ يرى، مثلاً، عوضاً عن الناس الأصحاء، جمعاً من فقراء أضناهم العمل ومصابين بداء الخنازير، ومصابين بداء السل، للجوء إلى ""تأمل أرفع"" وإلى ""تسوية في النوع"" مثالية أي للسقوط من جديد في حمأة المثالية، وذلك بالضبط حيث يرى المادي الشيوعي في آن واحد ضرورة وشرط تحويل الصناعة والنظام الاجتماعي سواء بسواء تحويلاً جذرياً.
وبما أن فورباخ مادي، فإن التاريخ يقوم خارج مجال بصره، وبما أنه يدرس التاريخ، فإنه ليس البتة مادياً. إن المادية والتاريخ مفصولان عنده كلياً أحدهما عن الآخر، الأمر الذي اتضح مما قيل*.

(3- العلاقات التاريخية الأولية، أو جوانب النشاط الاجتماعي الأساسية: إنتاج وسائل العيش، ولادة حاجات جديدة، إنتاج الناس (العائلة)، المعاشرة، الوعي).
(11)** بما أننا نواجه ألماناً متحررين من جميع المقدمات على اختلافها، فإنه يتعين علينا قبل كل شيء أن نلاحظ المقدمة الأولى لكل وجود بشري، وبالتالي لكل تاريخ، ونعني بالضبط تلك المقدمة القائلة إنه يجب أن تتوفر للناس إمكانية العيش لكي يكون بمقدورهم أن ""يصنعوا التاريخ""***. ولكن العيش يقتضي قبل كل شيء الغذاء والشراب والمسكن واللباس وشيئاً ما آخر****. إذن، العمل التاريخي الأول إنما هو إنتاج الوسائل الضرورية لأجل تلبية هذه الحاجات، إنتاج الحياة المادية ذاتها؛ علماً بأنه شأن تاريخي، شرط أساسي لكل تاريخ، لا بد من أدائه في كل يوم وكل ساعة (الآن كما منذ آلف السنين) – وذلك حتى للهدف الواحد التالي، وهو أن يستطيع الناس أن يعيشوا. وحتى إذا تلخصت الحساسية، كما عند القديس برونو، في حد أدنى مثل الهراوة، فإنها تفترض نشاطاً يرمي إلى إنتاج هذه الهراوة. ولهذا ينبغي بادئ ذي بدء، عند استيضاح كل واقع تاريخي، أن يؤخذ بالحسبان الواقع الأساسي المذكور بكل أهميته وحجمه، وأن يُوَفَّرَ له المكان الذي يستحقه. إن الألمان، كما هو معروف، لم يفعلوا ذلك يوماً، ولهذا لم يكن عندهم يوماً أساس أرضي لأجل التاريخ؛ ومن هنا لم يكن ثمة أبداً أي مؤرخ. ولكن الفرنسيين والإنجليز، وإن كانوا أدركوا بصورة وحيدة الجانب صلة هذا الواقع بما يسمى التاريخ – وخاصة لأنهم كانوا أسرى الأيديولوجية السياسية – قد قاموا مع ذلك بأولى المحاولات لإعطاء علم التاريخ أساساً مادياً، حين كتبوا للمرة الأولى تواريخ المجتمع المدني والتجارة والصناعة.
الواقع الثاني يقوم في كون الحاجة الأولى الملباة نفسها، وفعل التلبية، والأداة المكتسبة للتلبية تؤدي إلى حاجات جديدة، وهذه الولادة للحاجات الجديدة هي أول عمل تاريخي. ومن هنا يصبح واضحاً على الفور من هو الوالد الروحي لحكمة الألمان التاريخية العظيمة، وهم الذين يعتبرون أنه حيث تنقصهم المادة الإيجابية وحيث لا يتناول الكلام الهذيان اللاهوتي أو السياسي أو الأدبي، لا يوجد أي تاريخ، لا يوجد سوى ""زمن سابق للتاريخ""؛ ناهيك بأننا لا نتلقى أية إيضاحات توضح كيف يتحقق الانتقال من ""سابق التاريخ"" الهذياني هذا إلى التاريخ بالذات. ولكن تأملهم التاريخي ينقضّ، من جهة أخرى، بسرور خاص، على ""سابق التاريخ"" هذا، لأنهم يعتبرون أنفسهم مؤَمَّنين هنا دون اقتحام ""الواقع الفظ""، ولأنهم يستطيعون في الوقت نفسه أن يطلقوا الحرية التامة لميلهم إلى التأمل، بخلق الفرضيات وسحقها بالآلاف.
إن العلاقة الثالثة التي اندرجت منذ بادئ بدء في سير التطور التاريخي، تتلخص في كون الناس الذين ينتجون يومياً من جديد حياتهم بالذات، يشرعون في إنتاج أناس آخرين، ويتكاثرون؛ والمقصود هنا العلاقة بين الزوج والزوجة، بين الآباء والأبناء، العائلة. وهذه العائلة التي كانت في البدء العلاقة الاجتماعية الوحيدة تصبح فيما بعد – عندما تلد الحاجات المتكاثرة علاقات اجتماعية جديدة، والسكان المتكاثرون حاجات جديدة – (مع استثناء ألمانيا) علاقة تبعية، فيتعين آنذاك النظر إليها ودراستها وفقاً للمعطيات التجريبية المتوفرة، وليس وفقاً ""لمفهوم العائلة""، كما يفعلون عادة في ألمانيا.
بيد أنه يجب اعتبار جوانب النشاط الاجتماعي الثلاثة هذه، لا كثلاث درجات مختلفة، بل بالضبط وفقط كثلاثة جوانب، أو – لكي يكون مفهوماً للألمان – كثلاثة ""عوامل"" كانت موجودة معاً منذ بادئ بدء التاريخ، منذ زمن الناس الأوائل، ولا تزال الآن أيضاً سارية المفعول في التاريخ.
إن إنتاج الحياة – سواء حياة الشخص المعني بالذات، بواسطة العمل، أم حياة الغير، بواسطة الأنسال – يتبدى في الحال كعلاقة مزدوجة: من جهة كعلاقة طبيعية، ومن جهة أخرى كعلاقة اجتماعية، اجتماعية بمعنى أن المقصود هنا هو النشاط المشترك لأفراد كثيرين، بصرف النظر عن ظروفه، وطريقته، وهدفه. ومن هنا ينجم أن أسلوب الإنتاج المعني أو الدرجة الصناعية المعنية يرتبطان دائماً في كل واحد مع أسلوب معين للنشاط المشترك، مع درجة اجتماعية معينة، وإن هذا الأسلوب نفسه للنشاط المشترك هو ""قوة منتجة""، وإن مجمل القوى المنتجة التي هي في منال الناس يشترط الحالة الاجتماعية، وأنه يجب دائماً، بالتالي، دراسة ""تاريخ البشرية"" ووضعه بالارتباط مع تاريخ الصناعة والتبادل. ولكنه واضح كذلك أنه لا يمكن في ألمانيا كتابة تاريخ كهذا، لأنه ينقص الألمان لهذا الغرض، لا القدرة على الفهم والمادة وحسب، بل أيضاً ""الصدق الحسي"". أما الضفة الأخرى من نهر الراين، فلا يمكن اكتساب أية تجربة بصدد هذه المسائل، لأنه لم يعد يتحقق هناك أي تاريخ. وهكذا تتكشف منذ بادئ بدء الصلة المادية بين الناس بالذات، الصلة المشروطة بالحاجات وأسلوب الإنتاج والقديمة قدم الناس أنفسهم، الصلة التي تتخذ الجديد تلو الجديد من الأشكال، وتصبح بالتالي ""تاريخاً"" دون أن تحتاج البتة إلى وجود سخافة سياسية أو دينية ما، من شأنها، فضلاً عن ذلك، أن تجمع بين الناس.
والآن فقط، بعد أن درسنا العوامل الأربعة، الجوانب الأربعة للعلاقات الأولية، التاريخية، نجد أن الإنسان يملك كذلك ""الوعي""*. ولكن هذا الوعي ليس وعياً ""خالصاً"" منذ بادئ بدء. فمنذ بادئ بدء، تقع كل ""الروح"" لعنة، قوامها أن تكون ""مثقلة"" بالمادة التي تبرز هنا بصورة طبقات متحركة في الهواء والأصوات – وبكلمة، بصورة لغة. إن اللغة قديمة بقدم الوعي؛ إن اللغة هي الوعي الفعلي، العملي، الموجود لأجل الناس الآخرين أيضاً، والذي لا يوجد بالتالي إلا بالنسبة لي كذلك؛ واللغة، مثل الوعي، لا تنبثق إلا من الحاجة، من الضرورة الملحة القاضية بالتعاشر مع الناس الآخرين**. وحيث توجد علاقة ما، فإنها موجودة من أجلي. إن الحيوان لا ""يتعلق"" بشيء، ولا ""يتعلق"" البتة؛ فإن علاقة الحيوان بحيوان آخر لا توجد بالنسبة له بوصفها علاقة. ومن هنا ينجم أن الوعي هو منذ بادئ بدء نتاج اجتماعي ويبقى كذلك ما دام الناس موجودين على العموم. ويقيناً إن الوعي هو في البدء مجرد إدراك لأقرب بيئة مدركة حسياً، وإدراك للصلة المحدودة مع أناس آخرين وأشياء أخرى، موجودين خارج الفرد الذي بدأ يعي نفسه. والوعي هو في الوقت نفسه إدراك للطبيعة التي تقابل في البدء الناس بوصفها قوة غريبة تماماً، وكلية القدرة، ومنيعة يقف منها الناس موقفاً حيوانياً صرفاً ويخضعون لسلطتها كالمواشي؛ وهو بالتالي إدراك حيواني صرف للطبيعة (تأليه الطبيعة).
وهنا يتبين في الحال أن هذا تأليه للطبيعة، والعكس بالعكس. وهنا، كما في كل مكان، يتبدى التماثل بين الطبيعة والإنسان كذلك في كون علاقة الناس المحدودة بالطبيعة تشترطها علاقتهم المحدودة بالطبيعة، وذلك لأن الطبيعة لم تتغير أبداً تقريباً بحكم سير التاريخ؛ ولكن وعي ضرورة الدخول في علاقة مع الأفراد المحيطين هو من جهة أخرى بداية الإدراك لواقع أن الإنسان يعيش على العموم في المجتمع. وهذه البداية تتسم بطابع حيواني مثلها مثل الحياة الاجتماعية ذاتها في هذه الدرجة؛ وهذا وعي قطيعي صرف؛ وهنا لا يتميز الإنسان عن الخروف إلا بكون الوعي يحل عنده محل الغريزة، أو بكون غريزته واعية. وهذا الوعي الخروفي، أو القبلي، يتطور لاحقاً بفضل نمو الإنتاجية، ونمو الحاجات ونمو السكان القائم في أساس هذا وذاك. ومع هذا، يتطور تقسيم العمل الذي لم يكن في البدء سوى تقسيم للعمل على الصعيد الجنسي، ثم – تقسيم العمل الذي يتحقق من تلقاء ذاته أو ""ينبثق عفوياً"" بفضل الصفات الطبيعية (مثلا، القوة البدنية)، والحاجات، والصدف، وإلخ..، وإلخ..، ولا يصبح تقسيم العمل تقسيماً فعلياً إلا منذ أن يظهر تقسيم العمل المادي والروحي*. ومذ ذاك يستطيع الوعي أن يتصور فعلاً لنفسه أنه يستطيع أن يمثل في الواقع شيئاً ما، دون أن يمثل شيئاً ما فعلياً، مذ ذاك يغدو بمقدور الوعي أن يتحرر من العالم وينتقل إلى إنشاء النظرية وعلم اللاهوت والفلسفة والأخلاق ""الخالصة"" وإلخ.. ولكن حتى إذا دخلت هذه النظرية، وعلم اللاهوت هذا وهذه الفلسفة، وهذه الأخلاق، وإلخ في تناقض مع العلاقات القائمة، فلا يمكن أن يحدث ذلك إلا لأن العلاقات الاجتماعية القائمة قد دخلت في تناقض مع القوة المنتجة القائمة. ولكن من الممكن في إطار علاقات أمة معينة أن يحدث هذا كذلك، لأن التناقض يتكشف، لا ضمن أطر قومية معينة، بل بين وعي قومي معين وممارسة أمم أخرى*، أي بين الوعي القومي والوعي العام لهذه الأمة أو تلك (كما يحدث هذا في ألمانيا في الوقت الحاضر)؛ وربما أن هذا التناقض يتمثل بصورة تناقض لا وجود له إلا في إطار الوعي القومي، فإنه يبدو آنذاك لهذه الأمة أن النضال يقتصر هو أيضاً على هذا الهراء القومي.
بيد أنه لا شأن البتة لما يقوم به الوعي بحد ذاته؛ فمن كل هذا الهراء لا نحصل إلا على استنتاج واحد، هو أن العوامل الثلاثة المذكورة – القوة المنتجة، والحالة الاجتماعية، والوعي – إنما يمكن ويجب أن تدخل في تناقض بعضها مع بعض، لأن تقسيم العمل يجعل من الممكن – وبالأحرى من الواقع – أن يصبح النشاط الروحي والمادي**، والمتعة والعمل، والإنتاج والاستهلاك، من نصيب مختلف الأفراد؛ ولا يمكن التوصل إلى الحيلولة دون دخولهم في تناقض بعضهم مع بعض إلا بالقضاء على تقسيم العمل. ولكنه غني عن البيان أن ""الأشباح""، و""العرى""، و""الكائن الأعلى"" و""المفهوم""، و""الشك"" ليست سوى تعبير مثالي، روحي، سوى تصور عن الفرد ذي العزلة الموهومة، تصور عن سبل وحدود تجريبية للغاية يتحرك ضمنها أسلوب إنتاج الحياة وشكل المعاشرة المرتبط به.

(4- التقسيم الاجتماعي للعمل وعواقبه: الملكية الخاصة، الدولة، ""اغتراب"" النشاط الاجتماعي)
مع تقسيم العمل، الذي يتضمن جميع التناقضات المشار إليها، والذي يرتكز، بدوره، على تقسيم العمل المنبثق بصورة طبيعية في قلب العائلة وعلى انقسام المجتمع إلى عائلات منفردة، معارضة بعضها لبعض، - مع هذا التقسيم للعمل، أعطي أيضاً في الوقت نفسه توزيع هو، فضلاً عن ذلك – سواء من حيث الكم أم من حيث الكيف – توزيع غير متساوٍ للعمل ومنتوجاته؛ وأعطيت بالتالي الملكية، التي كان جنينها وشكلها الأولي قائمين في العائلة حيث الزوجة والأولاد عبيد للرجل. إن العبودية في العائلة – والحقيقة أنها لا تزال بعد بدائية جداً وخفية – هي أول ملكية كانت تتطابق كلياً، مع ذلك، حتى في هذا الشكل، مع تعريف الاقتصاديين المعاصرين القائل إن الملكية هي التصرف بقوة عمل الغير. بيد أن تقسيم العمل والملكية الخاصة هما تعبيران متماثلان: ففي حالة، يقال بصدد النشاط نفس ما يقال في حالة أخرى بصدد منتوج النشاط.
وبعد. مع تقسيم العمل أعطي أيضاً التناقض بين مصلحة فرد بمفرده أو عائلة بمفردها وبين المصلحة المشتركة لجميع الأفراد الموجودين في معاشرة بعضهم بعضاً؛ علماً بأن هذه المصلحة المشتركة موجودة، لا في التصور، بوصفها مصلحة ""عامة"" وحسب، بل أيضاً، وفي المقام الأول، في الواقع الفعلي بوصفها تبعية متبادلة بين أفراد تم تقسيم العمل فيما بينهم.
وبفضل هذا التناقض بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة على وجه الضبط، تتخذ المصلحة العامة بصورة الدولة شكلاً مستقلاً مفصولاً عن المصالح الفعلية – سواء منها المنفردة أم المشتركة – كما تتخذ شكل وحدة وهمية. ولكن هذا يتحقق دائماً على أساس فعلي هو أساس الصلات القائمة في كل تجمع عائلي أو قبلي، من حيث الدم واللحم، واللغة، وتقسيم العمل يتحقق على نطاق أوسع وبموجب مصالح أخرى، وخاصة، كما سنبين فيما بعد، على أساس مصالح الطبقات التي تنعزل، وقد سبق أن اشترطها تقسيم العمل، في كل تجمع بشري من هذا النوع والتي تسود إحداها على جميع الطبقات الأخرى. ومن هنا ينجم أن كل نضال داخل الدولة – النضال بين الديمقراطية والأريستوقراطية والمَلَكية، النضال من أجل الحق الانتخابي، وإلخ.. وإلخ.. – لا يعدو أن يكون أشكالاً وهمية يجري بها النضال الفعلي بين مختلف الطبقات (الأمر الذي لا يملك عنه النظريون الألمان أي فكرة، رغم أنه عرض عليهم ذلك بما يكفي من الوضوح في Deutsch- Franzosische Jahrbucher) وفي ""العائلة المقدسة"". ومن هنا ينجم أيضاً أن كل طبقة تسعى وراء السيادة – حتى وإن كانت سيادتها تشترط، كما يحدث للبروليتاريا، القضاء على كل الشكل الاجتماعي القديم والقضاء على السيادة بوجه عام – إنما يجب عليها قبل كل شيء أن تظفر لنفسها بالسلطة السياسية، لكي تتمكن هذه الطبقة بدورها من تصوير مصلحتها بصورة المصلحة العامة، الأمر الذي تضطر إلى فعله في اللحظة الأولى.
وبما أن الأفراد لا يبتغون سوى مصلحتهم المتميزة التي لا تتطابق بالنسبة لهم مع مصلحتهم المشتركة، وبما أن المصلحة العامة هي على العموم شكل وهمي للوحدة، لهذا السبب بالذات، تبرز هذه المصلحة العامة ""غريبة"" عنهم، ""مستقلة"" عنهم، أي أيضاً مصلحة ""عامة"" متميزة وأصيلة، أو يضطرون هم أنفسهم إلى التحرك في ظل هذا التشتت، كما يجري في ظل الديموقراطية. ومن جهة أخرى، يجعل النضال العملي لهذه المصالح المتميزة، العاملة دائماً بالفعل ضد المصالح المشتركة والمصالح المتوهم أنها مشتركة، من الضروري التدخل العملي وكبح المصالح المتميزة بواسطة مصلحة ""عامة"" وهمية تبرز بصورة الدولة.
وأخيراً، يعطينا تقسيم العمل في الحال أول مثال يبين أنه ما دام الناس موجودين في مجتمع يتكون بصورة عفوية، وما دامت توجد، بالتالي، قطيعة بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، وما دام تقسيم النشاط يتحقق، بالتالي، لا طوعاً واختياراً، بل عفوياً، - فإن عمل الإنسان، عمله بالذات، يصبح بالنسبة له قوة غريبة ومعارضة له، تضطهده عوضاً عن أن يسيطر عليها. ذلك أنه ما أن يبدأ تقسيم العمل، حتى يظهر عند كل امرئ مجال معين ما للنشاط، مجال حصري، يُفرض عليه فرضاً، ولا يستطيع أن يخرج منه: فهو صياد بري، أو صياد سمك، أو راعٍ، أو ناقد نقّاد، ويجب عليه أن يبقى كذلك إذا شاء أن لا يفقد وسائل العيش، - بينما في المجتمع الشيوعي، حيث لا ينحصر أحد ضمن مجال ما حصري للنشاط وحيث يستطيع كل امرئ أن يترقى في أي فرع كان، يضبط المجتمع الإنتاج كله، ولهذا بالذات يوفر لي الفرصة لأعمل اليوم شيئاً، وغداً شيئاً آخر، وأصطاد في الصباح الطرائد، وأصطاد بعد الظهر السمك، وأتعاطى في المساء تربية الماشية، وأصبح بعد العشاء ناقداً، كما يطيب لي، دون أن يجعل مني، بحكم ذلك، صياداً برياً، أو صياد سمك، أو راعياً، أو ناقداً.
إن هذا التثبيت للنشاط الاجتماعي، هذا التوطيد لنتاجنا بالذات في قوة مادية ما، تسود علينا، وخرجت من تحت رقابتنا، وتخالف توقعاتنا، وتقضي على حساباتنا، هو أحد العوامل الرئيسية في عموم التطور التاريخي السابق. إن القوة الاجتماعية، أي القوة المنتجة المتعاظمة التي تنبثق بفضل نشاط مختلف الأفراد المشترك الذي يشترطه تقسيم العمل، - إن هذه القوة الاجتماعية تبدو لهؤلاء الأفراد، بحكم أن النشاط المشترك نفسه ينبثق عفوياً وليس طوعاً واختياراً، لا كقوة موحدة خاصة بهم، بل كسلطة ما غريبة قائمة خارجاً عنهم، لا يعرفون شيئاً عن أصلها، وعن اتجاهات تطورها؛ فلا يبقى في وسعهم، بالتالي، أن يسودوا على هذه القوة، بل بالعكس، فإن هذه القوة تمر الآن بجملة من مراحل ودرجات خاصة بها في تطورها، لا تتوقف على إرادة الناس وسلوكهم، وليس هذا وحسب، بل بالعكس، توجه هذه الإرادة وهذا السلوك*، وإلا، كيف كان من الممكن مثلاً، أن يكون للملكية على العموم تاريخ ما، وتتخذ أشكالاً مختلفة، وكيف كان من الممكن، مثلاً، أن تتطور ملكية الأرض تبعاً لمختلف المقدمات المتوفرة – في فرنسا من الشكل المتجزئ جداً إلى تركيزها في قلة من الأيدي، وفي إنجلترا من التركيز في قلة من الأيدي إلى الشكل المتجزئ جداً، كما يحدث فعلاً في الوقت الحاضر؟ أو كيف يحدث أن التجارة التي لا تعدو أن تكون تبادلاً لمنتوجات مختلف الأفراد والبلدان، تسود على العالم كله بفضل العلاقة بين العرض والطلب – العلاقة التي، كما يقول أحد الاقتصاديين الإنجليز، تحلق فوق الأرض مثل القضاء والقدر القديم، لتوزع بيد غير منظورة على الناس السعادة والتعاسة، وتبني الممالك وتهدمها، وتولد الشعوب وتجبرها على الاندثار – بينما مع القضاء على الأساس، على الملكية الخاصة، ومع الضبط الشيوعي للإنتاج الذي يزيل ذلك الاغتراب الذي يعامل به الناس نتاجهم بالذات، تزول كذلك سيادة العلاقة بين العرض والطلب، ويُخضع الناس من جديد لسلطتهم التبادل والإنتاج وأسلوب علاقاتهم المتبادلة؟

(5- تطور القوى المنتجة بوصفها مقدمة مادية للشيوعية)
هذا ""الاغتراب""، إذا تكلمنا بلغة يفهمها الفلاسفة، لا يمكن القضاء عليه، بالطبع، إلا في حال توفر مقدمتين عمليتين. ولكي يصبح هذا الاغتراب قوة ""لا تطاق""، أي قوة تنشب الثورة ضدها، ينبغي أن يحول السواد الأعظم من البشر إلى أناس ""محرومين من الملكية"" كلياً، ومضادين في الوقت نفسه لعالم التعليم والثروة القائم؛ وهذان الشرطان يقتضيان نمو القوة المنتجة نمواً هائلاً، ودرجة رفيعة لتطورها. ومن جهة أخرى، يشكل تطور القوى المنتجة هذا (الذي أُعطي معه التحقيق التجريبي لمعيشة الناس التاريخية العالمية، وليس المحلية الضيقة) مقدمة عملية ضرورية إطلاقاً لسبب آخر أيضاً، هو أنه بدونه لا يمكن أن يتحقق غير انتشار الفقر بصورة عامة؛ وفي حال الفقر المدقع لا بد من أن يبدأ من جديد النضال في سبيل الأشياء الضرورية، وهذا يعني أنه لا بد من أن تنبعث كل الخساسة القديمة، ثم إن تطور القوى المنتجة هذا هو مقدمة ضرورية لأن المعاشرة الشاملة بين الناس لا تقوم إلا مع تطور القوى المنتجة الشامل، ومن جراء ذلك، يتكشف، من جهة، واقع وجود الجمهرة ""المحرومة من الملكية"" في آن واحد عند جميع الشعوب (المزاحمة العامة)، - وكل من هذه الشعوب يصبح تبعاً للانقلابات عند الشعوب الأخرى – وأخيراً، يحل محل الأفراد المحدودين محلياً أفراد عالميون – تاريخيون، شموليون بصورة تجريبية. ولولا هذا –1- قد لا توجد الشيوعية إلا كشيء محلي، - 2- ما كانت قوى المعاشرة ذاتها استطاعت أن تتطور بوصفها قوى شاملة وبالتالي قوى لا تطاق، ولبقيت في طور ""ظروف"" بيتية ومحاطة بالخرافات، و-3- لقضى كل توسيع للمعاشرة على الشيوعية المحلية. إن الشيوعية غير ممكنة بصورة تجريبية إلا بوصفها فعلاً للشعوب السائدة يجري ""دفعة واحدة""، في آن واحد، الأمر الذي يفترض تطور القوة المنتجة والمعاشرة العالمية المقترنة به تطوراً شاملاً*.
ولكن وجود جمهرة من أناس لا يعيشون إلا من عملهم – جمهرة من قوة عمل مفصولة عن الرأسمال أو عن إمكانية تلبية حاجاتها وإن بصورة محدودة، وتتميز بالتالي، لا بفقدان هذا العمل نفسه بوصفه مصدراً مؤمناً للعيش فقداناً مؤقتاً وحسب، بل أيضاً بالوضع غير المستقر إطلاقاً على وجه العموم – يفترض، بحكم المزاحمة، وجود سوق عالمية. ولذا لا يمكن أن توجد البروليتاريا إلا بالمعنى التاريخي العالمي، مثلما الشيوعية – صنيعتها – لا تمكن عموماً إلا بوصفها وجوداً ""تاريخياً عالمياً""؛ والحال، يعني وجود الأفراد التاريخي العالمي هذا وجودهم الذي يرتبط مباشرة بالتاريخ العالمي.
إن الشيوعية ليست بنظرنا حالة يجب إقرارها، وليست مثالاً أعلى يجب على الواقع أن يتطابق معه. نحن نسمي بالشيوعية حركة فعلية تقضي على الحالة الحاضرة. وشروط هذه الحركة تخلقها المقدمة المتوفرة الآن.
***
إن شكل المعاشرة الذي تشترطه القوى المنتجة ويشترطها بدوره في جميع الدرجات التاريخية الموجودة حتى الآن هو المجتمع المدني الذي تشكل العائلة البسيطة والعائلة المعقدة، أي ما يسمى بالنظام القبلي – كما ينجم مما قيل سابقاً – مقدمته وأساسه، وفيما قيل أعلاه يرد تعريف أكثر تفصيلاً للمجتمع المدني. وحتى من هنا يتبين أن هذا المجتمع المدني هو بؤرة حقيقية ومسرح حقيقي للتاريخ كله، وتتبين سخافة الفهم السابق للتاريخ الذي يهمل العلاقات الفعلية والذي كان يقتصر على دراسة الأفعال المدوية والمهيبة.
وحتى الآن لم ندرس بصورة رئيسية غير جانب واحد من جانبي النشاط البشري هو تكييف الطبيعة من قبل الناس. والجانب الآخر – تكييف الناس من قبل الناس..*.
أصل الدولة وعلاقة الدولة بالمجتمع المدني**.

(6- استنتاجات الفهم المادي للتاريخ: استمرارية العملية التاريخية، تحول التاريخ إلى تاريخ عالمي، ضرورة الثورة الشيوعية)
إن التاريخ ليس سوى تعاقب متتابع لأجيال مختلفة من البشر، كل جيل منها يشغل المواد والرساميل والقوى المنتجة التي أحالتها إليه جميع الأجيال السابقة؛ ومن جراء هذا، يواصل الجيل المعني، من جهة، النشاط الموروث في ظروف متغيرة تماماً، ويغير، من جهة أخرى، الظروف القديمة بواسطة نشاط متغير تماماً. ولكنه يضفي على القضية، في التصور التأملي المشوه، مظهراً يبدو معه كأن التاريخ اللاحق هو هدف لأجل التاريخ السابق، كأن اكتشاف أميركا، مثلاً، كان هدفه الأساسي مساعدة الثورة الفرنسية على التطور. وبفضل هذا، يكتسب التاريخ أهدافاً خاصة به ويتحول إلى ""شخص ما إلى جانب الأشخاص الآخرين"" (""مثلاً: ""وعي الذات""، ""النقد""، ""الوحيد"" وإلخ..). أما بالفعل، فإن ما يعنونه بكلمات ""غاية""، ""هدف""، ""جنين""، ""فكرة"" التاريخ السابق لا يعدو أن يكون تجريداً من التاريخ اللاحق، تجريداً من ذلك التأثير الفعال الذي يمارسه التاريخ السابق في التاريخ اللاحق.
وبقدر ما تتسع مختلف الأوساط المؤثرة بعضها في بعض في سياق هذا التطور، وبقدر ما يشتد القضاء على الانطواء الأولي لمختلف القوميات بفضل أسلوب الإنتاج المتزايد إتقاناً، وبفضل المعاشرة المتطورة، وبفضل تقسيم العمل بين مختلف الأمم المنبثق عفوياً بحكم ذلك، بقدر ما يصبح التاريخ أكثر فأكثر تاريخاً عالمياً. مثلاً، إذا اخترعوا في إنجلترا آلة تحرم من الخبز عدداً لا يحصى من العمال في الهند والصين وتحدث انقلاباً في كل شكل وجود هاتين الدولتين، فإن هذا الاختراع يصبح واقعاً تاريخياً عالمياً؛ كذلك السكر والبن كشفا في القرن التاسع عشر أهميتهما العالمية التاريخية بكون النقص في هذين المنتوجين الذي استثاره النظام القاري النابليوني قد دفع الألمان إلى الانقضاض ضد نابليون، وأصبح بالتالي أساساً فعلياً لحروب التحرر المجيدة في عام 1813. ومن هنا نجم أن هذا التحويل للتاريخ إلى تاريخ عالمي ليس فعلاً مجرداً ما من ""وعي الذات"" أو من الروح العالمي أو من شبح ميتافيزيائي ما، بل شأن مادي تماماً، مثبت بصورة تجريبية، شأن يقدم البرهان عليه كل فرد، ومن هو في الحياة، وكيف يأكل ويشرب ويلبس.
في التاريخ السابق، يعتبر كذلك بلا ريب واقعاً تجريبياً واقع أن مختلف الأفراد كانوا يقعون، بقدر ما تحت سلطة قوة غريبة عليهم (وفي هذا الاضطهاد كانوا يستشفون مكائد ما يسمى بالروح العالمي، وإلخ)، تحت سلطة قوة تصبح جماهيرية أكثر فأكثر وتتبدى في آخر المطاف في صورة السوق العالمية. ولكن هناك أمر آخر معلل بصورة تجريبية بالقدر نفسه، هو أن هذه القوة الغامضة جداً بالنسبة للنظريين الألمان ستزول من تلقاء ذاتها بفضل إسقاط النظام الاجتماعي القائم من قبل الثورة الشيوعية (وسنتحدث عنه فيما بعد) وبفضل القضاء على الملكية الخاصة الذي يشكل شيئاً مماثلاً لهذه الثورة؛ زد على ذلك أن تحرر كل فرد بمفرده يتحقق بذلك القدر الذي يتحول به التاريخ كلياً إلى تاريخ عالمي*. أما أن غنى الفرد الروحي يتوقف كلياً على غنى علاقاته الفعلية، فإن هذا واضح مما قيل أعلاه. وبحكم هذا فقط، يتحرر الأفراد من مختلف الأطر القومية والمحلية، ويدخلون في علاقة عملية مع الإنتاج (والإنتاج الروحي كذلك) في العالم أجمع ويصبح بوسعهم أن يكتسبوا لأنفسهم القدرة على الاستفادة من كل هذا الإنتاج الشامل في الكرة الأرضية قاطبة (من كل ما صنعه الناس). إن التبعية الشاملة، هذا الشكل المتكون عفوياً لنشاط الأفراد المشترك التاريخي العالمي، تتحول بفضل الثورة الشيوعية إلى رقابة وسيطرة واعية على قوى ولدت بتأثير الناس بعضهم في بعض وبدت لهم حتى الآن قوى غريبة تماماً، وسادت عليهم بصفتها هذه. وهذه النظرة يمكن أيضاً تفسيرها تفسيراً تأملياً مثالياً أي خيالياً غريباً، بوصفها ""الولادة الذاتية للجنس"" (""المجتمع بوصفه ذاتاً"")، على أن نتصور كل صف الأفراد المتعاقبين واحداً تلو آخر والمترابطين فيما بينهم كفرد واحد وحيد يقوم بمراسم ولادة نفسه بنفسه. وهنا يتبين أن الأفراد، وإن كانوا يصنعون بعضهم بعضاً سواد جسدياً أم روحياً، لا يصنعون مع ذلك أنفسهم بأنفسهم بروح هذيان القديس برونو ولا بمعنى الإنسان ""الوحيد""، ""المخلوق"".
وأخيراً نحصل أيضاً على الاستنتاجات التالية من الفهم الذي طورناه عن التاريخ: 1-إن القوى المنتجة تبلغ في تطورها درجة تنبثق فيها قوى منتجة ووسائل معاشرة، لا تجلب معها، في ظل العلاقات القائمة، غير البلايا، ولم تبق قوى منتجة بل صارت قوى مدمرة (الآلات والنقود)؛ ومع هذا، تنبثق طبقة تضطر إلى تحمل جميع أعباء المجتمع، دون أن تستفيد من خيراته، وتصبح حتماً، بعد إزاحتها من المجتمع في تناقض حاد للغاية مع جميع الطبقات الأخرى. إن هذه الطبقة تؤلف أغلبية جميع أعضاء المجتمع، ومنها ينطلق وعي ضرورة الثورة الجذرية، والوعي الشيوعي الذي يمكن أن يتشكل بالطبع بين الطبقات الأخرى أيضاً بفضل فهم وضع هذه الطبقة؛ 2-إن الظروف التي يمكن فيها استخدام قوى منتجة معينة هي ظروف سيادة طبقة معينة في المجتمع، طبقة تنبع سلطتها الاجتماعية من وضعها المادي وتجد كل مرة تعبيرها المثالي عملياً في شكل للدولة مناسب، ولذا يتجه كل نضال ثوري ضد الطبقة التي كانت سائدة حتى ذاك*؛ 3-في ظل جميع الثورات السابقة بقي طابع النشاط دائماً كما كان، - فإن الأمر لم يكن يتعلق دائماً إلا بتوزيع آخر لهذا النشاط، بتوزيع جديد للعمل بين أشخاص آخرين، بينما الثورة الشيوعية تعمل ضد طابع النشاط، القائم حتى ذاك، وتستبعد العمل*، وتقضي على سيادة الطبقات، أياً كانت هذه الطبقات، كما تقضي على الطبقات ذاتها، لأن هذه الثورة إنما تقوم بها تلك الطبقة التي لم تعد تُعتبر في المجتمع طبقة، ولا يُعترف بها كطبقة، وغدت تعبيراً عن انحلال جميع الطبقات والقوميات وإلخ. في المجتمع الراهن؛ 4-سواء لأجل ولادة هذا الوعي الشيوعي الجماهيرية أم لأجل بلوغ الهدف بالذات، لا بد من تغيير للناس على نطاق واسع لا يمكن أن يتم إلا في الحركة العملية، في الثورة، ولذا تكون الثورة ضرورية، ليس فقط لأنه يستحيل بأي أسلوب آخر إطاحة بالطبقة السائدة، بل أيضاً لأن الطبقة المطيحة لا تستطيع إلا في الثورة أن تخلع عن نفسها كل الخساسة القديمة وتصبح قادرة على بناء أساس جديد للمجتمع**.

(7- موجز عن الفهم المادي للتاريخ)
وهكذا يتلخص هذا الفهم للتاريخ في دراسة عملية الإنتاج الفعلية انطلاقاً على وجه الضبط من إنتاج الحياة المباشرة المادي، وفي فهم شكل المعاشرة المرتبط بأسلوب الإنتاج المعني والناجم عنه – أي المجتمع المدني في مختلف درجاته – بوصفه أساس التاريخ كله؛ ثم ينبغي تصور نشاط المجتمع المدني في ميدان حياة الدولة، وكذلك إعطاء تفسير منطلق منه لجميع الحواصل النظرية على اختلافها وجميع أشكال الوعي على اختلافها، والدين، والفلسفة، والأخلاق، وإلخ، وإلخ..، وتتبع عملية نشوئها على هذا الأساس، الأمر الذي سيكون من الممكن بفضله، طبعاً، تصور كل العملية بمجملها (وبالتالي التفاعل بين جوانبها المختلفة كذلك). إن هذا الفهم للتاريخ، خلافاً للفهم المثالي، لا يفتش في كل عهد عن هذه المقولة أو تلك، بل يبقى دائماً في تربة التاريخ الفعلي، ولا يعلل الممارسة بالأفكار، بل يعلل التشكيلات الفكرية بالممارسة المادية، وبحكم هذا يؤدي كذلك إلى الاستنتاج التالي، وهو أن جميع أشكال الوعي ونتاجاته إنما يمكن القضاء عليها، لا بالنقد الروحي ولا بتذويبها في ""وعي الذات"" أو بتحويلها إلى ""أطياف""، ""أشباح""، ""نزوات""، وإلخ، بل فقط بالإطاحة العملية بالعلاقات الاجتماعية الفعلية التي نجم منها كل هذا الهراء المثالي، - وإن الثورة، وليس النقد، هي القوة المحركة للتاريخ، وكذلك للدين والفلسفة وشتى النظريات. إن هذا المفهوم يبين أن التاريخ لا يذوب في ""وعي الذات"" مثل ""روح الروح""*، ولكنه يبين أيضاً أن كلاً من درجات التاريخ تجد نتيجة مادية معينة موجودة، ومجملاً معيناً موجوداً من القوى المنتجة، وموقفاً للناس حيال الطبيعة وحيال بعضهم البعض متكوناً تاريخياً، تجد مجملاً من القوى المنتجة والرساميل والأوضاع ينقله كل جيل سابق إلى كل جيل لاحق، ويغيره الجيل الجديد من جهة، ولكنه يفرض عليه، من جهة أخرى، ظروف حياة خاصة به ويضفي عليه تطوراً معيناً وطابعاً خاصاً. وهكذا يبين هذا المفهوم أن الظروف تصنع الناس بقدر ما يصنع الناس الظروف.
إن ذلك المجمل من القوى المنتجة والرساميل والأشكال الاجتماعية للمعاشرة، الذي يجده كل فرد وكل جيل من الناس كشيء معطى إنما هو أساس فعلي لما كان يتصوره الفلاسفة بصورة ""جوهر"" وبصورة ""كنه الإنسان""، ولما الّهوه، وما ناضلوا ضده، - أساس فعلي لا يحول البتة دون فعله وتأثيره في تطور الناس واقع أن هؤلاء الفلاسفة قد عارضوه بوصفهم ""وعي الذات"" و""الوحيدين"". إن ظروف الحياة التي تجدها مختلف الأجيال قائمة تقرر كذلك ما إذا كانت الهزات الثورية التي تتكرر دورياً على امتداد التاريخ ستكون على ما يكفي من القوة أم لا، لكي تسقط أساس كل موجود؛ وإذا كانت لا تتوفر هذه العناصر المادية للانقلاب العام، ونعني بها، من جهة، قوى منتجة معينة، ومن جهة أخرى، نشوء وتكون جمهور ثوري لا يهب ضد بعض أوضاع المجتمع السابق وحسب، بل يهب كذلك ضد ""إنتاج الحياة"" السابق ذاته، ضد ""النشاط الإجمالي"" الذي يقوم عليه هذا الإنتاج، - إذا كانت لا تتوفر هذه العناصر المادية، فإن واقع الإعراب مئات المرات عن فكرة هذا الانقلاب لا يتسم، كما يبرهن تاريخ الشيوعية، بأية أهمية للتطور العملي.

(8- بطلان كل الفهم السابق، المثالي، للتاريخ، وبطلان الفلسفة الألمانية ما بعد هيغل على الأخص)
إن كل الفهم السابق للتاريخ، إما كان يتجاهل كلياً هذا الأساس الفعلي للتاريخ، وإما كان لا يرى فيه سوى عامل ثانوي لا يمت بأية صلة إلى العملية التاريخية. وبموجب مثل هذا الموقف، كان يتعين دائماً كتابة التاريخ على هدى أبعاد ما قائمة خارجاً عنه؛ فإن إنتاج الحياة الفعلي كان يبدو بصورة ما شيء ما سابق للتاريخ، وكان التاريخي يبدو بصورة شيء ما مفصول عن الحياة اليومية، شيء ما قائم خارج العالم وفوق العالم. وبذلك بالذات، كان يُستَبعد من التاريخ موقف الناس حيال الطبيعة، الأمر الذي ينشأ من جرائه تضاد بين الطبيعة والتاريخ. ولهذا لم يكن بوسع هذا المفهوم أن يرى في التاريخ سوى أفعال سياسية مدوية، وصراع ديني، نظري على العموم، وكان، في كل مرة مضطراً، عند وصف هذا العهد التاريخي أو ذاك، إلى مشاطرة أوهام هذا العهد. مثلاً، إذا كان عهد ما يتخيل أنه يتحدد ببواعث ""سياسية"" أو ""دينية"" خالصة – مع أن ""الدين"" و""السياسة"" ليسا غير شكلين لبواعثه الفعلية – فإن مؤرخه يتبنى هذا الرأي. إن ""تخيل""، ""تصور"" هؤلاء الناس المعينين لممارستهم الفعلية يتحولان إلى قوة وحيدة محددة وفعالة تسود على ممارسة هؤلاء الناس وتحددها. وإذا كان ذلك الشكل البدائي الذي يوجد به تقسيم العمل عند الهنود والمصريين يولد نظام الطبقات والمراتب المنغلقة في الدولة وفي الدين عند هذين الشعبين، فإن المؤرخ يتخيل أن هذا النظام هو تلك القوة التي ولدت هذا الشكل الاجتماعي البدائي.
وبينما الفرنسيون والإنجليز يتمسكون على الأقل بوهم سياسي هو الأقرب إلى الواقع، يدور الألمان ويلفون في مجال ""الروح الخالصة"" ويجعلون من الوهم الديني القوة المحركة للتاريخ. إن فلسفة التاريخ الهيغلية هي الثمرة الأخيرة التي بلغت ""أخلص تعبير"" عنها لكل علم التاريخ الألماني هذا الذي يرى أن المسألة كلها لا تقوم في المصالح الفعلية ولا حتى في المصالح السياسية، بل تقوم في الأفكار الخالصة. ثم إن فلسفة التاريخ هذه إنما تبدو كذلك بالضرورة للقديس برونو أيضاً بصورة جملة من ""أفكار"" تلتهم إحداها الأخرى وتزول في آخر المطاف في ""وعي الذات""*. ثم إن القديس ماكس شتيرنر أشد انسجاماً، إذ إنه لا يعرف قطعاً أي شيء عن التاريخ الواقعي وإذ إن العملية التاريخية لا تبدو له إلا بمثابة تاريخ ""الفرسان"" وقطاع الطرق والأشباح، بمثابة تاريخ لا يمكنه أن ينقذ نفسه من رؤياه، بالطبع، إلا بواسطة ""الإلحاد"". إن هذا المفهوم هو بالفعل ديني: فهو يفترض الإنسان الديني بوصفه الإنسان الأولي الذي ينطلق منه التاريخ كله، ويستعيض في خياله عن الإنتاج الفعلي لوسائل العيش وللحياة نفسها بإنتاج ديني للتخيلات.
إن كل هذا الفهم للتاريخ، مع انحلاله ومع الشكوك والتذبذبات النابعة من هنا، هو مجرد قضية قومية للألمان، ويتسم بأهمية محلية بالنسبة لألمانيا؛ فتلك هي، مثلاً، المسألة الهامة التي تناولها البحث مراراً في الآونة الأخيرة: كيف يمكن، في الحقيقة، ""الوصول من مملكة الرب إلى مملكة البشر""، كأن ""مملكة الرب"" هذه كانت موجودة يوماً ما في مكان ما، فيما عدا الخيال، وكأن فطاحل العلماء لم يعيشوا دوماً – دون أن يدركوا ذلك – في ""مملكة البشر"" التي يفتشون الآن عن طريق الوصول إليها، وكأن مهمة التسلية العلمية – لأن هذا لا يعدو أن يكون تسلية – التي تستهدف توضيح الطابع الغريب لهذا النشوء للممالك السماوية النظرية لا تنحصر، بالعكس، وعلى وجه الضبط، في تبيان نشوئها من العلاقات الأرضية الفعلية. إن هؤلاء الألمان يحرصون دائماً بوجه عام على تحويل هذيان ما قائم إلى هراء ما آخر، أي أنهم يفترضون أن لكل هذا الهذيان معنى ما خاصاً يجب تبيانه، في حين أن المسألة كلها تتلخص في توضيح هذه الجمل النظرية باشتقاقها من العلاقات الفعلية القائمة. إن القضاء الفعلي، العملي على هذا الجمل، وإزالة هذه التصورات من وعي الناس يتحقق، كما قيل أعلاه، بتغيير الظروف، وليس بالاستدلالات النظرية. ولا وجود لهذه التصورات النظرية بنظر السواد الأعظم من الناس أي بنظر البروليتاريا، ولذا لا داعي للقضاء عليها بالنسبة لهذا السواد الأعظم؛ وإذا كان عنده فيما مضى بعض التصورات النظرية، ومنها، مثلاً، الدين، فقد قضت عليها الظروف من زمان بعيد.
ثم إن الطابع القومي الصرف للمسائل المذكورة، ولحلولها، يتكشف كذلك في كون هؤلاء النظريين يعتقدون بكل جد أن مختلف التلفيقات من نوع ""الإنسان الرباني""، ""الإنسان – النوع"" وإلخ..، قد وجهت مختلف عهود التاريخ؛ بل إن القديس برونو يذهب إلى حد الزعم أن ""النقد والنقاد"" فقط ""قد صنعوا التاريخ"". وعندما يعكف هؤلاء النظريون أنفسهم على ابتداع الاختلاقات التاريخية، يتخطون الماضي كله بأعظم التسرع متنقلين فوراً من ""المغولية"" إلى التاريخ ""الغني المضمون"" فعلاً،، أي بالضبط إلى تاريخ “Hallische Jahrbucher” و “Deutsche Jahrbucher” وإلى تاريخ انحطاط المدرسة الهيغلية إلى عراك تام. فإن جميع الأمم على اختلافها وجميع الأحداث الفعلية يلفها النسيان، وtheatrum mundi* ينحصر ضمن حدود سوق الكتب في ليبزيغ والمهاترات المتبادلة بين ""النقد"" و""الإنسان – النوع"" و""الوحيد""*. أما إذا عكف نظريونا يوماً على المواضيع التاريخية فعلاً، ومنها مثلاً، تاريخ القرن الثامن عشر، فإنهم لا يعطون سوى تاريخ للتصورات مفصول عن الوقائع وعن العمليات الفعلية الواقعة في أساس هذه التصورات، ناهيك عن أنهم لا يعرضون هذا التاريخ إلا بهدف واحد، هو تصوير العهد المدروس بصورة درجة غير مكتملة، تمهيدية، بصورة سابقة لا تزال محدودة لعهد تاريخي حقاً، أي لعهد النضال الفلسفي الألماني في سنوات 1840- 1844. ووفقاً للهدف الذي ابتغوه – وهو كتابة تاريخ الماضي لكي يسلطوا نوراً ساطعاً جداً على مجد شخصية ما غير تاريخية وعلى غرائبها – لا ينبسون ببنت شفة عن الأحداث التاريخية فعلاً، وحتى عن حالات تدخل السياسة التاريخي الفعلي في مجرى التاريخ، وعوضاً عن هذا يعطون سرداً لا يرتكز على البحوث، بل يرتكز على الاختلاقات الاعتباطية والنمائم الأدبية، كما فعل القديس برونو في تاريخه المنسي الآن عن القرن الثامن عشر. إن تجار الأفكار المتحذلقين والمتبجحين هؤلاء، الذين يتخيلون أنهم يرتفعون إلى ما لا نهاية له فوق الأوهام القومية على اختلافها، هم في الواقع أكثر محدودية على الصعيد القومي من التافهين الضيقي الأفق من مشارب البيره الذين يحلمون بتوحيد ألمانيا. إنهم لا يعترفون بأن أعمال الشعوب الأخرى أعمال تاريخية. وهم يعيشون في ألمانيا وبألمانيا ولأجل ألمانيا. وهم يحولون الأغنية عن الراين إلى أغنية روحية ويستولون على الإلزاس واللورين، ناهبين الفلسفة الفرنسية وليس الدولة الفرنسية، مجرمنين الأفكار الفرنسية وليس الأقاليم الفرنسية. إن السيد فينيدي كوسموبوليتي بالمقارنة مع القديسين برونو وماكس اللذين يعلنان سيادة ألمانيا على العالم تحت راية سيادة النظرية على العالم.

(9- الانتقاد التكميلي لفورباخ، وفهمه المثالي للتاريخ)
من كل هذا التحليل يتبين كذلك إلى أي حد يخطئ فورباخ حين يعلن، بواسطة تعريف ""الإنسان الاجتماعي"" أنه شيوعي (“Wigand’s Vierteljahrsschrift”, 1845, v.2) محولاً هذا التعريف إلى مُسند ""للإنسان – النوع"" ومعتبراً، بالتالي، أنه يمكن من جديد تحويل كلمة ""الشيوعي"" إلى مقولة مجردة، تعني في العالم الموجود نصير حزب ثوري معين. إن كل استدلال فورباخ في مسألة علاقات الناس بعضهم ببعض لا يرمي إلا إلى تقديم البرهان على أن الناس يحتاجون وقد احتاجوا دوماً بعضهم إلى بعض. وهو يريد أن يوطد إدراك هذا الواقع، ويريد، بالتالي، مثله مثل سائر النظريين، أن يتوصل فقط إلى إدراك صحيح لواقع موجود ما، في حين أن مهمة الشيوعي الفعلي تتلخص في إطاحة هذا لموجود. بيد أننا نعترف كلياً بأن فورباخ، سعياً منه وراء ما يستطيع على العموم أن يمضي النظري، دون أن يكف عن أن يكون نظرياً وفيلسوفاً. ولكنه من واسع الدلالة أن القديسين برونو وماكس يضعان تصور فورباخ عن الشيوعي في مكان الشيوعي الفعلي، الأمر الذي يفعلانه لدرجة ما لكي يتمكنا من النضال ضد الشيوعية أيضاً كما ضد ""روح الروح""، وضد المقولة الفلسفية، وضد الخصم الند، ناهيك بأن القديس برونو يفعل ذلك بدافع مصالح عملية أيضاً.
وعلى سبيل المثال الذي يبين الاعتراف بالموجود ويبين في الوقت نفسه عدم فهم الموجود، - وهذا الاعتراف وعدم الفهم هذا يشاطرهما فورباخ مع أخصامنا، - لنعد إلى الأذهان ذلك المقطع في ""فلسفة المستقبل"" حيث يحاول أن يثبت أن وجود شيء ما أو إنسان ما هو في الوقت نفسه جوهره، وأن الظروف المعنية لوجود فرد حيواني ما أو إنساني ما، ونمط حياته، ونشاطه – إن كل هذا هو ما يوفر ""لجوهره"" شعور الارتياح. وكل استثناء يعتبر هنا قطعاً بمثابة حالة مشؤومة، بمثابة ظاهرة شاذة، لا يمكن تغييرها. وبالتالي، إذا كان ملايين البروليتاريين غير مرتاحين البتة من ظروف حياتهم، إذا كان ""وجود""هم لا يتطابق، حتى في أبعد درجة، مع ""جوهر""هم، - فإن هذا، وفقاً للمقطع المذكور، شؤم محتم يجب، كما يزعم، تحمله بهدوء. ولكن هؤلاء الملايين من البروليتاريين أو الشيوعيين يفكرون على نحو مغاير تماماً، وسيبرهنون هذا في حينه، حين يجعلون ""وجود""هم، عملياً عن طريق الثورة، متطابقاً مع ""جوهر""هم. ولهذا لا يتحدث فورباخ أبداً في مثل هذه الأحوال عن عالم الإنسان، بل يلوذ بالفرار إلى ميدان الطبيعة الخارجية، علماً بأنها طبيعة من نوع لم يخضع بعد لسيادة الناس. ولكن مع كل اختراع جديد، مع كل خطوة إلى الأمام تخطوها الصناعة، تنفصل عن هذا الميدان قطعة جديدة، وتتقلص أكثر فأكثر بالتالي تلك التربة التي تنشأ فيها الأمثلة لهذا النوع من الموضوعات الفورباخية. لنكتفِ بموضوعة واحدة: ""جوهر"" السمكة هو ""وجود""ها، الماء. ""جوهر"" السمكة النهرية هو ماء النهر، ولكن هذا الماء يكف عن أن يكون ""جوهر""ها، ويصبح بيئة غير صالحة لعيشها، ما أن يخضع هذا النهر للصناعة، ما أن يتلوث بمواد صابغة وغير ذلك من النفايات، ما أن تمخره البواخر، ما أن يوجهوا ماءه في قنوات يمكن فيها حرمان السمكة من البيئة الصالحة لعيشها، بمجرد الكف عن ضخ الماء إلى القنوات. وإن القول بأن جميع التناقضات من هذا النوع هي ظاهرة شاذة محتمة لا يختلف في حقيقة الأمر عن ذلك العزاء الذي يقدمه القديس ماكس شتيرنر إلى المستائين، إذ يقول لهم إن هذا التناقض هو تناقض خاص بهم، وإن هذا الوضع السيء هو وضع سيء خاص بهم، علماً بأن في وسعهم إما أن يسكنوا إلى ذلك، وإما أن يكتموا استياءهم، وإما أن يتمردوا بطريقة خيالية على هذا الوضع. وقلما يختلف مفهوم فورباخ هذا عن ملامة القديس برونو، الذي يزعم بأن هذه الأوضاع المشؤومة تنجم من واقع أن أولئك الذين حلت بهم المصيبة قد تورطوا في براز ""الجواهر""، ولم يصلوا إلى ""وعي الذات المطلق""، ولم يدركوا هذه العلاقات السيئة بوصفها روح روحه.

(III)
(1- الطبقة السائدة والوعي السائد. كيف تكوّن التصور الهيغلي عن سيادة الروح في التاريخ)
إن أفكار الطبقة السائدة هي في كل عهد الأفكار السائدة. وهذا يعني أن الطبقة التي تمثل قوة المجتمع المادية السائدة هي في الوقت نفسه قوته الروحية السائدة. إن الطبقة التي تتصرف بوسائل الإنتاج المادي تتصرف أيضاً بوسائل الإنتاج الروحي، ومن جراء ذلك تغدو أفكار أولئك الذين ليست لديهم وسائل لأجل الإنتاج الروحي خاضعة، على العموم، للطبقة السائدة. إن الأفكار السائدة لا تعدو أن تكون تعبيراً مثالياً عن العلاقات المادية السائدة، لا تعدو أن تكون العلاقات المادية السائدة معبراً عنها بصورة الأفكار؛ والمقصود، بالتالي، تعبير عن تلك العلاقات التي تجعل من هذه الطبقة وحدها طبقة سائدة؛ والمقصود، بالتالي، أفكار سيادتها. إن الأفراد الذين يشكلون الطبقة السائدة يملكون كذلك، فيما يملكون، الوعي، وبالتالي يفكرون؛ وبما أنهم يسودون كطبقة على وجه الضبط ويحددون العهد التاريخي المعني بكل أبعاده، فإنهم يفعلون ذلك، طبعاً، في جميع ميادينه، وهذا يعني أنهم يسودون كذلك بوصفهم مفكرين، بوصفهم منتجين للأفكار؛ وهم يضبطون إنتاج الأفكار وتوزيعها في زمنهم؛ وهذا يعني أن أفكارهم هي أفكار العهد السائد. مثلاً. في بلد تتنازع فيه السيادة في زمن معين السلطة الملكية، والأريستقراطية، والبرجوازية، والسيادة فيه، بالتالي، مقسمة، يكون مذهب تقسيم السلطة الفكرة السائدة ويُعلن ""قانوناً أبدياً"".
إن تقسيم العمل، الذي سبق أن وجدنا فيه (ص 15- 18)* إحدى القوى الرئيسية في التاريخ السابق، ينجلي الآن كذلك في بيئة الطبقة السائدة بصورة تقسيم للعمل الروحي والمادي، بحيث أن قسماً في داخل هذه الطبقة يبرز بصفة مفكري هذه الطبقة (والمقصود هنا أيديولوجيوها النشطاء، القادرون على التعميمات، والذين يجعلون من وضع أوهام هذه الطبقة عن نفسها المورد الرئيسي لرزقهم)، بينما ينظر الآخرون إلى هذه الأفكار والأوهام بمزيد من الجمود، ويتقبلونها بارتياح لأن ممثلي هذه الطبقة هم في الواقع أعضاؤها النشطاء، ويتوفر لهم أقل من الوقت لكي يبنوا لأنفسهم الأوهام والأفكار عن أنفسهم. وهذا الانشطار في داخل هذه الطبقة قد يتعاظم حتى يصل إلى بعض التضاد والعداء بين القسمين، ولكن هذا العداء يزول من تلقاء ذاته عند حدوث أي تصادم عملي، حين يتهدد الخطر الطبقة بالذات، حين يزول هذا المظهر الذي يبدو منه كأن الأفكار السائدة ليست أفكار الطبقة السائدة، وكأنها تملك سلطة تختلف عن سلطة هذه الطبقة. إن وجود الأفكار الثورية في عهد معين يفترض وجود طبقة ثورية قيل الضروري عن مقدماتها أعلاه (ص 18- 19، 22- 23).
ولكن عندما يعمدون لدى دراسة مجرى التاريخ، إلى فصل أفكار الطبقة السائدة عن الطبقة السائدة بالذات، عندما يضفون عليها مسحة الاستقلال، وعندما يكتفون بالزعم، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار، لا ظروف إنتاج هذه الأفكار ولا منتجيها، بأن هذه الأفكار وتلك كانت تسود في عهد ما، وعندما يغفلون كلياً، بالتالي، أساس هذه الأفكار – الأفراد والوضع التاريخي – فمن الممكن القول، مثلاً، إن مفاهيم ""الشرف"" و""الوفاء"" وإلخ، كانت تسود في مرحلة سيادة الأريستقراطية، وإن مفاهيم ""الحرية"" و""المساواة"" وإلخ، كانت تسود في مرحلة سيادة البرجوازية. وعلى العموم، تخلق الطبقة السائدة بالذات أوهاماً كهذه لنفسها. وهذا الفهم للتاريخ الملازم – ابتداء من القرن الثامن عشر بصورة رئيسية – لجميع المؤرخين يصطدم بالضرورة بالظاهرة التالية وهي أنه تصل إلى السيادة أفكار أكثر فأكثر تجريداً أي أفكار تتخذ أكثر فأكثر شكل العمومية. ذلك أن كل طبقة جديدة تضع لنفسها مكان الطبقة التي كانت سائدة قبلها، تضطر، لأجل بلوغ هدفها، إلى تصوير مصلحتها بصورة المصلحة العامة لجميع أعضاء المجتمع، أي إذا تكلمنا بلغة مجردة، تلبيس أفكارها شكل العمومية، وتصويرها بصورة الأفكار الوحيدة المعقولة، وذات الأهمية العامة. إن الطبقة التي تقوم بالثورة، تبرز منذ بادئ بدء – لمجرد أنها تقابل طبقة أخرى – لا كطبقة بل كممثلة للمجمع بأسره؛ وهي تظهر بصورة كتلة المجتمع كلها مقابل الطبقة السائدة الوحيدة*. ويجري هذا لأن مصلحتها لا تزال مرتبطة فعلاً في البدء، إلى هذا الحد أو ذاك، بالمصلحة المشتركة لجميع الطبقات الأخرى، غير السائدة، إذ إنه لم يتسنَّ بعد لها، تحت ضغط العلاقات القائمة حتى ذاك، أن تتطور وتصبح مصلحة متميزة لطبقة معينة. ولهذا ينفع انتصار هذه الطبقة أفراداً كثيرين من الطبقات الأخرى التي لم تصعد إلى سدة السيادة، ولكن فقط بقدر ما يضع هؤلاء الأفراد في وضع يتيح لهم الارتفاع إلى صف الطبقة السائدة. فعندما أسقطت البرجوازية الفرنسية سيادة الأريستقراطية، تكشفت أمام الكثيرين من البروليتاريين، من جراء ذلك، إمكانية الارتفاع فوق البروليتاريا، ولكن هذا لم يتحقق إلا بقدر ما تحولوا إلى برجوازيين. وهكذا يكون الأساس الذي تبني عليه كل طبقة جديدة سيادتها أوسع من الأساس الذي كانت تعتمد عليه الطبقة التي كانت سائدة قبلها؛ ولكن بمقابل هذا يتفاقم فيما بعد التضاد بين الطبقة غير السائدة والطبقة التي بلغت السيادة، هو أيضاً، بمزيد من الحدة والعمق. وهذان العاملان يؤديان إلى كون النضال الذي تضطر الطبقة غير السائدة إلى خوضه ضد الطبقة السائدة الجديدة يتجه بدوره إلى أفكار النظام الاجتماعي السابق بصورة أشد حزماً وأكثر جذرية مما كان من الممكن أن تنكره جميع الطبقات السابقة التي كانت تسعى وراء بلوغ السيادة.
وكل هذا المظهر الذي يبدو منه كأن سيادة طبقة معينة ليست سوى سيادة أفكار معروفة يزول بالطبع من تلقاء ذاته ما أن تكف سيادة الطبقات عن أن تكون على العموم شكل النظام الاجتماعي، وما أن تزول، بالتالي، ضرورة تصوير مصلحة متميزة بصورة المصلحة العامة أو المصلحة ""العامة"" بصورة المصلحة السائدة.
بعد أن كانت الأفكار السائدة مفصولة عن الأفراد السائدين، والرئيسي – عن العلاقات التي ولدتها الدرجة المعنية من أسلوب الإنتاج، وبعد أن استُنتج على هذا النحو أن الأفكار تسود دائماً في التاريخ – بعد هذا، يغدو من السهل جداً أن يجرد المرء من هذه الأفكار المختلفة ""الفكر بوجه عام""، الفكرة، وإلخ. كأنما هي الشيء الذي يسود في التاريخ، وأن يصور بالتالي جميع هذه الأفكار والمفاهيم بصورة ""تقرير"" المفهوم – النوع المتطور في التاريخ ""لمصيره بنفسه"". ومن الطبيعي تماماً في مثل هذه الحال أن يكون من الممكن استخلاص جميع العلاقات بين الناس من مفهوم الإنسان، من الإنسان المتخيل، من جوهر الإنسان، من ""الإنسان – النوع"". وهذا ما فعلته الفلسفة التأملية. ويعترف هيغل نفسه في نهاية ""فلسفة التاريخ"" بأنه ""درس حركة التقدم لمفهوم واحد فقط"" وصور في التاريخ ""الفلسفة الإلهية الحقيقية"" (ص446). وبعد هذا، تمكن العودة من جديد إلى منتجي ""المفهوم""، إلى النظريين والأيديولوجيين والفلاسفة، والاستنتاج أن الفلاسفة والمفكرين، بصفتهم هذه، قد سادوا منذ غابر الأزمان في التاريخ، - وهذا الاستنتاج سبق أن أعرب عنه هيغل، كما رأينا.
إذن، إن كل الحيلة التي يجري بواسطتها تقديم البرهان، بالاستناد إلى المادة التاريخية، على السيادة العليا للروح (التدريج عند شتيرنر) تتلخص في الأساليب الثلاثة التالية:
الرقم 1. إن أفكار الأفراد السائدين، - السائدين بحم أسباب تجريبية، وفي ظروف تجريبية، وبصفة أفراد ماديين، - إنما يجب فصلها عن هؤلاء الأفراد السائدين بالذات، والاعتراف بالتالي بسيادة الأفكار أو الأوهام في التاريخ.
الرقم 2. يجب إدخال نظام ما في سيادة الأفكار هذه، يجب تقديم البرهان على وجود صلة صوفية ما بين الأفكار السائدة المتتابعة الواحدة تلو الأخرى. ويتحقق ذلك بكونها تُعتبر ""تقريراً للمفهوم لمصيره بنفسه« (وهذا ممكن لأن هذه الأفكار مترابطة بالفعل بعضها ببعض بواسطة أساسها التجريبي، وكذلك لأنها، إذ تؤخذ بوصفها أفكاراً فقط، تصبح تمييزات ذاتية، فوارق يصنعها التفكير).
الرقم 3. ولإزالة المظهر الصوفي لهذا ""المفهوم الذي يقرر مصيره بنفسه""، يحولونه إلى شخص ما – ""وعي الذات"" – أو لكي يصور نفسه بصورة مادي قح، يحولون هذا المفهوم إلى جملة من أشخاص هم في التاريخ ممثلو ""المفهوم""، - إلى ""مفكرين""، ""فلاسفة""، وأيديولوجيين يعرِّفونهم بدورهم على أنهم صانعو التاريخ، و""مجلس حراس""، وسائدون*. وعن هذا السبيل، يزيلون من التاريخ جميع العناصر المادية؛ وبعد ذلك يستطيع المرء أن يطلق العنان باطمئنان لحصانه التأملي.
وهذه الطريقة التاريخية السائدة في ألمانيا، وكذلك سبب سيادتها في هذا البلد على الأغلب، إنما يجب تفسيرها انطلاقاً من صلة هذه الطريقة بأوهام الأيديولوجيين على العموم، - مثلاً، بأوهام الحقوقيين والساسة (بمن فيهم رجال الدولة العمليون)، - وانطلاقاً من أحلام هؤلاء الذوات العقائدية وتصوراتهم المشوهة. وهذه الأوهام والأحلام والتصورات المشوهة يفسرها ببالغ البساطة وضعهم الفعلي في الحياة ومهنهم والتقسيم القائم للعمل.
بينما يعرف أي shopkeeper* جيداً جداً كيف يفرق في الحياة اليومية بين المظهر الذي يتظاهر به هذا الإنسان أو ذاك، وبين ما هو عليه في الواقع، لم يتوصل بعد علم التاريخ عندنا إلى هذه المعرفة المبتذلة. فهو يصدق على كل عهد من كلامه، مهما قال هذا العهد أو تخيّل عن نفسه.

(IV)
(1-أدوات الإنتاج وأشكال الملكية)
….** من الأول، تنبع مقدمة التقسيم المتطور للعمل والتجارة الشاسعة، ومن الثاني تنبع المحدودية المحلية. وفي الحالة الأولى، يجب جمع الأفراد معاً، في الحالة الثانية، يكونون قد أصبحوا هم أنفسهم أدوات إنتاج إلى جانب أداة الإنتاج المتوفرة.
وهكذا يبرز الفرق هنا بين أدوات الإنتاج المنبثقة بصورة طبيعية وأدوات الإنتاج التي صنعتها الحضارة. ومن الممكن اعتبار الأرض المحروثة (والماء وإلخ) أداة إنتاج منبثقة بصورة طبيعية. في الحالة الأولى، أي في ظل أدوات الإنتاج المنبثقة بصورة طبيعية يخضع الأفراد للطبيعة؛ وفي الحالة الثانية، يخضعون لبعض نتاج العمل. ولهذا تظهر الملكية أيضاً في الحالة الأولى (ملكية الأرض) كسيادة مباشرة، منبثقة بصورة طبيعية، وفي الحالة الثانية، تظهر كسيادة للعمل، ولا سيما للعمل المتراكم، للرأسمال. الحالة الأولى تفترض أن الأفراد متحدون فيما بينهم بفضل علاقة ما – عائلية، أو قبلية، أو إقليمية على الأقل، وإلخ؛ الحالة الثانية تفترض أنهم مستقلون بعضهم عن بعض، ولا يترابطون فيما بينهم إلا بواسطة التبادل. في الحالة الأولى، يكون التبادل بصورة رئيسية، تبادلاً بين الإنسان والطبيعة؛ في الحالة الثانية يُبادل بموجبه عمل الإنسان بمنتوجات الطبيعة؛ في الحالة الثانية، يكون التبادل على الأغلب تبادلاً يقوم به الناس فيما بينهم. في الحالة الأولى، يكفي الفكر السليم العادي، ويكون النشاط الجسدي والنشاط الفكري غير منفصلين البتة بعد أحدهما عن الآخر؛ في الحالة الثانية، لا بد أن يتحقق عملياً التقسيم بين العمل الفكري والعمل الجسدي. في الحالة الأولى يمكن أن ترتكز سيادة المالك على غير المالكين على العلاقات الشخصية، على هذا النوع أو ذاك من الجماعة (Gemeinwesen)؛ في الحالة الثانية، لا بد أن تتخذ هذه السيادة شكلاً مادياً، متجلية في شيء ما ثالث، في النقود. في الحالة الأولى، توجد الصناعة الصغيرة، ولكنها تخضع لاستخدام أداة الإنتاج المنبثقة بصورة طبيعية، ولهذا ينعدم هنا توزيع العمل بين مختلف الأفراد؛ في الحالة الثانية، ترتكز الصناعة على تقسيم العمل ولا توجد إلا بفضله.
لقد انطلقنا حتى الآن من أدوات الإنتاج، فتبينت هنا ضرورة الملكية الخاصة في درجات معينة من التطور الصناعي. وفي industrie extractive* لا تزال الملكية الخاصة تتطابق كلياً مع العمل؛ والملكية في الصناعة الصغيرة وكذل في الزراعة حتى الآن في كل مكان هي عاقبة ضرورية لأدوات الإنتاج الموجودة. وفي الصناعة الكبيرة يبرز التناقض بين أداة الإنتاج والملكية الخاصة، للمرة الأولى، بوصفه نتاجاً خاصاً لهذه الصناعة لا بد لها، من أجل إنتاجه، أن تبلغ درجة عالية من التطور. وهكذا لا يصبح القضاء على الملكية الخاصة ممكناً إلا مع تطور الصناعة الكبيرة.

(2-تقسيم العمل المادي والروحي. انفصال المدينة عن الريف. نظام الطوائف الحرفية)
إن أكبر تقسيم للعمل المادي والروحي، إنما هو انفصال المدينة عن الريف. إن التضاد بين المدينة والريف يبدأ مع الانتقال من البربرية إلى الحضارة، من النظام القبلي إلى الدولة، من المحدودية المحلية إلى الأمة، ويتخلل كل تاريخ الحضارة بما فيه زمننا أيضاً (عصبة مكافحة قوانين الحبوب).
ومع المدينة تظهر ضرورة الإدارة والبوليس والضرائب وإلخ. أي باختصار، ضرورة النظام السياسي الجماعي (des Gemeindewesens) وبالتالي ضرورة السياسة على العموم. وهنا، تكشف للمرة الأولى انقسام السكان إلى طبقتين كبيرتين، وهو انقسام يعتمد مباشرة على تقسيم العمل وعلى أدوات الإنتاج. فإن المدينة تمثل واقع تركز السكان، وأدوات الإنتاج، والرأسمال، والملذات، والحاجات، بينما يلاحظ في الريف واقع مناقض تماماً – العزلة والتشتت. ولا يمكن للتضاد بين المدينة والريف أن يقوم إلا في إطار الملكية الخاصة. وهذا التضاد يعبر بأحَدِّ شكل عن خضوع الفرد لتقسيم العمل، ولنشاط معين مفروض عليه – وهو خضوع يحول أحدهم إلى حيوان مديني محدود، والآخر إلى حيوان ريفي محدود، ويولد يومياً ومن جديد التضاد بين مصالحهما. إن العمل هو الأهم هنا أيضاً، وهو تلك القوة التي تقف فوق الأفراد. وما دامت هذه القوة موجودة، فلا بد أن تظل الملكية الخاصة قائمة. إن القضاء على التضاد بين المدينة والريف هو شرط من الشروط الأولى للوحدة الاجتماعية، - شرط يتوقف بدوره على كثرة من المقدمات المادية، ولا يمكن تحقيقه، كما يتبين حتى من النظرة الأولى، بفعل الإرادة وحدها. (هذه الشروط يجب بحثها لاحقاً بالتفصيل). كذلك يمكن اعتبار انفصال المدينة عن الريف انفصالاً للرأسمال عن ملكية الأرض وبداية لوجود وتطور الرأسمال المستقلين عن ملكية الأرض، أي لوجود وتطور الملكية القائمة على العمل والتبادل فقط.
في المدن التي لم تتلقاها القرون الوسطى جاهزة من التاريخ الماضي، والتي بناها من جديد الأقنان المتحررون، - في هذه المدن كانت الملكية الوحيدة لكل فرد، - فيما عدا الرأسمال الصغير الذي حمله معه والذي كان يقتصر كلياً تقريباً على الأدوات الحرفية الضرورية أقصى الضرورة، - عبارة عن نوع خاص من العمل يقوم به الفرد المعني. إن مزاحمة الأقنان الفارين المتوافدين على الدوام إلى المدينة؛ وحرب الريف المتواصلة ضد المدن، وبالتالي إلى ضرورة تنظيم قوة حربية في المدن؛ وعرى الملكية المشتركة لاختصاص معين؛ والحاجة إلى المباني العامة لأجل بيع البضائع (فقد كان الحرفيون في ذلك الوقت تجاراً أيضاً) وما يرتبط بذلك من منع للدخلاء من دخول هذه المباني؛ والتضاد بين مصالح مختلف الحرف؛ وضرورة حماية الحرفة المكتسبة ببالغ الجهد؛ والتنظيم الإقطاعي للبلد كله – تلك كانت أسباب اتحاد العاملين في كل حرفة في طائفة حرفية. وليس لنا أن نتناول هنا بالتفصيل التغيرات العديدة التي طرأت على نظام الطوائف الحرفية والتي أثارتها آخر مراحل التطور التاريخي. فعلى امتداد القرون الوسطى كلها، استمر هرب الأقنان إلى المدن بلا انقطاع. وهؤلاء الأقنان الذين كان أسيادهم يضطهدونهم في القرى، كانوا يتوافدون منفردين إلى المدن، حيث كانوا يجدون جماعة منظمة كانوا حيالها عاجزين، وكانوا مضطرين في إطارها إلى الركون لوضعهم الذي كانت تحدده الحاجة إلى عملهم ومصالح مزاحميهم المدينيين المنظمين. وهؤلاء العاملين الذين كانوا يتوافدون منفردين إلى المدينة لم يستطيعوا يوماً أن يصبحوا قوة، لأن معلمي الطوائف الحرفية كانوا يخضعونهم لأنفسهم وينظمونهم وفق مصالحهم الخاصة، عندما كان عمل هؤلاء العالمين يتسم بطابع حرفي ويقتضي التعليم؛ أما إذا كان هذا العمل لا يقتضي التعليم، ولم يكن يتسم بالتالي بطابع حرفي، بل بطابع المياومة، فلم يكن بوسع العالمين أن ينتظموا، وكانوا يبقون دائماً عاميين غير منظمين. إن حاجة المدن إلى المياومة قد خلقت العامة.
كانت هذه المدن ""اتحادات"" حقيقية ولدتها الحاجات المباشرة، والحرص على حماية الملكية، والسعي إلى إكثار وسائل الإنتاج ووسائل الدفاع المتوفرة عند مختلف الأعضاء. وفي هذه المدن كان العامة عاجزين كلياً لأنهم كانوا أفراداً غرباء بعضهم عن بعض، وتوافدوا إلى المدن منفردين، وكانوا يواجهون بصورة غير منظمة قوة منظمة، مجهزة حربياً، وتراقبهم بحمية وهمة. و كان الصنّاع والممهنون منظمين في كل حرفة لأن هذا كان يتفق على خير وجه مع مصالح المعلمين؛ وكانت العلاقات البطريركية بينهم وبين المعلمين تمنح هؤلاء الأخيرين قوة مزدوجة: أولاً، كان المعلومن يؤثرون مباشرة في كل حياة الصناع، وثانياً، كان عمل الصناع عند المعلم نفسه الصلة الفعلية التي توحدهم ضد صناع المعلمين الآخرين وتعزلهم عنهم. وأخيراً، كان الصناع مقيدين بالنظام القائم بحكم مصلحتهم في أن يصبحوا هم أنفسهم معلمين. ولهذا إذا كان العامة يقومون أحياناً بالفتن ضد كل هذا النظام المديني، - علماً بأن هذه الفتن لم تكن تسفر عن أية نتيجة بسبب من عجز هؤلاء العامة، - فإن الصناع لم يكونوا يمضون إلى أبعد من المصادمات الصغيرة في إطار الحرفة بمفردها، وكانت هذه المصادمات مرتبطة بعرى لا انفصام لها بوجود نظام الطوائف الحفية بالذات. إن جميع الانتفاضات الكبيرة في القرون الوسطى كانت تنطلق من الريف، ولكنها هي أيضاً كانت لا تسفر عن أية نتيجة نظراً لتشتت الفلاحين والتخلف الأقصى المقترن به.
وكان الرأسمال في هذه المدن رأسمالاً يتكون بصورة طبيعية، وكان يتلخص في المسكن، والأدوات الحرفية، ومجموعة الزبائن المتكونة بصورة طبيعية والمتوارثة؛ ومن جراء المعاشرة غير المتطورة ومن جراء التداول غير الكافي، كان الرأسمال محروماً من إمكانيات التوظيف وكان بالتالي ينتقل بالإرث من الوالد إلى الابن. وهذا الرأسمال، على نقيض الرأسمال الحالي، لم يكن يُقدر بالنقود، - وفي الحالة الأخيرة لا شأن للأشياء التي يتشكل منها، - بل كان مرتبطاً مباشرة بعمل معين تماماً يقوم به المالك، وغير منفصل إطلاقاً عن هذا النوع من العمل، وكان بهذا المعنى رأسمالاً مراتبياً-.
إن تقسيم العمل في المدن بين مختلف الطوائف الحرفية كان لا يزال (بدائياً تماماً)*، ولم يكن يجري البتة في داخل الطوائف ذاتها بين مختلف العالمين. فقد كان يتعين على كل العاملين أن يعرف جملة كبيرة من الأعمال، كان يتعين عليه أن يعرف كيف يعمل كل ما يمكن فعله بواسطة أدواته؛ وكانت محدودية المعاشرة والصلة الضعيفة بين مختلف المدن، وقلة عدد السكان، ومحدودية الحاجات تحول دون مواصلة تقسيم العمل، ولهذا كان كل من يريد أن يصبح معلماً ملزماً بأن يملك حرفته بكل أبعادها. ولهذا كان لا يزال لحرفيي القرون الوسطى مصلحة في عملهم المختص وفي أدائه بمهارة، مصلحة كان من الممكن أن ترتفع إلى مستوى ذوق فني محدود نوعاً ما. ولكن كل حرفي قروسطي كان، بحكم هذا السبب نفسه، غارقاً كلياً في عمله، وكان ينظر إليه نظرة الوفاء العبودي وكان يخضع له أكثر بكثير مما يخضع العامل المعاصر الذي ينظر بلامبالاة إلى عمله.

(3-مواصلة تقسيم العمل. انفصال التجارة عن الصناعة. تقسيم العمل بين مختلف المدن. المانيفاكتورة)
إن عملية التوسيع التالية التي طرأت على تقسيم العمل قد تلخصت في انفصال التجارة عن الإنتاج، في نشوء طبقة متميزة هي طبقة التجار، - هذا الانفصال الذي بقي إرثاً في المدن المتبقية من الماضي التاريخي (والمقصود بها المدن ذات السكان اليهود) والذي ظهر بعد حقبة قصيرة جداً في المدن الناشئة حديثاً. وبذلك نشأت إمكانية العلاقة التجارية التي تخطت حدود أقرب دائرة – وهذه الإمكانية كان تحقيقها رهناً بوسائل الاتصال المتوافرة، وبحالة الأمن العام، المشروط بالعلاقات السياسية، على الطرق (ومعلوم أن التجار كانوا يتنقلون على امتداد القرون الوسطى كلها بصورة قوافل مسلحة)، وبتطور حاجة المنطقة التي انتشرت فيها التجارة تطوراً متفاوت الدرجات ومشروطاً بمستوى الثقافة المناسب.
ومع تركز التجارة في يد طبقة متميزة، ومع التوسع الذي طرأ – بفضل التجار – على التجارة، التي تخطت حدود أقرب ضواحي المدينة، ينبثق في الحال التعاون بين الإنتاج والتجارة. وتدخل المدن في علاقات بعضها مع بعض، ومن مدينة إلى أخرى ينقلون أدوات جديدة للعمل؛ وسرعان ما يؤدي الانقسام بين الإنتاج والتجارة إلى تقسيم جديد للإنتاج بين مدن مختلفة سرعان ما يبدأ يهيمن في كل منها فرع متميز ما من فروع الصناعة. وشيئاً فشيئاً تأخذ في الزوال المحدودية المحلية الأولية.
وعلى توسيع التجارة وحده، يتوقف ما إذا كانت القوى المنتجة المخلوقة في هذه المحلة أو تلك، ولا سيما الاختراعات، ستضيع – أم لا – لأجل التطور اللاحق. وطالما كانت التجارة تقتصر على الجوار المباشر، كان يتعين صنع كل اختراع من جديد في كل محلة بمفردها. كانت الصدف البسيطة، من نوع غزوات الشعوب البربرية أو حتى الحروب العادية، تكفي لدفع بلد ما ذي قوى منتجة متطورة وحاجات متطورة إلى حد ضرورة بدء كل شيء من جديد. وفي الدرجات الأولى من التطور التاريخي، كان يتعين صنع كل اختراع من جديد في كل يوم وفي كل محلة بصورة مستقلة عن المحلات الأخرى. إن مثال الفينيقيين* الذين ضاعت أغلبية اختراعاتهم زمناً طويلاً من جراء إقصاء هذه الأمة من التجارة، وفتوحات الإسكندر الكبير، والانحطاط الناجم عن ذلك، يبين إلى أي حد كانت ضمانة القوى المنتجة المتطورة دون الهلاك التام ضئيلة، حتى في ظل تجارة شاسعة جداً نسبياً. وإليكم مثالاً آخر: مصير الرسم القروسطي على الزجاج. إن الحفاظ على القوى المنتجة المخلوقة لا يتأمن إلا حين تكتسب التجارة طابعاً عالمياً وترتكز على الصناعة الكبيرة، وحين تنجذب جميع الأمم إلى صراع المزاحمة.
إن ظهور الميانيفاكتورات، وفروع الإنتاج التي تجاوزت إطار نظام الطوائف الحرفية كان العاقبة المباشرة لتقسيم العمل بين مختلف المدن. وكانت التجارة مع الأمم الأجنبية المقدمة التاريخية لازدهرا المانيفاكتورات الأول – في إيطاليا، وفيما بعد في فلاندرا. وفي بلدان أخرى- مثلاً، في إنجلترا وفرنسا – كانت المانيفاكتورات تنحصر بادئ ذي بدء ضمن السوق الداخلية. وعلاوة على المقدمات المذكورة، كان ظهور المانيفاكتورات مشروطاً كذلك باشتداد تمركز السكان، ولا سيما منهم السكان الريفيون، والرأسمال الذي شرع يتراكم في بعض الأيدي – جزئياً في الطوائف الحرفية خلافاً للقوانين الحرفية، وجزئياً عند التجار.
إن ذلك النوع من العمل الذي ارتبط منذ البدء بالآلة، رغم كل بدائيتها، سرعان ما أظهر أعظم القدرة على التطور. فإن الحياكة التي يتعاطاها الفلاحون في القرى علاوة على عملهم الأساسي لكي يهيئوا لأنفسهم الألبسة الضرورية، كانت أول نوع من العمل تلقى، بفضل توسيع التجارة، دفعاً لأجل التطور لاحقاً. وكانت الحياكة أولى المانيفاكتورات وبقيت الألبسة بينها. إن الطلب على الأقمشة لأجل الألبسة، المتعاظم مع نمو السكان، وتكديس الرأسمال وتعبئة الرأسمال المتكون بصورة طبيعية اللذين بدآ بفضل التداول المتسارع؛ والحاجة إلى سلع البذخ التي خلقتها وشجعتها على العموم هذه التجارة المتسعة على الدوام، - كل هذا بث دفعة في تطور الحياكة كماً وكيفاً، وانتزعها من إطار شكل الإنتاج السابق. وفضلاً عن الفلاحين الذين كانوا يحيكون لتلبية حاجاتهم الشخصية والذين واصلوا – ولا يزالون الآن يواصلون – القيام بذلك، نشأت في المدن طبقة جديدة من الحاكة كانت أقمشتهم معدة لأجل السوق الداخلية كلها، وكذلك بعظمها لأجل الأسواق الخارجية.
إن الحياكة – وهي نوع من العمل لا يتطلب في أغلبية الأحوال فناً كبيراً، وسرعان ما ينقسم إلى فروع كثيرة لا عدّ لها – كانت بحكم كل طبيعتها الداخلية، تعارض القيود الحرفية، ولهذا كانوا يتعاطون الحياكة في أغلبية الأحوال خارج إطار التنظيم الحرفي، في القرى والمحلات التي كانت تصبح تدريجياً مدناً، بل بعد حقبة قصيرة، أكثر المدن ازدهاراً في كل بلد.
ومع ظهور المانيفاكتورة الحرة من القيود الحرفية، تغيرت في الحال علاقات الملكية. وإن أول خطوة إلى الأمام من الرأسمال المراتبي المتكون بصورة طبيعية قد اشترطها ظهور التجار الذين كان رأسمالهم منذ بادئ بدء مالاً منقولاً، وكان رأسمالاً بمعنى الكلمة المعاصر – بذلك القدر الذي يمكن التحدث به عن ذلك فيما يخص العلاقات في ذلك الزمن. وكان ظهور المانيفاكتورة الخطوة الثانية إلى الأمام، وقد عبأت المانيفاكتورة بدورها مقداراً كبيراً من الرأسمال المتكون بصورة طبيعية وزادت على العموم مقدار الرأسمال المنقول بالقياس إلى مقدار الرأسمال المتكون بصورة طبيعية.
وفي الوقت نفسه أصبحت المانيفاكتورة ملجأ لأجل الفلاحين الذين لم تكن تقبلهم الطوائف الحرفية أو كانت تدفع لهم أجوراً زهيدة جداً، مثلما كانت المدن الحرفية من قبل ملجأ للفلاحين من (النبلاء الذين كانوا يضطهدونهم)*.
ومع ظهور المانيفاكتورة، بدأت في الوقت نفسه مرحلة التشرد الناجم عن إلغاء العصب الإقطاعية، وتسريح الجيوش المؤلفة من الأوباش والسفلة والتي تخدم الملوك ضد أتباعهم، وعن تحسن الزراعة، وتحويل رقع شاسعة من الأراضي المحروثة إلى مراعٍ. ومن هنا يتضح أن هذا التشرد كان وثيق الارتباط بانحلال الإقطاعية. ففي القرن الثالث عشر كانت ثمة ظاهرة عامة يحدث فيها مثل هذا التشرد، ولكنه لم يصبح ظاهرة عامة مديدة إلا في أواخر القرن الخامس عشر وفي أوائل القرن السادس عشر. وهؤلاء المتشردون الذين كانوا على درجة من الكثرة بحيث أن الملك الإنجليزي هنري الثامن وحده أمر بشنق 72000 منهم لم يكن من الممكن إجبارهم على العمل إلا بخارق الجهد والصعوبة، بعد أن دفعوا إلى درك العوز، ناهيك بأنه كان لا بد أيضاً من تذليل مقاومتهم الفائقة العناد. إلا أن المانيفاكتورات التي ازدهرت بسرعة وخاصة في إنجلترا، ابتعلتهم تدريجياً.
ومع ظهور المانيفاكتورة تشرع مختلف الأمم في مزاحمة بعضها بعضاً، وتدخل في صراع تجاري تخوضه بواسطة الحروب والرسوم الحمائية وأنظمة المنع، في حين أن الشعوب كانت تعمد من قبل إلى التبادل السلمي عندما كانت تقيم علاقات فيما بينها. ومن الآن وصاعداً تكتسب التجارة أهمية سياسية.
ومع ظهور المانيفاكتورة يتغير موقف العامل من رب العامل. ففي الطوائف الحرفية، كانت تقوم علاقات بطريركية بين الصناع والمعلم؛ أما في المانيفاكتورة، فقد حلت محلها العلاقات النقدية بين العمال والرأسمالي؛ ولئن كانت هذه العلاقات ظلت تتسم بمسحة بطريركية في القرى وفي المدن الصغيرة، فلم يبقَ أي أثر تقريباً لهذه المسحة في المدن الكبيرة، المانيفاكتورية حقاً، حتى في المرحلة الباكرة.
إن المانيفاكتورة وكل تطور الإنتاج على العموم، قد بلغا مستوى رفيعاً جداً بفضل توسيع التجارة الذي استتبعه اكتشاف أمريكا والطريق البحري إلى الهند الشرقية. فإن المنتوجات الجديدة، المستوردة من هناك، ولا سيما كميات الذهب والفضة التي وضعت قيد التداول والتي غيرت العلاقات المتبادلة بين الطبقات بصورة جذرية وسددت ضربة قاسية إلى الملكية العقارية الإقطاعية وإلى الشغيلة، والحملات المغامرة، والاستعمار، وقبل كل شيء توسيع الأسواق الذي أصبح الآن ممكناً والذي أخذ يجري يوماً بعد يوم على نطاق أكبر إلى حد نشوء سوق عالمية – كل هذا أدى إلى ظهور مرحلة جديدة، من التطور التاريخي ليس لنا ما يدعونا إلى تناولها هنا بمزيد من التفصيل لأجل إعطاء وصف عام عنها. وبنتيجة استعمار الأراضي المكتشفة حديثاً، حصل الصراع التجاري بين الأمم على غذاء جديد، وبالتالي على إبعاد أوسع وطابع أضرى.
وقد عجل توسيع التجارة والمانيفاكتورة تراكم الرأسمال المنقول، بينما الرأسمال المتكون بصورة طبيعية في الطوائف الحرفية التي لم تتلق أي حافز لتوسيع الإنتاج ظل كما كان، أو حتى قلّ. وقد خلقت التجارة والمانيفاكتورة البرجوازية الكبيرة، أما في الطوائف الحرفية فقد تركزت البرجوازية الصغيرة التي لم تبق الآن سائدة في المدن، على نقيض ما كان من قبل، والتي اضطرت إلى الرضوخ لسيادة التجار الكبار وأصحاب المانيفاكتورات*. ومن هنا انحطاط الطوائف الحرفية ما أن تماست مع المانيفاكتورة.
في العهد الذي نحن بصدده، تتخذ العلاقات المتكونة بين الأمم في معاشرة بعضها لبعض، شكلين مختلفين. في البدء آلت المقادير التافهة من تلك الكمية من الذهب والفضة الموجودة قيد التداول، إلى منع تصدير هذين المعدنين؛ ومن جهة أخرى، لم تستطع الصناعة التي أصبحت ضرورية لأجل توفير العمل لسكان المدن المتنامي عددهم، والمستوردة بمعظمها من الخارج، أن تستغني عن الامتيازات التي كان من الممكن، بالطبع، توجيهها، لا ضد المزاحمة الداخلية وحسب بل أيضاً وبصورة رئيسية ضد المزاحمة الخارجية. وبواسطة هذه الموانع الأولية، شملت الامتيازات الحرفية المحلية الأمة كلها. وانبثقت الرسوم من الجزيات التي كان يجيبها الإقطاعيون من التجار الذين يجتازون ممتلكاتهم والذين كانوا يفتدون أنفسهم على هذا النحو من النهب والسلب، - وهذه الجزيات أخذت تجبيها المدن كذل فيما بعد، وصارت بالنسبة للخزينة، بعد ظهور الدول العصرية، أنسب وسيلة لتحصيل النقود.
إن ظهور الذهب الأمريكي والفضة الأمريكية في الأسواق الأوروبية، وتطور الصناعة بصورة تدريجية، ونهوض التجارة السريع، وازدهار البرجوازية غير المتعلقة بالطوائف الحرفية وانتشار النقود اللذين استتبعهما هذا النهوض – كل هذا أضفى على الإجراءات المذكورة شأناً آخر. فإن الدولة التي كانت تحتاج يوماً بعد يوم إلى المزيد والمزيد من النقود قد حافظت الآن أيضاً، بدافع الاعتبارات المالية، على منع تصدير الذهب والفضة. وقد ارتاح البرجوازيون كل الارتياح لذلك، إذ إن كميات النقود هذه المنزلة للتو إلى السوق، أصبحت موضع المضاربة الرئيسي؛ وأصبحت الامتيازات السابقة مصدراً للدخل لأجل الحكومة وأخذت تباع لقاء النقود؛ وظهرت في القوانين الجمركية رسوم التصدير التي لم تفعل غير أن كبحت تطور الصناعة والتي ابتغت أهدافاً مالية محضة.
المرحلة الثانية حلت منذ أواسط القرن السابع عشر ودامت تقريباً حتى أواخر القرن الثامن عشر. وقد اتسعت التجارة بأسرع مما اتسعت المانيفاكتورة التي كانت تضطلع بدور ثانوي؛ وطفقت المستعمرات تكتسب أهمية كبار المستهلكين؛ وكانت بعض الأمم تتقاسم في معارك مديدة السوق العالمية بسبيل الانفتاح. وتبدأ هذه المرحلة بقوانين الملاحة وبالاحتكارات الاستعمارية. وأقصيت المنافسة بين الأمم، قدر الإمكان، عن طريق التعريفات والموانع والمعاهدات؛ أما في آخر المطاف فإن الصراع بين المتنافسين كان يجري ويتقرر بواسطة الحروب (ولا سيما منها الحروب البحرية). وأحرزت الدولة البحرية الأقوى، إنجلترا، التفوق في التجارة والمانيفاكتورة. وهنا يظهر تمركزهما في بلد واحد.
كانت المانيفاكتورة تحمي نفسها على الدوام بجميع الوسائل – بالرسوم الحمائية في السوق الداخلية، وبالاحتكارات في السوق الاستعمارية، وبالرسوم التمييزية في السوق الخارجية. وكانت معالجة الخامات المنتوجة في البلد المعني (الصوف والكتان في إنجلترا، الحرير في فرنسا) تلقى التشجيع، وكان تصدير الخامات المنتوجة في البلد إلى الخارج ممنوعاً (الصوف في إنجلترا)، وكان تصدير الخامات المستوردة يلقى الإهمال أو حتى يمنع كلياً (القطن في إنجلترا). وقد كانت الأمة التي تسود في التجارة البحرية وتملك الجبروت الاستعماري الأكبر تؤمن لنفسها، بالطبع، أعلى درجة في تطور المانيفاكتورة، سواء على الصعيد الكمي أم الكيفي. ولم يكن بوسع المانيفاكتورة أن تستغني أبداً عن الحماية، لأن أقل التغيرات في البلدان الأخرى كانت كافية لحرمان المانيفاكتورة من سوقها ولحلول الخراب بها؛ وإذا ما توفرت ظروف ملائمة نوعاً ما، كان من السهل تأسيسها في هذا البلد أو ذاك، ولهذا السبب بالذات كان من السهل تدميرها أيضاً. وإلى جانب هذا، وبفضل الطرائق التي كانت تدار بها المانيفاكتورة، وخاصة في سياق القرن الثامن عشر في الريف، التحمت المانيفاكتورة مع نمط حياة جمهور لجب من الناس إلى حد أنه ما من بلد تجرأ على أن يتهدد وجود المانيفاكتورة عن طريق السماح بالمزاحمة الحرة. ولهذا كانت المانيفاكتورة، بقدر ما كانت تفلح في تصدير منتوجاتها، تتوقف كلياً على توسيع التجارة أو على الحد منها، ممارسة من جانبها تأثيراً معاكساً في التجارة، تافهاً نسبياً. ومن هنا أهميتها الثانوية، وكذلك نفوذ التجار في القرن الثامن عشر. فإن التجار بالذات، ولا سيما أصحاب السفن، هم الذين ألحوا أكثر من الجميع على حماية الدولة من الاحتكارات؛ صحيح أن أصحاب المانيفاكتورات طالبوا هم أيضاً – وأحرزوا – بالحماية، ولكنهم كانوا دائماً يتراجعون أمام التجار من حيث الأهمية السياسية. وقد توصلت المدن التجارية، ولا سيما منها المدن البحرية، إلى مستوى معين من التمدن واكتسبت طابع البرجوازية الكبيرة، في حين ظل العنصر البرجوازي الصغير يسود في المدن الصناعية. قارنوا ايكين وإلخ. لقد كان القرن الثامن عشر قرن التجارة. وعن هذا يتحدث بينتو بكل وضوح: »التجارة إنما هي هواية قرننا«؛ وأيضاً: »منذ بعض الوقت، لا يتحدثون إلا عن التجارة والملاحة والأسطول«.
صحيح أن حركة الرأسمال تسارعت كثيراً، ولكنها ظلت مع ذلك بطيئة نسبياً. إن تجزؤ السوق العالمية إلى أجزاء متميزة، كل منها تستثمره أمة متميزة، وإزالة المنافسة بين الأمم، وتثاقل الإنتاج نفسه، وعدم تطور النظام النقدي، الذي كان لا يزال يمر بأولى درجات التطور وحسب – كل هذا كان يعرقل التداول عرقلة شديدة. وكانت عاقبة ذلك، الروح التجارية الحقيرة، القذرة، الملازمة آنذاك لجميع التجار وجميع طرائق التجارة. وبالمقارنة مع أصحاب المانيفاكتورات، وبالأحرى مع الحرفيين، كانوا بالطبع، بورغرات* كباراً – برجوازيين، ولكنهم ظلوا بورغرات صغاراً بالمقارنة مع التجار والصناعيين في المرحلة التالية. قارنوا أ. سميث.
كذلك تتصف هذه المرحلة بإلغاء الموانع على تصدير الذهب والفضة، ونشوء تجارة النقود، ونشوء المصارف، وديون الدولة، والنقود الورقية، وظهور المضاربة بالأسهم وسندات الدولة، ونشوء لعبة البورصة التي تشمل جميع السلع؛ وتتصف هذه المرحلة بتطور النظام النقدي على العموم. ومن جديد فقد الرأسمال قسماً كبيراً من طابعه الطبيعي الأولي الذي كان لا يزال ملازماً له بدرجة ما.

(4-أوسع تقسيم للعمل. الصناعة الكبيرة)
إن تمركز التجارة والمانيفاكتورة الذي تطور بلا كابح في القرن السابع عشر في بلد واحد، هو إنجلترا، قد خلق شيئاً فشيئاً لأجل هذا البلد سوقاً عالمية نسبية، وخلق بالتالي طلباً على منتوجاته المانيفاكتورية لم يعد من الممكن تلبيته بواسطة القوى المنتجة الصناعية السابقة. وهذا الطلب الذي كان يتفوق على القوى المنتجة هو الذي كان تلك القوة المحركة التي استتبعت المرحلة الثالثة منذ زمن القرون الوسطى في تطور الملكية الخاصة، مولداً الصناعة الكبيرة – استخدام قوى الطبيعة لأجل الأهداف الصناعية، والإنتاج الآلي، وأوسع تقسيم للعمل. إن سائر ظروف هذا الطور الجديد – حرية المزاحمة ضمن حدود البلد، إنشاء الميكانيك النظري (الميكانيك الذي بلغ ذروته في أعمال نيوتن كان على العموم في القرن الثامن عشر أوسع العلوم شعبية في فرنسا وإنجلترا) وإلخ. – كانت موجودة في إنجلترا. (لقد تعين الظفر في كل مكان بحرية المزاحمة في داخل البلد بواسطة الثورة – عام 1640 وعام 1688 في إنجلترا، عام 1789 في فرنسا).
ولكن سرعان ما أجبرت المزاحمة كل بلد لا يرغب في فقدان دوره التاريخي على اللجوء، لأجل حماية مانيفاكتوراته، إلى إجراء جمركية جديدة (فإن الرسوم السابقة لم تعد تصلح للنضال ضد الصناعة الكبيرة)، وإلى القيام، إثر ذلك، بإدخال الصناعة الكبيرة بحماية الرسوم الحمائية. ورغم هذه الإجراءات الحمائية، جعلت الصناعة الكبيرة المزاحمة شاملة (وهي تعني الحرية العملية للتجارة، والرسوم الحمائية ليست فيها سوى تدبير جزئي، سوى سلاح دفاعي ضمن حدود حرية التجارة). وأنشأت وسائل الاتصال والسوق العالمية المعاصرة، وأخضعت لنفسها التجارة، وحولت كل الرأسمال إلى رأسمال صناعي، وخلقت بذلك تداولاً سريعاً (نظاماً نقدياً متطوراً) وتمركزاً للرساميل. وبفضل المزاحمة الشاملة، وضعت جميع الأفراد أمام ضرورة توتير همتهم كلها إلى أقصى حد. وقضت، حيث استطاعت، على الأيديولوجية والدين والأخلاق، وإلخ.. وحيث لم تستطع تحقيق ذلك، حولتها إلى كذب بيّن. وأنشأت للمرة الأولى في التاريخ العالمي لأنها جعلت تلبية حاجات كل بلد متحضر وكل فرد فيه رهناً بالعالم كله، ولأنها قضت على انعزال مختلف البلدان السابق، المتكون بصورة طبيعية. وأخضعت العلوم الطبيعية للرأسمال وحرمت تقسيم العمل من آخر آثار طابعه الطبيعي. وقضت بوجه عام على جميع العلاقات المتكونة بصورة طبيعية – بقدر ما يمكن ذلك في إطار العمل – وحولتها إلى علاقات نقدية. وعوضاً عن المدن السابقة المتكونة بصورة طبيعية، أنشأت مدناً صناعية كبيرة عصرية ودمرت عموماً جميع الدرجات السابقة في الصناعة. وأنجزت نصر المدينة التجارية على الريف. والنظام الأوتوماتيكي هو (علامتها المميزة)*. و(تطورها) خلق وفرة من القوى المنتجة أصبحت الملكية الخاصة قيداً بالنسبة لها، مثلما كان نظام الطوائف الحرفية قيداً بالنسبة للمانيفاكتورة، والصناعة الريفية الصغيرة بالنسبة للحرفة المتنامية. وفي ظل سيادة الملكية الخاصة، تتطور هذه القوى المنتجة تطوراً وحيد الجانب فقط، وتصبح بالنسبة لأغلبية الناس قوى مدمرة، كما أن كثرة من هذه القوى المنتجة لا تستطيع البتة أن تجد لنفسها مجالاً للاستعمال في ظل الملكية الخاصة. وأنشأت الصناعة الكبيرة في كل مكان، وعلى العموم، علاقات واحدة، متماثلة، بين طبقات المجتمع، وقضت بالتالي على خصائص مختلف القوميات. وأخيراً، بينما لا تزال برجوازية كل أمة تحتفظ بمصالحها القومية المتميزة، أنشأت الصناعة الكبيرة طبقة تلازمها في جميع الأمم المصالح ذاتها، وأزيلت عزلتها القومية، - طبقة انفصلت فعلاً عن كل العالم القديم، وتعارضه مع ذلك. إن الصناعة الكبيرة لا تجعل من علاقة العامل بالرأسمالي وحسب، بل أيضاً من العمل نفسه، أمراً لا يطاق بالنسبة للعامل.
وغني عن البيان أن ليس في جميع أنحاء البلد المعني تبلغ الصناعة الكبيرة مستوى واحداً من التطور. ولكن هذا لا يوقف حركة البروليتاريا الطبقية: فإن تلك الشريحة من البروليتاريين التي ولدتها الصناعة الكبيرة تسير في رأس هذه الحركة، وتجتذب وراءها الجمهور الباقي كله، في حين أن العمال غير المنجذبين إلى الصناعة الكبيرة يعانون، بذنب من هذه الصناعة الكبيرة، وضعاً حياتياً أسوأ من الوضع الذي يعانيه العمال العاملون في هذه الصناعة الكبيرة ذاتها. ثم إن البلدان التي تطورت فيها الصناعة الكبيرة تؤثر هكذا بالضبط في البلدان غير الصناعية plus ou moins* لأن هذه الأخيرة تنجذب بفضل التجارة العالمية إلى صراع المزاحمة العام.
***
هذه الأشكال المختلفة (للإنتاج) هي كذلك أشكال لتنظيم العمل، وبالتالي أشكال للملكية. وفي كل مرحلة، جرى هذا التوحيد أو ذاك للقوى المنتجة الموجودة، لأن الحاجات جعلت هذا التوحيد ضرورياً.

(5-التناقض بين القوى المنتجة وشكل المعاشرة بوصفه أساس الثورة الاجتماعية)
إن التناقض بين القوى المنتجة وشكل المعاشرة، الذي ظهر غير مرة، كما رأينا، في التاريخ السابق، ولكن الذي لم يهدد أسسه، كان لا بد له أن يتفجر بصورة الثورة، علماً بأنه كان يأخذ في الوقت نفسه أشكالاً ثانوية مختلفة – كمجمل لجميع المصادمات، كمصادمات بين مختلف الطبقات، كتناقضات للوعي، كنضال فكري وإلخ.. ونضال سياسي، وإلخ.. وإذا تبنينا وجهة نظر محدودة، فمن الممكن أن نستلَّ أحد هذه الأشكال الثانوية، وأن نعتبره أساس هذه الثورات؛ ومن الأسهل القيام بذلك خصوصاً وأن الأفراد أنفسهم الذين انطلقت منهم هذه الثورات قد خلقوا لأنفسهم، تبعاً لمستواهم الثقافي ولدرجة التطور التاريخي، أوهاماً من كل شاكلة وطراز بصدد نشاطهم بالذات.
________________
وهكذا تقع جذور المصادمات التاريخية، حسب مفهومنا، في التناقض بين القوى المنتجة وشكل المعاشرة. ولكن، لأجل نشوء المصادمات في بلد ما، لا حاجة البتة إلى دفع التناقض في هذا البلد بالذات إلى أقصى درجاته. فإن المزاحمة مع بلدان أكثر تطوراً على الصعيد الصناعي، المزاحمة الناجمة عن توسع التجارة العالمية، هي سبب كافٍ لأجل خلق مثل هذا التناقض في بلدان أخرى أيضاً وأقل تطوراً من الناحية الصناعية (مثلاً. كشفت مزاحمة الصناعة الإنجليزية عن وجود بروليتاريا خفية في ألمانيا).

(6-مزاحمة الأفراد وتكون الطبقات. تطور التضاد بين الأفراد وظروف نشاطهم الحيوي. جماعية الأفراد الموهومة في ظل المجتمع البرجوازي واتحاد الأفراد الفعلي في ظل الشيوعية. إخضاع ظروف نشاط المجتمع الحيوي لسلطة الأفراد المتحدين)
تعزل المزاحمة الأفراد بعضهم عن بعض – لا البرجوازيين وحسب، بل أيضاً وخصوصاً البروليتاريين رغم أنها تجمع بينهم. ولهذا تنقضي حقبة كبيرة من الزمن قبل أن يتمكن هؤلاء الأفراد من الاتحاد، ناهيك عن أنه يجب لأجل هذا الاتحاد – إذا لم يكن مكتوباً له أن يبقى محلياً فقط – أن تخلق الصناعة الكبيرة، بادئ بدء، الوسائل الضرورية أي بالضبط المدن الصناعية الكبيرة ووسائط الاتصال الرخيصة والسريعة. ولهذا لا يمكن، إلا بعد نضال مديد، التغلب على كل قوة منظمة تعارض هؤلاء الأفراد المنعزلين، العائشين في ظروف تجدد هذا الانعزال يوماً بعد يوم. وإن المطالبة بالعكس تعني المطالبة بأن لا تقوم المزاحمة في هذا العهد التاريخي المعني أو بأن ينبذ الأفراد من رؤوسهم العلاقات التي لا يستطيعون البتة أن يراقبوها من جراء انعزالهم.
____________
البناء السكني. غني عن البيان أن لكل أسرة عند المتوحشين مغارة خاصة بها أو كوخاً خاصاً بها، مثل الخيمة عند الرجل. وهذا الاقتصاد البيتي المنعزل تشتد ضرورته من جراء تطور الملكية الخاصة لاحقاً. إن الاقتصاد البيتي المشترك يستحيل عند الشعوب الزراعية كما تستحيل الزراعة المشتركة. ولقد كان بناء المدن خطوة كبيرة إلى الأمام. ولكن القضاء على الملكية الخاصة، كان لهذا السبب بالذات مستحيلاً في جميع المراحل السابقة، لأن الشروط المادية لهذا الغرض لم تكن متوافرة بعد. إن تنظيم الاقتصاد البيتي المشترك يفترض تطور الآلات، والاستفادة من قوى الطبيعة والكثير من القوى المنتجة الأخرى، مثلاً، من مجارير المياه والتنوير بالغاز، والتدفئة البخارية، إلخ.. وإزالة (التضاد) بين المدينة والريف. وبدون هذه الشروط، لن يصبح الاقتصاد المشترك نفسه، بدوره، قوة منتجة جديدة، ويفقد كل أساس مادي، ويرتكز على أساس نظري خالص أي أنه سيكون مجرد نزوة ويؤدي إلى الاقتصاد الديري فقط – إن ما غدا ممكناً إنما هو التمركز في المدن وتشييد المباني العامة لأجل أهداف معينة مختلفة (السجون، الثكنات، وإلخ). وغني عن البيان أن إلغاء الاقتصاد المنعزل لا ينفصل عن إلغاء (Aufhebung) العائلة.
_________________
(إن الموضوعة التي غالباً ما نجدها عند القديس ماكس والقائلة بأن كل امرئ يصبح، بفضل الدولة، كل ما هو عليه فعلاً، توازي من حيث الجوهر الأمر الموضوعة القائلة إن البرجوازي ليس سوى نسخة من جنس البرجوازيين؛ وهنا يُفترض أن طبقة البرجوازية كانت موجودة قبل الأفراد الذين تتألف منهم)*.
في القرون الوسطى اضطر سكان المدن في كل مدينة، دفاعاً عن حياتهم، إلى الاتحاد ضد النبلاء الريفيين، وقد أتاح توسيع التجارة بناء سبل المواصلات لبعض المدن أن تعرف مدناً أخرى تذود عن المصالح ذاتها في النضال ضد الخصم ذاته. ومن الاتحادات المحلية الكثيرة بين سكان مختلف المدن، نشأت طبقة سكان المدن، ولكنها لم تنشأ إلا بصورة تدريجية جداً. فإن ظروف حياة مختلف سكان المدن قد أصبحت، بحكم معارضتها للعلاقات القائمة، وبحكم أسلوب العمل المشروط بذلك، ظروفاً مشتركة لجميعهم ومستقلة عن كل فرد بمفرده. وقد خلق سكان المدن هذه الظروف لأنهم تفلتوا من نظام العلاقات الإقطاعية، كما خلقتهم هذه الظروف بدورهم، لأن سكان المدن أنفسهم كانوا مشروطين بتضادهم مع الإقطاعية القائمة. ومع ظهور الصلات بين مختلف المدن، تطورت هذه الظروف المشتركة بينها وصارت ظروفاً طبقية. وكان لا بد للظروف ذاتها، والتضاد ذاته، والمصالح ذاتها، أن تخلق كذلك في كل مكان، وعموماً وإجمالاً، الأخلاق ذاتها. إن البرجوازية ذاتها لا تتطور إلا تدريجياً، مع ظروف وجودها، منقسمة بدورها، تبعاً لتقسيم العمل، إلى فئات مختلفة، تبتلع في آخر المطاف جميع الطبقات المالكة التي كانت قائمة قبلها*، بقدر ما تتحول كل الأموال الموجودة إلى رأسمال صناعي أو تجاري (وفي الوقت نفسه تحول البرجوازية أغلبية الطبقات غير المالكة التي كانت قائمة من قبل وقسماً من الطبقات التي كانت مالكة من قبل، إلى طبقة جديدة، هي البروليتاريا).
إن مختلف الأفراد لا يشكلون طبقة إلا بقدر ما يتعين عليهم خوض النضال المشترك ضد طبقة ما أخرى؛ ولكنهم، فيما عدا ذلك، يعارضون بعضهم بعضاً بعداوة بوصفهم منافسين. ومن جهة أخرى، تصبح الطبقة ذاتها بدورها شيئاً مات مستقلاً عن الأفراد، ولذا يجد هؤلاء ظروف حياتهم مقررة سلفاً: فإن الطبقة التي تحدد وضعهم في الحياة، وكذلك مصيرهم الشخصي، وتخضعهم لنفسها. وهذه ظاهرة من نوع ظاهرة خضوع مختلف الأفراد لتقسيم العمل، ولا تمكن إزالتها إلا عن طريق القضاء على الملكية الخاصة وعلى العمل بالذات**. أما بأي نحو يتحول خضوع الأفراد هذا للطبقة مع ذلك إلى خضوع لشتى ضروب التصورات. وإلخ، فقد أشرنا إلى ذلك غير مرة.
وإذا نظرنا إلى تطور الأفراد هذا، الذي يجري في إطار الظروف العامة لوجود المراتب والطبقات المتعاقبة الواحدة بعد الأخرى تاريخياً، وكذلك في إطار التصورات العامة المفروضة مع ذلك عليهم، إذا نظرنا إلى هذا التطور نظرة فلسفية، فمن السهل، طبعاً، أن نتخيل، إما أن الجنس هو الإنسان – النوع، قد تطور في هؤلاء الأفراد، وإما أنهم طوروا الإنسان – النوع أي أنه يمكن أن نتخيل شيئاً يكون تهكماً على التاريخ. وبعد هذا، يمكن اعتبار مختلف المراتب والطبقات كمواصفات لتعبير عام، كفروع من الجنس، كأطوار في تطور الإنسان – النوع.
إن تصنيف الأفراد في طبقات معينة لا يمكن القضاء عليه طالما لم تتشكل طبقة لا يتعين عليها الذود عن مصلحة طبقية متميزة ما دون الطبقة السائدة.
________
إن تحويل القوى (العلاقات) الشخصية، بفضل تقسيم العمل، إلى قوى شيئية لا يمكن القضاء عليه بكون الناس ينبذون من رؤوسهم التصور العام عنه، بل فقط بكون الأفراد يخضعون لأنفسهم من جديد هذه القوى الشيئية ويقضون على تقسيم العمل*. ولا يمكن تحقيق ذلك بدون الجماعية. ففي الجماعة فقط، تتوفر لكل فرد وسائل تتيح له فرصة تطوير كفاءاته من جميع النواحي، وبالتالي لا يمكن وجود الحرية الشخصية إلا في الجماعة. ففي البدائل القائمة حتى الآن عن الجماعية – في الدولة، وإلخ – لم تكن الحرية الشخصية موجودة إلا لأجل الأفراد المتطورين في إطار الطبقة السائدة، وإلا بقدر ما كانوا أفراد هذه الطبقة. إن الجماعية الموهوبة التي اتحد فيها الأفراد حتى الآن كانت تقابلهم دائماً كشيء مستقل؛ وبما أنها كانت اتحاد طبقة ضد طبقة أخرى، فإنها لم تكن بالنسبة للطبقة الخاضعة جماعية وهمية تماماً وحسب، بل كانت أيضاً بمثابة قيود جديدة. أما في ظل الجماعية الفعلية، فإن الأفراد يكتسبون في ترابطهم وبواسطته الحرية أيضاً.
إن نقطة الانطلاق بالنسبة للأفراد قد كانها دائماً الأفراد بالذات – مأخوذين، طبعاً، في إطار ظروف وعلاقات تاريخية معينة. وليس بصفة فرد ""خالص""، كما يفهمه الأيديولوجيون. ولكن، في سياق التطور التاريخي، وبالضبط لأن العلاقات الاجتماعية في ظل تقسيم العمل تتحول حتماً إلى شيء ما مستقل، يظهر فرق بين حياة كل فرد، ما دامت حياة شخصية، وحياته ما دامت خاضعة لهذا الفرع أو ذاك من فروع العمل، وللظروف والشروط المرتبطة به. (ولا يجوز فهم هذا بمعنى أن صاحب الدخل، والرأسمالي وإلخ، مثلاً لا يبقون،، حسبما يزعم، شخصيات، بل بمعنى أن شخصيتهم مشروطة ومحددة بالعلاقات الطبقية الملموسة كلياً، وأن الفرق المشار إليه لا يبرز إلا في تضادهم حيال طبقة أخرى، ولكنه لا يتكشف بالنسبة لهم أنفسهم إلا متى (أفلسوا). وهذا لا يزال مستوراً في المرتبة (وبالأحرى في القبيلة): فإن النبيل، مثلاً، يظل دائماً نبيلاً، والعامي (roturier) يظل دائماً عامياً، بصرف النظر عن جميع ظروف حياتهما، إذ أن هذه صفة لا تنفصل عن فرديتهما. إن فرق الفرد بوصفه شخصية عن الفرد الطبقي، والطابع الصدفي الذي تتسم به بالنسبة للفرد ظروف حياته، لا يظهران إلا مع ظهور تلك الطبقة التي هي نفسها نتاج البرجوازية. وهذا الطابع الصدفي، مأخوذاً بذاته، لا يولده ويطوره غير المزاحمة والنضال بين الأفراد. ولهذا يبدو الأفراد في ظل سيادة البرجوازية أوفر حرية من ذي قبل، لأن أحوالهم المعيشية صدفية بالنسبة لهم، أما في الواقع، فإنهم أقل حرية، لأنه خاضعون بقدر أكبر لقوة شيئية. إن الفرق بين الطبقة والمرتبة الاجتماعية، يتكشف بسطوع خاص في التضاد بين البرجوازية والبروليتاريا. فحين هبت مرتبة سكان المدن، والطوائف الحرفية، وإلخ ضد النبلاء ذوي العقارات الإقطاعية، برزت ظروف وجودهم – الأموال المنقولة والعمل الحرفي، اللذان كانا لا يزالان قائمين بصورة خفية قبل انفصالهما عن النظام الإقطاعي – كشيء إيجابي، كشيء يعارض الملكية العقارية الإقطاعية، ولهذا اتخذ بدوره، في الآونة الأولى، ضرباً من شكل إقطاعي. يقيناً أن الأقنان الفارين كانوا يعتبرون وضعهم القني السابق شيئاً من باب الصدفة بالنسبة لشخصيتهم. ولكنهم تصرفوا في هذا المجال كما تتصرف كل طبقة تتحرر من قيودها، ناهيك بأنهم كانوا يتحررون، لا كطبقة، بل بصورة إفرادية. وفيما بعد، لم يتخطوا إطار النظام المراتبي، بل اكتفوا بأن شكلوا مرتبة جديدة، وحافظوا في وضعهم الجديد على أسلوب عملهم السابق وطوروه إلى أبعد، محررينه من القيود السابقة التي لم تعد تتطابق مع درجة التطور التي بلغوها.
أما البروليتاريون، فإن شرط حياتهم الخاص، العمل، وكذلك ظروف وجود المجتمع الحالي كله، قد أصبحت، بالعكس، شيئاً ما من باب الصدفة بالنسبة لهم، شيئاً لا يملك البروليتاريون بمفردهم أية رقابة عليه، ناهيك عن أنه ليس بوسع أية منظمة اجتماعية أن تعطيهم هذه الرقابة. فإن التناقض بين شخصية البروليتاري بمفرده وبين العمل، هذا الشرط الحيوي المفروض عليه، يصبح الآن جلياً بالنسبة له بالذات، - ولا سيما لأنه منذ باكر العمر ضحية، ولأنه ليس لديه، ضمن حدود طبقته، أية الاحتمالات، لكي يؤمن لنفسه ظروفاً تجعل من الممكن انتقاله إلى طبقة أخرى.
. NB لا يجوز أن ننسى أن ضرورة الحفاظ على وجود الأقنان واستحالة الاقتصاد الكبير التي استتبعت توزيع allotments* بين الأقنان، قد دفعتا بعد حقبة قصيرة جداً الفرائض المفروضة على الأقنان حيال الإقطاعيين إلى مستوى متوسط للأتاوة والسخرة جعل من الممكن بالنسبة للقن تكديس الأموال المنقولة، الأمر الذي سهل له الفرار من مالكه ومكنه من الاستقرار بصفة مديني، كما أدى إلى ظهور تمايز بين الأقنان، وهكذا غدا الأقنان الفارون برجوازيين جزئياً. ومن الواضح كذلك في هذه الحال أن الفلاحين الأقنان ممن كانوا يملكون حرفة ما، كان يتوفر لهم من الاحتمالات، أكثر من غيرهم، لاكتساب الأموال المنقولة.
وعلى هذا النحو، إذا كان الأقنان الفارون قد سعوا وراء أمر واحد فقط، هو أن يطوروا ويوطدوا شروط وجودهم التي صارت حقيقة واقعة، لم يحرزوا بالتالي في آخر المطاف غير العمل الحر، فإنه يتعين على البروليتاريين، لكي يذودوا عن أنفسهم كشخصيات، أن يقضوا على شرط وجودهم بالذات الذي كان قائماً حتى الوقت الحاضر، والذي هو في الوقت نفسه شرط وجود المجتمع السابق كله أي أنه يتعين عليهم القضاء على العمل. ولهذا يجدون أنفسهم في تعارض مباشر حيال ذلك الشكل الذي أعرب فيه الأفراد الذين يؤلفون المجتمع عن أنفسهم حتى الآن بوصفهم كلاً ما، أي بالضبط حيال الدولة، ويتعين عليهم الإطاحة بالدولة لكي يؤكدوا أنفسهم كشخصيات.
________
من كل ما قيل أعلاه، ينبع أن العلاقات الاجتماعية التي دخل فيها أفراد طبقة ما والتي اشترطتها مصالحهم المشتركة ضد طبقة أخرى، قد شكلت دائماً جماعية كان هؤلاء الأفراد لا ينتسبون إليها إلا بوصفهم أفراداً متوسطين، إلا بقدر ما عاشوا في ظروف وجود طبقتهم؛ وقد كانوا في هذه العلاقات الاجتماعية، لا كأفراد، بل كأعضاء طبقة، والعكس تماماً يحدث في ظل جماعة البروليتاريين الثوريين الذين يضعون تحت رقابتهم، سواء شروط وجودهم أم شروط وجود أعضاء المجتمع كافة: ففي هذه الجماعية يشترك الأفراد بوصفهم أفراداً. إن هذه الجماعية هي عبارة عن اتحاد بين الأفراد (وبالطبع على أساس القوى المنتجة المتطورة نحو ذلك الزمن) يضع تحت رقابتهم شروط تطور الأفراد الحر وتحركهم الحر، الشروط التي توفرت حتى الآن بحكم الصدفة، والتي واجهت الأفراد كشيء مستقل، وذلك على وجه الضبط نتيجة لانقسامهم بوصفهم أفراداً ونتيجة لذلك الاتحاد المحتم بالنسبة لهم الذي اشترطه تقسيم العمل. وأصبح صلة غريبة بالنسبة لهم نتيجة لانقسامهم. إن الاتحاد السابق لم يكن سوى اتفاق (ليس البتة اعتباطياً، كما يصوره، مثلاً ""العقد الاجتماعي""، بل ضروري)، اتفاق (قارن، مثلاً، نشوء الدولة الأمريكية الشمالية ونشوء الجمهوريات الأميركية الجنوبية) بصدد تلك الشروط التي توفرت في إطارها فيما بعد للأفراد إمكانية الاستفادة من الصدفة في مصلحتهم. وهذا الحق في الاستفادة من الصدفة بلا عائق، في إطار ظروف وشروط معينة، قد سموه حتى الآن بالحرية الشخصية. ويقيناً أن القوى المنتجة وأشكال المعاشرة المتوفرة هي وحدها شروط الوجود هذه.
____________
تتميز الشيوعية عن جميع الحركات السابقة بكونها تحدث انقلاباً في أساس جميع العلاقات السابقة للإنتاج والمعاشرة ذاته، وبكونها تعتبر للمرة الأولى بصورة واعية جميع المقدمات الناشئة بصورة عفوية من صنع الأجيال السابقة، وتحرم هذه المقدمات عفويتها، وتخضعها لسلطة الأفراد المتحدين. ولهذا تتسم إقامة الشيوعية، من حيث الجوهر، بطابع اقتصادي: فهي تعني توفير الشروط المادية لهذا الاتحاد، وهي تحول الشروط المتوفرة إلى شروط للاتحاد. إن النظام الذي تبنيه الشيوعية هو بالضبط بناء تحتي فعلي، يجعل من غير الممكن كل ما يوجد بصورة مستقلة عن الأفراد لأن كل هذا ليس على كل حال غير نتاج المعاشرة القائمة حتى الآن بين الأفراد أنفسهم. وهكذا، يعال الشيوعيون عملياً الشروط الناجمة عن الإنتاج السابق والمعاشرة السابقة معاملتهم لشيء غير عضوي، ولكنهم في هذه الحال لا يتصورون البتة أن إيصال المادة إليهم كان من نية أو من رسالة الأجيال السابقة، ولا يعتبرون أن هذه الشروط كانت غير عضوية نوعاً ما لأجل الأفراد الذين أنشأوها.

(7-التناقض بين الأفراد وشروط نشاطهم الحيوي بوصفه تناقضاً بين القوى المنتجة وشكل المعاشرة. تطور القوى المنتجة وتعاقب أشكال المعاشرة)
إن الفرق بين الفرد بوصفه شخصية والفرد الصدفي ليس مجرد فرق منطقي، بل واقع تاريخي، ويختلف معناه باختلاف الزمن: فإن المرتبة مثلاً، وكذلك plus ou moins* العائلة هما في القرن الثامن عشر شيء صدفي بالنسبة للفرد. وهذا فرق لسنا نحن الذين يتعين علينا أن نقيمه بالنسبة لكل عهد، بل فرق يقيمه كل عهد بنفسه بين مختلف العناصر التي يجدها جاهزة، متصرفاً في هذه الحال، لا وفقاً للمفهوم بل تحت ضغط المصادمات الحياتية المادية.
إن ما يبدو للعهد اللاحق، بالمقابلة مع العهد السابق، صدفياً، - أي صدفياً بين العناصر التي ورثها من الماضي – إنما هو شكل للمعاشرة يتطابق مع درجة معينة من تطور القوى المنتجة. فإن العلاقة بين القوى المنتجة وشكل المعاشرة إنما هي العلاقة بين شكل المعاشرة وتصرفات الأفراد أو نشاط الأفراد. (إن الشكل الأساسي لهذا النشاط، هو، بالطبع، النشاط المادي الذي يتوقف عليه كل نشاط آخر: النشاط الفكري، السياسي، الديني، وإلخ.. إن هذا التنظيم أو ذاك للحياة المادية يتوقف، بالطبع، في كل مرة، على الحاجات التي تطورت، علماً بأن نشوء هذه الحاجات، مثله مثل تلبيتها، إنما هو عملية تاريخية، لا وجود لها عند النعاج أو الكلاب (وهذه هي الحجة الرئيسية التي يتقدم بها شتيرنر بإلحاح adversus hominem)*، رغم أن النعاج والكلاب، في منظرها الحالي، هي بلا ريب، والحق يقال، malgre’ eux** - نتاج عملية تاريخية). إن الشروط التي تجري في ظلها المعاشرة بين الأفراد، طالما لم يظهر التناقض (بين هذه الشروط وهؤلاء الأفراد)، هي شروط تتعلق بفرديتهم، وليست شيئاً ما خارجياً بالنسبة لهم؛ إنها الشروط التي لا يستطيع هؤلاء الأفراد المعنيون، الموجودون في علاقات معينة إلا أن ينتجوا في ظلها حياتهم المادية وما يرتبط بها، وهي، بالتالي، شروط مبادرة هؤلاء الأفراد، وهي أيضاً نتاج مبادرتهم***. وعلى هذا النحو، تتطابق الشروط المعنية التي ينتج الناس في ظلها – طالما لم يظهر التناقض (المذكور) – مع شرطيتها الفعلية، ووجودها الوحيد الجانب، علماً بأن أحادية جانبها لا تتكشف إلا في حال ظهور التناقض، ولا توجد بالتالي إلا بالنسبة للأجيال المتأخرة. وآنذاك تبدو هذه الشروط قيوداً صدفية، كما أن النظرة إليها باعتبار إنها قيود تنسب أيضاً إلى الزمن الماضي.
إن هذه الشروط المختلفة التي كانت في البدء شروط المبادرة، وكانت فيما بعد قيوداً لها، تشكل على امتداد التطور التاريخي كله صفاً مترابطاً من أشكال المعاشرة التي تتمثل الصلات بينها في كون الشكل السابق للمعاشرة، الذي أمسى قيوداً، يخلي المكان لشكل جديد للمعاشرة يتطابق مع قوى منتجة أكثر تطوراً، ويتطابق بالتالي مع نوع أكثر تقدماً لمبادرة الأفراد، شكل للمعاشرة يتحول a son tour* إلى قيود ويحل محله شكل آخر. وبما أن هذه الشروط في كل درجة من التطور التاريخي تتطابق مع تطور القوى المنتجة الجاري في الوقت نفسه، فإن تاريخها هو في الوقت نفسه تاريخ القوى المنتجة التي تتطور والتي يقتبسها كل جيل جديد، وهو بالتالي تاريخ تطور قوى الأفراد أنفسهم.
وبما أن هذا التطور يجري بصورة عفوية، أي بما أنه لا يخضع لخطة عامة يرسمها أفراد متحدون بحرية، فإنه ينطلق من أماكن مختلفة، وقبائل مختلفة، وأمم مختلفة، وفروع عمل مختلفة وإلخ.. كل منها يتطور بادئ ذي بدء بصورة مستقلة عن الأخرى، وغير داخل في صلة معها إلا شيئاً فشيئاً. وفيما بعد، لا يجري هذا التطور إلا بصورة بطيئة جداً؛ فإن مختلف الدرجات والمصالح لا تُذلل كلياً أبداً، بل تخضع للمصلحة المنتصرة، مواصلة وجودها الحقير إلى جانبها على امتداد القرون. ومن هنا ينجم أن الأفراد، حتى في إطار الأمة الواحدة نفسها، وحتى إذا تجردنا عن علاقاتهم على صعيد الملكية، يمرون بتطور مختلف تماماً، وإن المصلحة السابقة – حين يكون شكل المعاشرة المناسب لها قد زحزحه شكل للمعاشرة يتناسب مع المصلحة اللاحقة – تظل بحكم التقاليد تملك السلطة في شخص الوحدة الوهمية التي انعزلت عن الأفراد (الدولة، الحق)، وهي سلطة لا يمكن تحطيمها في آخر المطاف إلا عن طريق الثورة. وهذا ما يفسر كذلك لماذا لا يكون للوعي أحياناً، في بعض المسائل التي تجيز تعبيراً أعمّ، أن يبدو سابقاً للعلاقات التجريبية المعاصرة له، ولذا يمكن الاعتماد في معارك عهد آجل ما على مكانة ونفوذ نظريي الماضي.
أما في البلدان التي بدأت تطورها، مثل أمريكا الشمالية، في عهد تاريخي متطور، فإن التطور يجري، على العكس، بصورة سريعة جداً. فليس لدى هذه البلدان أية مقدمات أخرى، تكونت عفوياً، غير الأفراد الذين أقاموا هناك والذين كانوا مضطرين لذلك، نتيجة لعدم التطابق بين حاجاتهم وبين أشكال المعاشرة القائمة في البلدان القديمة. ولهذا تبدأ تطورها، مالكة أكثر أفراد البلدان القديمة تقدماً، ومالكة بالتالي شكل المعاشرة الأكثر تطوراً والمناسب لهؤلاء الأفراد، وذلك قبل أن يتسنى لشكل المعاشرة هذا أن يتوطد في البلدان القديمة. وهذا القول يصح على جميع المستعمرات، لأنها ليست مقامات حربية فقط أو مقامات تجارية فقط. ومن الأمثلة على ذلك، قرطاجا، والمستعمرات الإغريقية، وأيسلنده في القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر. وتتبدى العملية نفسها في حال الفتح أيضاً، إذا نُقل شكل المعاشرة المتطور في تربة أخرى، بشكله الجاهز، إلى البلد المفتوح. ففي حين لا يزال هذا الشكل للمعاشرة مرهقاً في موطنه بالمصالح والعلاقات الموروثة من العهود السابقة، - يمكن ويجب توطيده في المكان الجديد بصورة كلية وبدون عقبات، وذلك، على الأقل، لأجل تأمين السيادة المديدة للفاتحين. (إنجلترا ونابولي بعد الفتح النورماندي، حين حصلتا على أكمل شكل للتنظيم الإقطاعي).

(8-دور العنف (الفتح) في التاريخ)
إن كل هذا الفهم للتاريخ يبدو كأن واقع الفتح يناقضه. فحتى الآن، قيل إن العنف، والحرب، والنهب، والسلب، وإلخ.. هي القوة المحركة للتاريخ. ولا يسعنا أن نتوقف هنا إلا عند العوامل الرئيسية، ولهذا نختار مثالاً عجيباً للغاية، هو تدمير الحضارة القديمة من قبل شعب بربري، وتشكيل بنية جديدة للمجتمع إثر ذلك (روما والبرابرة، الإقطاعية وبلاد الغال، الإمبراطورية الرومانية الشرقية والأتراك).
إن الحرب نفسها لا تزال عند الشعب الفاتح البربري، كما سبق وقيل، شكلاً منتظماً للمعاشرة يستعمل على نطاق أوسع فأوسع بقدر ما يخلق نمو السكان، في ظل أسلوب الإنتاج البدائي التقليدي والوحيد الممكن بالنسبة له، الحاجة إلى وسائل إنتاج جديدة. أما في إيطالياـ، فعلى العكس، فبنتيجة تمركز ملكية الأرض (الناجم، لا عن الاحتكار والدَّين وحسب، بل أيضاً عن الانتقال بالوراثة، لأن العشائر القديمة كانت تندثر تدريجياً بحكم الخلاعة السائدة آنذاك وندرة الزواجات، ولأن أموالها كانت تنتقل تدريجياً إلى أيدي القلة) وبنتيجة تحويل الأراضي المحروثة إلى مراع (الناجم، لا عن الأسباب الاقتصادية العادية، والسارية المفعول حالياً وحسب، بل أيضاً عن استيراد الحبوب المنهوبة والمحصلة بصورة جزية، ونقص مستهلكي الحبوب الإيطالية النابع من هنا)، - بنتيجة كل هذا، زال السكان الأحرار كلياً تقريباً؛ وحتى العبيد أخذوا يندثرون بلا انقطاع، وكان يتعين دائماً الاستعاضة عنهم بعبيد جدد. وقد بقيت العبودية أساس الإنتاج كله. إن العامة الذين كانوا يشغلون مكاناً بين الأحرار والعبيد لم يرتفعوا يوماً فوق مستوى حثالة البروليتاريا. وعلى العموم ظلت روما دائماً مجرد مدينة، وكانت علاقتها مع الأقاليم علاقة سياسية بوجه الحصر تقريباً، وكان من الممكن كذلك بالطبع أن تنتهكها الأحداث السياسية.
___________
ليس ثمة ما هو أكثر شيوعاً من الرأي الزاعم أن كل شيء في التاريخ قد اقتصر حتى الآن على الفتح. البرابرة فتحوا الإمبراطورية الرومانية؛ ومن المصطلح تفسير الانتقال من العالم القديم إلى الإقطاعية بواقع هذا الفتح. ولكن في حال فتح البرابرة، يتوقف كل شيء على ما إذا كان الشعب المفتوح قد طور قبل ذلك القوى المنتجة الصناعية، كما هو الحال عند الشعوب المعاصرة، أم على ما إذا كانت قواه المنتجة لا ترتكز بصورة رئيسية إلا على اتحاده وعلى الجماعة (Gemeinwesen) القائمة. وفيما بعد أصبح طابع الفتح مشروطاً بموضوع الفتح. إن أموال المصرفي التي تكمن في الأوراق المالية، إنما يستحيل إطلاقاً فتحها، إذا كان الفاتح لا يخضع لشروط الإنتاج والمعاشرة القائمة في البلد المفتوح. والشيء نفسه يصح أيضاً على الرأسمال الصناعي كله في أي بلد صناعي عصري ما. وأخيراً، تحل نهاية الفتح في كل مكان بصورة سريعة جداً، وحين لا يبقى شيء لأجل الفتح، يتعين الشروع في الإنتاج. ومن ضرورة الإنتاج هذه التي تحل بصورة سريعة جداً، ينجم أنه ينبغي لشكل الجماعة (Gemeinwesen) الذي قبله الفاتحون المستقرون، أن يتطابق مع درجة تطور القوى المنتجة التي وجدوها، وإذا لم يكن هذا التطابق متوفراً في البدء، فلا بد أن يتغير شكل الجماعة هذا وفقاً للقوى المنتجة المتوفرة. وهذا ما يفسره كذلك واقع لوحظ في كل مكان في العهد الذي تبع هجرة الشعوب، وهو أن العبد أصبح سيداً وأن الفاتحين سرعان جداً ما اقتبسوا لغة الشعوب المفتوحة وتعليمها وأخلاقها. إن الإقطاعية لم تنقل البتة بصورة جاهزة من ألمانيا، فقد نشأت أصلاً في تنظيم الشؤون العسكرية عند الفاتحين في زمن الفتح، وهذا التنظيم لم يتحول إلى إقطاعية حقيقية إلا بعد الفتح، بفضل تأثير القوى المنتجة الموجودة في البلدان المفتوحة. أما إلى أي حد كان هذا الشكل مشروطاً بالقوى المنتجة، فتبينه المحاولات الفاشلة لإقرار أشكال أخرى ترتكز على البقايا الرومانية القديمة (شارلمان* وإلخ..).
يجب مواصلة البحث.

(9-تطور التناقض بين القوى المنتجة وشكل المعاشرة في ظل الصناعة الكبيرة والمزاحمة الحرة. التضاد بين العمل والرأسمال)
في الصناعة الكبيرة وفي المزاحمة اندمجت جميع شروط العيش، جميع الشرطيات، جميع أحاديات جوانب الأفراد في شكلين بسيطين للغاية هما الملكية الخاصة والعمل. فإن النقود تجعل كل شكل للمعاشرة والمعاشرة نفسها شيئاً ما صدفياً بالنسبة للأفراد. وعليه، يعود إلى النقود أصل هذه الظاهرة، وهي أن كل معاشرة كانت حتى الآن معاشرة بين الأفراد في ظل شروط معينة وحسب، ولم تكن معاشرة بين الأفراد بوصفهم أفراداً. إن هذه الشروط تنحصر في شرطين هما: العمل المتراكم أو الملكية الخاصة، والعمل الفعلي. فإذا زال أحدهما، فإن المعاشرة تتوقف هي أيضاً. إن الاقتصاديين المعاصرين – ومنهم مثلاً، سيسموندي، شربوليه وإلخ.. – يعارضون* Association des individus- association des capitaux. ومن جهة أخرى، يخضع الأفراد أنفسهم كلياً لتقسيم العمل ولهذا يجدون أنفسهم في تبعية كاملة ولا أكمل، بعضهم حيال بعض. وبما أن الملكية الخاصة تجابه العمل في إطار هذا العمل فإنها تتطور من ضرورة التراكم. وهي في البدء لا تزال تحتفظ بالقسم الأكبر من شكل الجماعة (Gemeinwesen)، ولكنها تقترب أكثر فأكثر في سياق التطور من الشكل المعاصر للملكية الخاصة. إن تقسيم العمل ينطوي منذ بادئ بدء على تقسيم شروط العمل – أدوات العمل والمواد – وينطوي بالتالي على تجزؤ الرأسمال المتراكم بين مختلف المالكين، وبالتالي على الانفصال بين الرأسمال والعمل، وكذلك على مختلف أشكال الملكية ذاتها. وبقدر ما يتطور تقسيم العمل، وبقدر ما ينمو التراكم، بقدر ما يتطور هذا الانفصال بمزيد من القوة. ولا يمكن للعمل نفسه أن يوجد إلا شرط هذا الانفصال.
___________
إن الطاقة الشخصية لدى الأفراد في بعض الأمم – الألمان والأميركيون – هي طاقة بفضل تخالط العروق، ولهذا كان الألمان بلهاء؛ وفي فرنسا وإنجلترا ..إلخ.، أقام الأجانب في تربة متطورة، وفي أميركا في تربة عذراء تماماً؛ أما في ألمانيا فإن السكان الأولين لم يرتحلوا من أماكنهم).
________
وهكذا يتكشف هنا واقعان*. أولاً، تبرز القوى المنتجة كشيء مستقل تماماً ومفصول تماماً عن الأفراد، كعالم خاص إلى جانب الأفراد. وسبب ذلك أن الأفراد الذين هذه القوى المنتجة هي قواهم، هم متفرقون ويعارضون بعضهم بعضاً، في حين أن هذه القوى لا تصبح، من جانبها، قوى فعلية، إلا في المعاشرة وفي الصلة المتبادلة بين هؤلاء الأفراد. وهكذا نجد، في جهة، مجمل القوى المنتجة التي ارتدت ما يشبه شكلاً شيئياً، والتي لم تبق بالنسبة للأفراد أنفسهم قوى الأفراد بل صارت قوى الملكية الخاصة؛ ولهذا ليست القوى المنتجة قوى الأفراد إلا بقدر ما يكون الأفراد مالكين خصوصيين. إن القوى المنتجة لم تتخذ في أي من المراحل السابقة هذا الشكل الذي لا يبالي بالمعاشرة بين الأفراد بوصفهم أفراداً، لأن المعاشرة نفسها كانت لا تزال محدودة. وفي جهة أخرى نجد أغلبية الأفراد التي تعارض هذه القوى المنتجة، والمفصولة عن هذه القوى، ومن جراء ذلك أصبح هؤلاء الأفراد المحرومون من كل مضمون حيوي فعلي أفراداً مجردين، ولكن تتوفر لهم الآن، لهذا السبب وحده، إمكانية الدخول في صلة بعضهم مع بعض بوصفهم أفراداً.
إن الصلة الوحيدة التي لا يزالون فيها مع القوى المنتجة ومع وجودهم بالذات – وهي العمل – قد فقدت لديهم كل مظهر من مظاهر النشاط الذاتي، ولا تصون حياتهم إلا بتشويهها. ولئن كان النشاط الذاتي وإنتاج الحياة المادية مقسمين في المراحل السابقة لأنهما كانا نصيب أفراد مختلفين، ولأن إنتاج الحياة المادية كان لا يزال يعتبر، بحكم ضيق أفق الأفراد أنفسهم، نوعاً ثانوياً من النشاط الذاتي، فإنهما قد انفصلا الآن أحدهما عن الآخر إلى حد أن الحياة المادية تبرز على العموم بوصفها هدفاً، في حين أن إنتاج هذه الحياة المادية – العمل (الذي هو الآن الشكل الوحيد الممكن للنشاط الذاتي، ولكن الشكل السلبي، كما نرى) – يبرز بوصفه وسيلة.

(10-ضرورة القضاء على الملكية الخاصة وشروطه ونتائجه)
وهكذا سارت الأمور الآن إلى حد أنه يترتب على الأفراد أن يستملكوا مجمل القوى المنتجة الموجود، وليس ذلك لأجل التوصل إلى النشاط الذاتي وحسب، بل أيضاً وعلى العموم لأجل تأمين وجودهم.
إن هذا الاستملاك مشروط قبل كل شيء بذلك الموضوع الذي يجب استملاكه، أي بالقوى المنتجة التي تطورت في مجمل معين والتي لا توجد إلا في إطار المعاشرة الكلية. ومن جراء ذلك، ينبغي أن يتسم الاستملاك بطابع كلي، متطابق مع القوى المنتجة والمعاشرة. إن مجرد استملاك هذه القوى ليس سوى تطور الكفاءات الفردية المتطابقة مع أدوات الإنتاج المادية. ومن جراء ذلك وحده، يعني استملاك مجمل معين من أدوات الإنتاج تطور مجمل معين من الكفاءات لدى الأفراد أنفسهم.
وبعد. إن هذا الاستملاك مشروط بالأفراد الذين يستملكون. إن البروليتاريين المعاصرين المحرومين كلياً من أي نشاط ذاتي خاص بهم، كامل، غير محدود، يتلخص في استملاك كل مجمل القوى المنتجة وفي تطوير كل مجمل الكفاءات النابع من هنا. إن جميع الاستملاكات الثورية السابقة كانت محدودة: فإن الأفراد الذين كان نشاطهم الذاتي مقيداً بأداة الإنتاج المحدودة وبالمعاشرة المحدودة، قد استملكوا أداة الإنتاج المحدودة هذه وتوصلوا من جراء ذلك إلى محدودية جديدة نوعاً ما. وقد غدت أداة إنتاجهم ملكاً لهم، ولكنهم بقوا هم أنفسهم خاضعين لتقسيم العمل ولأداة إنتاجهم ذاتها. وفي ظل جميع الاستملاكات السابقة، بقي جمهور الأفراد خاضعاً لأداة إنتاج وحيدة ما؛ أما في ظل الاستملاك البروليتاري، فينبغي أن يخضع مجمل أدوات الإنتاج لكل فرد، وأن تخضع الملكية لجميع الأفراد. والمعاشرة الكلية العصرية لا يمكن إخضاعها للأفراد بأي سبيل غير السبيل التالي، وهو أنها ستكون خاضعة لجميعهم معاً.
ثم إن الاستملاك مشروط بذلك الأسلوب الذي ينبغي أن يتحقق بواسطته هذا الاستملاك. ولا يمكن تحقيقه إلا بواسطة ذلك الاتحاد الذي لا يمكنه مع ذلك بحكم الخصائص الملازمة للبروليتاريا بالذات، إلا أن يكون كلياً، وبواسطة ثورة يطاح فيها، من جهة، بسلطة الأسلوب السابق للإنتاج والمعاشرة، وكذلك بسلطة بنية المجتمع السابقة، ومن جهة أخرى، يتطور فيها طابع البروليتاريا الكلي وتتطور فيها الطاقة الضرورية للبروليتاريا لأجل تحقيق هذا الاستملاك، علماً بأن البروليتاريا تخلع عن كاهلها كل ما بقي عندها من وضعها الاجتماعي السابق.
وفي هذه الدرجة فقط، يتطابق النشاط الذاتي مع الحياة المادية، الأمر الذي يناسب تطور الأفراد في أفراد متكاملين وزوال كل عفوية. كذلك يتناسب أحدهما مع الآخر تحول العمل إلى نشاط ذاتي، وتحول المعاشرة المحدودة السابقة إلى معاشرة يشترك فيها الأفراد بوصفهم أفراداً. إن استملاك كل مجمل القوى المنتجة من قبل الأفراد المتحدين يقضي على الملكية الخاصة. وبينما كان هذا الشرط الخاص أو ذاك يبرز حتى الآن في سياق التاريخ بوصفه شرطاً صدفياً، فإن ما يصبح الآن صدفياً إنما هو عزلة الأفراد ذاتها، إنما هو المهنة الخاصة المتميزة التي يتعاطاها هذا الفرد أو ذاك.
وفي الأفراد الذين لم يبقوا خاضعين لتقسيم العمل، رأى الفلاسفة مثالاً أعلى أطلقوا عليه اسم ""الإنسان – النوع""؛ وكل عملية التطور التي رسمناها إنما صوروها بصورة عملية تطور ""الإنسان – النوع""، علماً بأنهم وضعوا هذا ""الإنسان – النوع"" مكان الأفراد الذين كانوا موجودين حتى الآن في كل عهد تاريخي، وصوروه بصورة القوة المحركة للتاريخ. وهكذا، اعتبروا كل العملية التاريخية عملية الاغتراب الذاتي* ""للإنسان – النوع""؛ وهذا ما يفسره، من حيث الجوهر، كونهم قد وضعوا دائماً في مكان الفرد من الدرجة الماضية فرداً متوسطاً من درجة متأخرة جداً، ونسبوا إلى الأفراد السابقين وعياً متأخراً جداً. ومن جراء هذا القلب، وهذا التجريد المتعمد عن الظروف الفعلية، أصبح من الممكن تحويل التاريخ كله إلى عملية لتطور الوعي.
***
إن المجتمع المدني يضم كل معاشرة الأفراد المادية في إطار درجة معينة من تطور القوى المنتجة. وهو يضم كل الحياة التجارية والصناعية في الدرجة المعنية، ويتخطى بذلك حدود الدولة والأمة، مع أنه لا بد له مع ذلك، من جهة أخرى، أن يبرز في الخارج بصورة القومية ويقوم في الداخل بصورة الدولة. إن تعبير ""المجتمع المدني""** قد انبثق في القرن الثامن عشر، عندما كانت علاقات الملكية قد تحررت من الجماعة القديمة والقروسطية (Gemeinwesen). إن المجتمع المدني مأخوذاً بذاته لا يتطور إلا مع البرجوازية، ولكن الاسم نفسه قد عني على الدوام التنظيم الاجتماعي الذي يتطور مباشرة من الإنتاج والمعاشرة والذي يشكل في جميع الأزمنة البناء التحتي للدولة ولكل بناء فوقي مثالي* آخر.

(11-موقف الدولة والحق من الملكية)
إن شكل الملكية الأول سواء في العالم القديم أم في القرون الوسطى، إنما هو الملكية القبلية المشروطة عند الرومانيين بالحرب بصورة رئيسية، وعند الجرمان بتربية المواشي. وبما أن بضع قبائل كانت تعيش معاً في مدينة واحدة، فإن الملكية القبلية عند الشعوب القديمة كانت تتخذ شكل ملكية الدولة، وكان حق الفرد بمفرده فيها يقتصر على مجرد وضع اليد (possessio) الذي لم يكن يشمل، مثله مثل الملكية القبلية على العموم، سوى ملكية الأرض. إن الملكية الخاصة بمعنى الكلمة الأصلي لا تظهر عند الشعوب القديمة كما عند الشعوب الحديثة إلا مع ملكية الأموال المنقولة (العبودية والجماعة (Gemeinwesen) (dominium ex jure quiritum)**. – وعند الشعوب التي يرجع أصلها إلى القرون الوسطى، تمر الملكية القبلية بجملة من الدرجات المختلفة – الملكية الإقطاعية للأرض، ملكية الأموال المنقولة للطائفة الحرفية، الرأسمال المانيفاكتوري – قبل أن تتحول وتصبح الرأسمال المعاصر الناجم عن الصناعة الكبيرة والمزاحمة العامة، قبل أن تتحول وتصبح الملكية الخاصة التي نبذت كل مظهر من مظاهر الجماعة (Gemeinwesen) وأزاحت أي تأثير كان من جانب الدولة في تطور الملكية. وهذه الملكية الخاصة الحديثة تناسبها الدولة الحديثة التي أصبحت تدريجياً، بواسطة الضرائب، تحت تصرف المالكين الخصوصيين، وصارت كلياً في قبضتهم بفضل ديون الدولة؛ وإن وجود هذه الدولة ذاته، الذي يضبطه ارتفاع وهبوط أسعار الدولة في البورصة، يتوقف كلياً على التسليف التجاري الذي يقدمه لها المالكون الخصوصيون، البرجوازيون. وبما أن البرجوازية لم تبق مرتبة، بل غدت طبقة، فإنها مضطرة إلى تنظيم نفسها، لا على الصعيد المحلي، بل على الصعيد الوطني، وإلى إضفاء شكل عام على مصالحها العادية. وبفضل تحرر الملكية الخاصة من الجماعة (Gemeinwesen) اكتسبت الدولة وجوداً مستقلاً إلى جانب المجتمع المدني وخارجه، ولكن الدولة ليست في الواقع سوى شكل للتنظيم لا بد للبرجوازيين أن يتخذوه حتماً لكي يضمنوا بصورة متبادلة – سواء في خارج البلاد أم في داخلها – ملكيتهم ومصالحهم. إن استقلال الدولة لا يوجد في زمننا إلا في البلدان التي لم تتطور فيها بعد المراتب الاجتماعية بصورة نهائية إلى طبقات، والتي لا تزال تضطلع فيها المراتب الاجتماعية التي قد ألغيت في بلدان أكثر تقدماً بدور معين، مشكلة نوعاً من خليط، - والتي لا يمكن فيها بالتالي لأي قسم من السكان أن يحرز السيادة على أقسامهم الأخرى. وهذا هو، على الأخص، الوضع في ألمانيا. أما أكمل مثال على الدولة الحديثة فهو أميركا الشمالية. إن أحدث الكتاب الفرنسيين والإنجليز والأميركيين يجمعون في الرأي بمعنى أن الدولة لا توجد إلا لأجل الملكية الخاصة، الأمر الذي يدل على أن هذه الفكرة قد تسربت أيضاً إلى الوعي العادي.
وبما أن الدولة هي ذلك الشكل الذي يحقق فيه الأفراد المنتسبون إلى الطبقة السائدة مصالحهم المشتركة، والذي يجد فيه المجتمع المدني كله في عهد معين تعبيره المكثف، فإنه ينجم من هنا أن جميع الأحكام العامة تطبقها الدولة، وتكتسب شكلاً سياسياً. ومن هنا ينبع الوهم بأن القانون يرتكز على الإرادة، بل على الإرادة الحرة المفصولة عن أساسها الفعلي. كذلك الحق يحصرونه فيما بعد في القانون.
إن الحق الخاص يتطور في الوقت نفسه مع الملكية الخاصة من انحلال شكل الجماعة (Gemeinwesen) الذي تكوّن بصورة طبيعية. وعند الرومانيين لم يسفر تطور الملكية الخاصة والحق الخاص عن عواقب صناعية وتجارية لأن كل أسلوبهم للإنتاج بقي ثابتاً ولم يطرأ عليه أي تغير*. أما الشعوب الحديثة التي حلت عندها الصناعة والتجارة شكل الجماعة (Gemeinwesen) الإقطاعي، فقد بدأ بالنسبة لها، مع انبثاق الملكية الخاصة والحق الخاص، طور جديد كان قادراً على التطور اللاحق. فإن المدينة الأولى بالذات التي وسعت في القرون الوسطى التجارة البحرية على نطاق واسع – أمالفي – قد صاغت كذلك الحق البحري. وما أن طورت الصناعة والتجارة – أولاً في إيطاليا، وفيما بعد في البلدان الأخرى – الملكية الخاصة حتى لقي الحق الخاص الروماني الموضوع بكل دقة القبول فوراً من جديد وحظي بقوة الهيبة والنفوذ. وعندما قويت البرجوازية فيما بعد إلى حد أن الملوك والسلاطين أخذوا يدافعون عن مصالحها لكي يقضوا بمساعدتها على النبلاء الإقطاعيين، بدأ عند ذاك في جميع البلدان – في فرنسا في القرن السادس عشر – تطور حقيقي للحق جرى في كل مكان، ما عدا إنجلترا، على أساس القوانين الرومانية. ولكن حتى في إنجلترا، كان لا بد من الاستعانة بمبادئ الحق الروماني لأجل مواصلة صياغة الحق الخاص (ولا سيما في قسمه المتعلق بالأموال المنقولة). (ولا يجوز أن ننسى أن الحق، مثله مثل الدين، ليس له تاريخ خاص به).
في الحق الخاص تتجلى علاقات الملكية القائمة بوصفها نتيجة للإرادة العامة. بل إن jus utendi et abutendi* يدل بحد ذاته، من جهة، على أن الملكية الخاصة أصبحت مستقلة تماماً عن الجماعة (Gemeinwesen)، ومن جهة أخرى، على الوهم بأن هذه الملكية الخاصة بالذات ترتكز بوجه الحصر على الإرادة الخاصة، على التصرف الاعتباطي بالشيء. أما في الواقع، فإن لمفهوم abuti** حدوداً اقتصادية معينة بالنسبة للمالك الخاص، إذا لم يشأ أن تنتقل ملكيته، وبالتالي jus abutendi***إلى أيدٍ أخرى، لأن الشيء بوجه عام، المنظور إليه من حيث العلاقة بإرادته فقط، ليس البتة شيئاً؛ ولا يصبح شيئاً، ملكية فعلية، إلا في سياق المعاشرة وبصورة مستقلة عن الحق (العلاقة، أي ما يسميه الفلاسفة بالفكرة****). إن هذا الوهم الحقوقي الذي يحصر الحق في الإرادة الخالصة، يؤدي حتماً – في حال تطور علاقات الملكية لاحقاً – إلى الأمر التالي وهو أنه يمكن لهذا الشخص أو ذاك أن يملك قانوناً الحق في شيء ما دون أن يملكه فعلاً. فإذا كفت قطعة ما من الأرض، بفعل المزاحمة، عن إعطاء ريع، فإن مالكها يظل مع ذلك يملك قانوناً الحق فيها مع jus utendi et abutendi. ولكن ليس له ما يفعله بهذا الحق: فبوصفه مالك أرض ليس عنده أي شيء إذا لم يكن يملك، علاوة على ذلك، رأسمالاً كافياً لأجل زراعة أرضه. إن وهم الحقوقيين هذا يفسر ما هو على العموم، بالنسبة لهم وبالنسبة لكل قانون، مجرد صدفة، يفسر كون الأفراد يدخلون فيما بينهم في علاقات، مثلاً، يعقدون عقوداً؛ وهذه العلاقات يعتبرها الحقوقيون علاقات يمكن، حسب الرغبة، الدخول أو عدم الدخول فيها، ويتوقف مضمونها كلياً على تعسف الأطراف المتعاقدة الفردي.
وكلما كان تطور الصناعة والتجارة يخلق أشكالاً جديدة للمعاشرة، مثلاً، شركات التأمين وخلافها، كان الحق يضطر إلى المصادقة عليها بوصفها وجودهاً جديدة لاكتساب الملكية.

(12-أشكال الوعي الاجتماعي)
تأثير تقسيم العمل في العلم.
دور القمع في الدولة والحق والأخلاق وإلخ..
يجب على البرجوازيين أن يعطوا أنفسهم في القانون صفة المعبر عن المصالح العامة، وذلك بالضبط لأنهم يسودون كطبقة.
العلوم الطبيعية والتاريخ.
لا وجود لتاريخ السياسة والحق والعلم وإلخ.. والفن والدين وإلخ..*
_____________
لماذا يوقف الأيديولوجيون كل شيء على الرأس؟
المبشرون بالدين، الحقوقيون، السياسيون.
الحقوقيون، السياسيون (رجال الدولة على العموم)، الأساتذة في علم الأخلاق، المبشرون بالدين.
بصدد هذا التقسيم الأيديولوجي في داخل طبقة واحدة: 1) انعزال المهن عاقبة لتقسيم العمل. وكل منهم يعتبر مهنته مهنة حقيقية. وبصدد صلة مهنتهم بالواقع، يخلقون لأنفسهم، بمزيد من الحتمية، وهماً مفاده أن هذا مشروط بطبيعة المهنة المعنية. تصبح العلاقات في الممارسة الحقوقية، والسياسية، وإلخ. – في الوعي – مفاهيم؛ وبما أنها لا تعلو على هذه العلاقات، فإن المفاهيم عن هذه العلاقات تتحول في عقولهم إلى مفاهيم جامدة؛ فإن القضاة، مثلاً، يطبقون القوانين، ولهذا يعتبرون التشريع محركاً فعالاً حقيقياً. الاحترام لبضاعتهم – لأن مهنتهم تمت بصلة إلى العام.
فكرة الحق. فكرة الدولة. المسألة موقوفة على رأسها في الوعي العادي.
___________
الدين هو منذ بادئ بدء وعي التعالي، الناشئ من التبعية الفعلية.
يجب التعبير عن هذا بأسلوب أبسط.
_________________
التقليد في ميدان الحق والدين وإلخ..
***
· انطلق الأفراد دائماً وينطلقون دائماً من أنفسهم، وعلاقاتهم هي علاقات مجرى حياتهم الفعلي. فمن أين ينج واقع أن علاقاتهم تكتسب وجوداً مستقلاً، معارضاً لهم؟ وواقع أن قوى حياتهم بالذات تصبح قوى تسود عليهم؟
إذا أجبنا بعبارة واحدة: تقسيم العمل الذي تتوقف درجته على تطور القوى المنتجة المبلوغ في اللحظة المعنية.
__________
ملكية الأرض. الملكية المشاعية. الملكية الإقطاعية. الملكية الحديثة.
الملكية المراتبية. الملكية المانيفاكتورية. الرأسمال الصناعي.




*ــــ كتبه ماركس وإنجلس في بروكسل، بين تشرين الثاني (نوفمبر) 1845 وآب (أغسطس) 1846. النص الأصلي بالألمانية





* حرفياً: الرأس الميت. وهنا بمعنى: البقايا الميتة. الناشر.
* وبعد ذاك، ورد في الصيغة الأولى من المبيضة المقطع المشطوب التالي:
»(ص2) ولهذا تقدّم النقد الخاص لمختلف ممثلي هذه الحركة ببعض الملاحظات العامة التي توضح المقدمات الأيديولوجية المشتركة بينهم جميعاً. وسيكون من هذه الملاحظات ما يكفي لوصف وجهة نظر نقدنا بقدر ما يكون ذلك ضرورياً لفهم وتعليل بعض النبذات الانتقادية اللاحقة. ونحن نوجه هذه الملاحظات (ص2) ضد فورباخ بالذات، لأنه الشخص الوحيد الذي قام بخطوة ما على الأقل إلى الأمام والذي يمكن تحليل مؤلفاته de bonne foi (بصورة جدية).
(1) الأيديولوجية على العموم، والفلسفة الألمانية على الخصوص
أ- نحن لا نعرف سوى علم واحد وحيد، هو علم التاريخ. من الممكن النظر إلى التاريخ من جانبين، من الممكن تقسيمه إلى تاريخ الطبيعة وتاريخ الناس. ولكن هذين الجانبين مترابطان بصورة لا انفصام لعراها: فما دام الناس موجودين، فإن تاريخ الطبيعة وتاريخ الناس يشترطان أحدهما الآخر بصورة متبادلة. إن تاريخ الطبيعة، أو ما يسمى العلوم الطبيعية، لا يهمنا هنا؛ أما تاريخ الناس، فيتعين علينا الاهتمام به، لأن الأيديولوجية كلها تقريباً تتلخص إما في فهم هذا التاريخ فهماً مشوهاً، وإما في الانصراف التام عنه. وإن الأيديولوجية ذاتها ليست سوى أحد جانبي هذا التاريخ.
وفيما بعد يرد في الصيغة الأولى للمبيضة مقطع غير مشطوب عن مقدمات الفهم المادي للتاريخ. وهذا المقطع يرد في هذه الطبعة ضمن نص الصيغة الأساسية (الثانية) للمبيضة بصورة الفقرة 2 (انظر ص 107- 109). الناشر.
* مقولات ف. شتراوس وب. باور الأساسية. الناشر.
** مقولات ل. فورباخ وم. شتيرنر الأساسية. الناشر.
*** ثم شطب من المخطوطة ما يلي: »مع ادعائه القيام بدور المنقذ المطلق للعالم من كل شر. فقد كان هؤلاء الفلاسفة يعتبرون دائماً الدين ويفسرونه بوصفه السبب الأخير لجميع العلاقات التي يكرهونها، بوصفه العدو الرئيسي«. الناشر.
**** ماكس شتيرنر. الناشر.
***** كلياً. من البداية إلى النهاية. الناشر.
* المقصود هنا ل. فورباخ وب. باور وم. شتيرنر. الناشر.
* وفيما بعد شطب في المخطوطة ما يلي: »إن العمل التاريخي الأول الذي يقوم به هؤلاء الأفراد والذي يتميزون بفضله عن الحيوانات، لا يقوم في كونهم يفكرون، بل يقوم في كونهم يبدأون ينتجون وسائل العيش الضرورية لهم«. الناشر.
* وفيما بعد، شطب من المخطوطة ما يلي: »ولكن هذه العلاقات لا تشترط تنظيم الناس البدئي الأولي، الناشئ بصورة طبيعية، ولا سيما الفوارق العرقية بينهم وحسب، بل تشترط كذلك كل تطوره اللاحق – أو انعدام التطور – حتى أيامنا«. الناشر.
* القسم الباقي من الصفحة في المخطوطة يخلو من أي نص. ثم يبدأ من صفحة جديدة موجز عن جوهر الفهم المادي للتاريخ. أما شكل الملكية الرابع، البرجوازي، فيتناوله البحث أدناه، في القسم الرابع من الفصل، الفقرات 2-4. الناشر.
** الصيغة الأولية: »إن أفراداً معينين في ظل علاقات إنتاج معينة«. الناشر.
* وفيما بعد شطب من المخطوطة ما يلي: »إن التصورات التي يصنعها هؤلاء الأفراد لأنفسهم هي تصورات، إما في علاقتهم بالطبيعة، وإما عن العلاقات فيما بينهم، وإما عمّن هم أنفسهم. وواضح أن هذه التصورات هي في جميع الأحوال تعبير واع – فعلي أو وهي – عن علاقاتهم الفعلية، ونشاطهم، وإنتاجهم، ومعاشرتهم، وتنظيمهم الاجتماعي والسياسي. أما الرأي المعاكس، فليس ممكناً إلا في حال افتراض روح خاص ما آخر، علاوة على روح الأفراد الفعليين، المشروطين مادياً. وإذا كان التعبير الواعي عن علاقات هؤلاء الأفراد الفعلية وهمياً، إذا كانوا يضعون تصوراتهم واقعهم على رأسه، فإن هذا هو أيضاً عاقبة لمحدودية أسلوب نشاطهم المادي، ولعلاقاتهم الاجتماعية المحدودة النابعة من هنا«. الناشر.
* الصيغة الأولية: »إن الناس هم منتجو تصوراتهم وأفكارهم، وإلخ.. أي على وجه الدقة الناش المشروطين بأسلوب إنتاج حياتهم المادية ومعاشرتهم المادية، وتطورها اللاحق في البنية الاجتماعية والسياسية«. الناشر.
** الحجرة المظلمة، جهاز بشكل صندوق في جداره الأمامي فتحة صغيرة، أشعة النور التي تمر عبر الفتحة تعطي في الجدار المقابل صورة معكوسة عن الشيء. الناشر.
* ملاحظات ماركس على الهامش: »التحرر الفلسفي والفعلي«. »الإنسان على العموم. الوحيد. الفرد«. »الظروف الجيولوجية والهيدروغرافية وخلافها. الجسم البشري. الحاجة والعمل«. الناشر.
** المخطوطة متضررة: الطرف الأسفل من الورقة مقطوع، ولا وجود لسطر واحد من النص. الناشر.
* ملاحظة ماركس على الهامش: »الجمل والحركة الفعلية. أهمية الجمل بالنسبة لألمانيا«. الناشر.
** ملاحظة ماركس على الهامش: »اللغة هي لغة الواقع«. الناشر.
*** هنا تنقص خمس صفحات من المخطوطة. الناشر.
* NB. إن خطأ فورباخ لا يتلخص في كونه يخضع الظاهر الحسي الواقع عند الأنف للواقع الحسي المثبت عن طريق دراسة أدق العوامل الحسية، بل يتلخص في كونه لا يستطيع في آخر المطاف أن يتغلب على الحساسية بدون أن ينظر إليها ""بعيني"" الفيلسوف أي من خلال ""نظارتيه"".
* غوته ""فواست"". و""مقدمة في السماء"". صيغة معدلة. الناشر.
** منطقة الريف. الناشر.
* الولادة التلقائية. الناشر.
* وفيما بعد، شطب من المخطوطة ما يلي: »وإذا كنا نتناول هنا مع ذلك التاريخ بمزيد من التفصيل، فليس ذلك إلا لأن الألمان اعتادوا أن يتصوروا، عند سماع كلمتي ""التاريخ"" و""التاريخي""، كل شيء، ما عدا الواقع، الأمر الذي يشكل القديس برونو ""المعمول الفصيح"" مثالاً باهراً على ذلك«. الناشر.
** ملاحظة كارل ماركس على الهامش: ""التاريخ"". الناشر.
*** راجع هذا المجلد، ص142. الناشر.
**** ملاحظة كارل ماركس على الهامش: ""هيغل (28). الظروف الجيولوجية، الهيدروغرافية، وما شاكل. الأجسام البشرية. الحاجة، العمل"". الناشر.
* ملاحظة ماركس على الهامش: »إن للناس تاريخاً لأنه يتعين عليهم أن ينتجوا حياتهم، وينتجوها بطريقة معينة. وهذا ما يشترطه تنظيمهم البدني كما يشرطه وعيهم«. الناشر.
** فيما بعد، شطب في المخطوطة ما يلي: »إن موقفي من محيطي هو وعيي«. الناشر.
* ملاحظة ماركس على الهامش: »ومع هذا يتطابق الشكل الأول للأيديولوجيين الكهنة«. الناشر.
* ملاحظة ماركس على الهامش: »الدين. الألمان مع الأيديولوجيا في حد ذاتها«. الناشر.
** ملاحظة ماركس على الهامش مشطوبة: »النشاط ولتفكير أي النشاط الخالي من الفكر، والتفكير غير الفعال«. الناشر.
* بقرب هذا المقطع، كتب ماركس على الهامش نصاً يرد في هذه الطبعة مباشرة بعد هذا المقطع، بصورة المقطعين في الفقرة التالية. الناشر.
* فوق تتمة هذا النص الذي يبدأ في الصفحة التالية من المخطوطة، ملاحظة ماركس: ""الشيوعية"". الناشر.
* ملاحظة ماركس على الهامش: »المعاشرة والقوة المنتجة«. الناشر.
** نهاية الصفحة في المخطوطة فارغة. ثم يبدأ من صفحة جديدة عرض استنتاجات نابعة من الفهم المادي للتاريخ. الناشر.
* ملاحظة ماركس على الهامش: ""حول إنتاج الوعي"". الناشر.
* ملاحظة ماركس على الهامش: »لهؤلاء الناس مصلحة في الحفاظ على أوضاع الإنتاج الحالية«. الناشر.
* وفيما بعد، شطب في المخطوطة ما يلي: »شكلاً لنشاط تكون السيادة في ظله..«. الناشر.
** وفيما بعد، شطب في المخطوطة: »ولكن بينما جميع الشيوعيين سواء في فرنسا أم في بريطانيا وألمانيا، متفقون من زمان فيما بينهم بصدد ضرورة الثورة، يواصل القديس برونو التخيل بهدوء، ويظن أن ""النزعة الإنسانية الفعلية""، أي الشيوعية، تحل ""مكان الروحانية"" (التي لا تشغل أي مكان) لهدف واحد فقط، هو أن تصبح موضوعاً للاحترام. وآنذاك – كما يواصل التخيل – ""يأتي الخلاص أخيراً، وتصبح الأرض سماء والسماء أرضاً"". (ليس بوسع اللاهوتي في أي حال من الأحوال أن ينسى السماء) ""وآنذاك سينداح الفرح والغبطة ألحاناً سماوية من جيل إلى جيل"" (ص140). إن القديس أباً للكنيسة سيندهش كثيراً عندما يحل، بصورة مفاجئة بالنسبة له، يوم الدينونة، حيث يتحقق كل هذا – اليوم الذي ستكون هالة المدن المحترقة بجره وصباحه – عندما تدوي في وسط هذه ""الألحان السماوية"" أنغام ""المارسيليز"" و""الكرمانيول""، بمصاحبة قصف المدافع حتماً. وتقيس المقصلة الإيقاع؛ عندما يهدر ""الجمهور"" الخسيس بـ ca ira,ca ira ويلغي ""وعي الذات"" بواسطة عمود مصباح الشارع. وأقل ما لدى القديس برونو إنما هو المبررات لكي يرسم لنفسه صورة معزية عن ""الفرح والغبطة من جيل إلى جيل"". نحن نمتنع عن الاستمتاع بلذة تصورنا سلفاً لمسلك القديس برونو في يوم الدينونة. كذلك من الصعب أن نقرر ما إذا كان يجب اعتبار البروليتاريين الذين يقومون بالثورة ""جوهراً""، ""جمهوراً"" يريد أن يسقط النقد، أم ""فيضاً"" للروح لا تزال تنقصه المتانة الضرورية لأجل هضم خلاصة الأفكار الباروية«. الناشر.
* تعبير ب. باور. الناشر.
* ملاحظة ماركس على الهامش: »إن ما يسمى بعلم التاريخ الموضوعي كان تلخص على وجه الضبط في كونه يدرس العلاقات التاريخية بمعزل عن النشاط. طابع رجعي«. الناشر.
* المسرح العالمي. الناشر.
* أي ب. باور، ول. فورباخ، وم. شتيرنر. الناشر.
* راجع المجلد، ص 127- 131. الناشر.
* ملاحظة ماركس على الهامش: »العمومية تناسب: 1-الطبقة contra (ضد) المرتبة، 2-المزاحمة، المعاشرة العالمية وإلخ، 3-العدد الكبير لأفراد الطبقة السائدة، 4-الوهم بصدد المصالح المشتركة. هذا الوهم صادق في البدء، 5-خداع الأيديولوجيين لأنفسهم وتقسيم العمل«. لناشر.
* ملاحظة ماركس على الهامش: »الإنسان بصفته إنساناً« = »الروح الإنسانية المفكرة«. الناشر.
* حانوتي. الناشر.
** هنا تنقص أربع صفحات من المخطوطة. الناشر.
* صناعة الاستخراج. الناشر.
* المخطوطة متضررة هنا. الناشر.
* ملاحظة ماركس على الهامش: »والرسم على الزجاج في القرون الوسطى«. الناشر.
* المخطوطة متضررة هنا. الناشر.
* مرحظة ماركس على الهامش: »البرجوازية الصغيرة المرتبة المتوسطة، البرجوازية الكبيرة«. الناشر.
* بورغر – بالألمانية Burger 1-ساكن المدينة، 2-تافه، ضيق الأفق. الناشر.
* المخطوطة متضررة هنا. الناشر.
* أكثر أو أقل. الناشر.
* ملاحظة ماركس على الهامش: »سبق وجود الطبقة عند الفلاسفة«. الناشر.
* ملاحظة ماركس على الهامش: »إنها تبتلع أولاً فروع العمل التي تخص الدولة مباشرة، ثم جميع +- (أكثر أو أقل) المراتب الأيديولوجية«. الناشر.
** لمعرفة ما يعنيه تعبير ""القضاء على العمل"" (Aufhebung der Arbeit) راجع هذا الكتاب، ص 127، 175، 182- 187. الناشر.
* ملاحظة إنجلس على الهامش: »(فورباخ: الوجود والجوهر)«. راجع هذا الكتاب، ص 145- 146. الناشر.
* القطع الصغيرة من الأرض. الناشر.
* بصورة أكثر أو أقل. الناشر.
* ضد الإنسان. الناشر.
** خلافاً لإرادتها. الناشر.
*** ملاحظة ماركس على الهامش: »إنتاج شكل المعاشرة نفسه«. الناشر.
* بدوره. الناشر.
* أو شارل الأول أو شارل الأكبر. الناشر.
* رابطة الأفراد برابطة الرساميل. الناشر.
* ملاحظة إنجلس على الهامش: ""سيسموندي"". الناشر.
* ملاحظة ماركس على الهامش: ""الاغتراب الذاتي"" الناشر.
** تعبير ""burgerliche Gesllschaft"" يعني ""المجتمع المدني"" وكذلك ""المجتمع البرجوازي"". الناشر.
* أي فكري، أيديولوجي. الناشر.
** وضع اليد على أساس حق مواطني روما. الناشر.
* ملاحظة إنجلس على الهمش: ""الرباء!"". الناشر.
* حق الاستعمال وسوء الاستعمال، أي حق المرء في التصرف بالشيء كما يطيب له. الناشر.
** سوء الاستعمال. الناشر.
*** الحق في سوء الاستعمال. الناشر.
**** ملاحظة ماركس على الهامش: »العلاقة بنظر الفلاسفة تعني الفكرة. وهم لا يعرفون غير علاقة ""الإنسان – النوع"" بنفسه، ولهذا تصبح جميع العلاقات الفعلية بنظرهم أفكاراً«. الناشر.
* ملاحظة ماركس على الهامش: »""الجماعة"" (dem ""Gemeinwesen"") بالصورة التي تظهر بها في الدولة القديمة، والنظام الإقطاعي، والملكية المطلقة – هذه الصلة تناسبها على الأخص التصورات الدينية«. الناشر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى