محمد سعيد العريان - المتنبي يعشق...!

(كل أدباء العربية على أن المتنبي نشأ نشأة السواد من أهل الكوفة، وأن حياة الكفاح شغلته وملأت تأريخه حتى لم يكن فيها من الفراغ ما يهيئ له أن يتذوق الحب فيترجم عن إحساس العاشق.

(ولكن صديقنا الأستاذ محمود محمد شاكر يرى رأياً غير ذلك؛ فيزعم أن المتنبي علوي منكور النسب، وأنه كانت له في بلاط سيف الدولة قصة غرام بينه وبين خولة أخت الأمير، كان لها أثر أي أثر في شعره وحياته من بعد

(وهو رأي جديد في تأريخ المتنبي، أحسب أن طائفة كبيرة من أدبائنا لا تطمئن إليه ولا تأخذ به، حرصا على التقاليد. . . أو حفاظا على القديم وحسب. . .

(أما هذا الرأي عندي فهذه قصته، تجلو غامضة، وتؤلف غريبه، وتكشف عنه على ضوء من الفن يهيئ للباحث المصنف أن يجادل أو يقتنع. . .)

مضى الفتى العلوي الثائر المتوثب (أبو الطيب المتنبي)، تتقاذفه الفلوات من غربة إلى غربة، وتتراماه الأحداث من بلد إلى بلد، وتنوشه من كل جانب سهام البغي والشر والحسد، ويقعد له في كل مرصدٍ كيدٌ يتربص. . .

ممن أبوك يا فتى؟ وما بلدك؟. . . وهل له أن يجيب؟

أما الأولى فمن دونها سيوف (الأدعياء) تنكر عليه أن يجهر بعلويته، وماله قبلُ بأن ينازلهم فيثبت لهم. . .!

وأما الأخرى. . . وا أسفاه. . .! هذه جدته على الفراش تحتضر، وَحِدَةً منقطعة فريدة، فيأبون عليه أن يدخل (الكوفة) ليتزود منها بالنظر الأخير. . .!

لمن الملك اليوم؟ إنه للروم والترك والعجم، ولا سلطان لغير الروم والترك والعجم. . . في العراق، وفي مصر، وفيما بين العراق ومصر. . . في الشرق والغرب يبسط الأعاجم سلطانهم على الدولة العربية، فأيان يلتفت الشاعر العربي لا يجد إلا الروم. ومن أين لأبي الطيب أن يسكن إلى ذاك أو يستقر إليه؟ إنه ليرمي بصره إلى هنا وهناك، فلا يرى إلا ما يحزنه ويتهاوى بآماله؛ لقد خرج إلى الدنيا طريداً يتيماً، ينكرون عليه نسبه، وينكرون عليه طموحه؛ ثم ها هو ذاك وقد سلخ أربعا وثلاثين يتلفت حواليه فما تزيده النظرة إلا شعورا بالوحدة واليتم والغربة. . . ولكن في أعراقه يفور دم العروبة، وفي أعصابه تنبض أماني الشباب، وفي نفسه تهمس ألحان الشعر.

(ستكون أميراً يا أبا الطيب، فأجمع عزيمتك على الجهاد حتى تبلغ، فتنال منالك من (الشامتين)، وتديل للعربية من (دولة الخدم). . .)

وأنطلق الشاعر المتوثب يطوي البيداء مطوياً على هم وألم، وفي نفسه أحقاد تثور، وأماني تتضطرع. . . حتى انتهى إلى بني حمدان.

هنا دولة العرب، وهنا عز العروبة، وهنا تستقر الأماني لتستجم للجهاد. وأجتمع الشاعر العربي الثائر، بالمجاهد العربي الظافر؛ وانعقدت أواصر الود بين أبي الطيب المتنبي وسيف الدولة بن حمدان. وآثره الأمير وأدناه وفتح له بابه. . . فإذا هو منه كبعض أهله. . . وتراءيا قلباً لقلب، فما بينهما سر ولا دونهما حجاب؛ وتكاشفا رأياً لرأي، فما هو إلا فكرة واحدة تسعى إلى هدف؛ وَتَنوَّرَا الأمل المشترك من بعيد، فإذا هما على الخلوة يتذاكران الرأي، ويتحايلان للظفر.

وصار شاعر الأمير صفيه وخليله وصاحب سره، يلقاه أيان يريد بلا إذن ولا ميعاد. . . وعرفه حاجب الأمير وأهله، وعرفته (خولة) بنت حمدان، فعرفت رجلها وعرف. . .

وقال أبو الطيب: (لله أنتِ يا أبنة المجد! لعينيك كنت أطوي البيد وتتقاذفني الفلوات!)

وقالت خولة: (ومن أجلك أنت يا أبا الطيب، كانت تخيل لي الأحلام ما ليس من دنياي!)

وطوت آخر كلماتها في ابتسامة، وأطبق الشاعر شفتيه على كلام؛ وقالت له عيناها. . . وقالت له عيناه. . .

ودخل الشاعر في تأريخ جديد. . .

وقال المتنبي لسيف الدولة: (أتراك يا أميري تعرف من أمري ما يقنعك بالرضا. . .؟) فوعده سيف الدولة أن يزوجه خولة. . .

وراح الشاعر يحلم. . . ثم عاد يحاول أن يلقى صاحبته فيقول لها وتقول له، ولكن الباب كان محكم الغلق؛ فلوى وجهه عن بابها وفي نفسه شوقٌ وحنين، ولكنه استمر يحلم. . .!

ومضى ينشد أميره من شعره. . . أذلك شعر المتنبي الثائر المتكبر ربيب الوحشة وطريد الفلوات؟ أم هو الفن النسوي البديع يهيئ للشاعر مادته ويصنع له بيانه. . .؟ أسمعْتَ وسوسة القُبَل. . .؟

وسمع سيف الدولة وطرب، وسمع جلساؤه فعرفوا الجرس والرنين؛ وهمس شاعر في أذن صاحبه، ومال صديق على من يليه، وقال الخامس للسادس: (إن شاعر الأمير لعاشق!) وامتدت للكلام أطراف وأذناب. . .

وراح الشاعر ثانية يحاول أن يلقى صاحبته، فإذا من دون الباب بواب. . . وعاد إلى الأمير يستنجزه الوعد، فإذا الأمير في شغل عنه بالروم وحرب الروم، فهو يستمهله إلى حين. . . ورجع إلى نفسه يستلهمها الصبر فلا تلهمه، ويستعينها على ما يجد فلا تعينه. . . ونظر حواليه فإذا عيون تنظر، وإذا شفاه تبتسم، وإذا ألسنة في أفواه تلجلج بكلام. . .

كم يلقى العاشق من نأى الحبيب والدار قريب. . .؟

وقال الرجل لنفسه: (ما أنا والأمير وأخت الأمير: إن كانت لي فما يحول بيني وبينها؟ وإن كانت عدة بلا وفاء فما مُقامي؟)

وقالت له نفسه: (هون عليك يا صاحبي، لا حبٌ بلا وجد؛ إلا أن تكون نارٌ بلا إحراق!)

فعاد الشاعر ينتظر ويحلم، ولكن الأيام لا تنتظر، ومضى شهر في أذيال شهر، وتصرم عام وراء عام، والشاعر العاشق على صبره يرجو ويتقي. . .

وقال (أبو الفراس الحمداني) الشاعر لصاحبه: ما هذا الرجل بيني وبين خولة ونحن أولاد عمومة؟ أما كفاه مجلسه من الأمير؟ أبعدنا وأدناه، وحرمنا وأعطاه، وأسكتنا وأستمع أليه؟ أفيطمع بعد ذلك في نسب الأمير وصهره. . .؟)

وجاءت مقالته تسعى إلى المتنبي فنالت منه. . .!

(أبو فراس يطمع في خولة؟ ولكنها مسماةٌ علىّ؛ أيقف بين الأمير والوفاء بما وعد أن أبا فراس من عمومته. . .؟ ومن أكون إن كان ذلك موضعي من نفس الأمير. . .؟)

فعادت نفسه تقول: (بعض هذا يا صاحبي، إن الحب حيلة الحياة، فلست تبلغ منه بالكبرياء ما تبلغ منه بالصبر والحيلة. . .!)

ولكن العاشق المتكبر لم يستمع هذه المرة إلى نفسه وهواه؛ لقد غلبته الكبرياء فكفر بالحب؛ وهل كان للمتنبي أن يخضع للحب أو يتضرع. . .؟ وتوزعه العشق والكبرياء، وتقاسمته عزة الرجل ورقة العاشق. . . وغدا على مجلس الأمير ينشده، فإذا الحب المستور يستعلن، وإذا النفس الثائرة تفور، وإذا (أنت) على لسان الشاعر المادح تعود (أنا)، وإذا هو يفتخر وكان يريد أن يمدح. .

وفهم سيف الدولة ما يعني، وفهم جلساء سيف الدولة؛ ولكن حرمات الأمير الكريم ردت الكلام إلى الأفواه، فما استطاع منهم أحد أن يقول: إن في بيت الأمير قصة غرام

ولكن (أبا العشائر الحمداني) لم يسكت، فأرسل غلمانه يأخذون على العاشق الجريء طريقه. . ونجا الشاعر من كيد كان يراد، ولكنه لم ينتقم، وشفع للعدو عند الشاعر أنه منتسب إلى الحبيب.

واستيأس المتنبي ونفذ صبره، فأزمع الرحلة إلى بعيد لعله أن ينسى. . .

وفارق سيف الدولة متكبراً عزيزاً أبياً، ولكنه خلف قلبه وراءه، وخلف الأمل في الملك والجاه والسعادة، وأيقظته الحقيقة بعد حُلم دام تسع سنين؛ ومضى على غير وجهٍ وقلبُه يتلفت إلى تلك التي خلفها وراءه؛ وعادت تتقاذفه البلاد، وتتراماه القفار، يساوم للمجد، ويجاهد للأمارة، لعله يعود إلى من يحب وعلى رأسه تاج. . . .!

ومضت سنوات وقلب العاشق ما ينفك ينبض، وما يبرح يذكر هواه ومن أحب؛ فما ينشد شعراً إلا وفيه لوعة من أثر الفراق، أو حسرة من وحشة الحبيب النائي. . .!

وا أسفا لمشتاقٍ بلا أمل. . . تمضي لياليه بغير جديد، وتنقضي أيامه على غير ميعاد، مغيظاً على بعده (غيظ الأسير على القد. . .!)

ليت شعري. أكان هو وحده المعذب الملتاع بهذا الفراق الذي أختاره فراراً بكبريائه. . .؟

ودخل الكوفة يطلب العزاء في الوطن الذي حرم دخوله منذ الشباب، تتجاذبه الكبرياء والهوى، وتتدافعه الأماني والذكريات، ويسترجع الماضي ويهتف بالغد. . . ولكن ما استقرت به النوى حتى جاءه النبأ. . . ماتت خولة. . .!

وتهاوت آمال الشاعر أملاً أملاً فما عاد يستمسك، ونالت منه الحسرة والتفجيع فانصدعت كبده. وسكت أمير شعراء العربية سنتين لا ينشد، والشعر يترقرق دموعاً في عينيه ويتصعد زفرات. . .!

يا عجبا! إن النفس لا تجيش بأبلغ الشعر إلا حين يتأبى البيان على اللسان. . .! وأستنجزه الحب على أن يفي فما تلبث. وأصابته الطعنة القاتلة بعد عام ثالث. . .!

وسكت شاعر العربية إلى الأبد، ولكن الناس ما تزال تتحدث عنه بعد ألف سنة من عمر الزمان ولن تزال. . .

وكتب في تأريخ الأدب قصة غرام عجيبة، لم يعرفها الناس إلا بعد ألف سنة، لأن العاشق فيها أكبر وأعظم من أن يقول؛ (أنا أحب. .!)

وظلت هذه القصة سراً في ضمير الغيب كل هذا الزمان، لتكون بهذا الكتمان العجيب رمزاً عجيباً لصبر هذا الشاعر العاشق: أبي الطيب المتنبي. . .

محمد سعيد عريان


مجلة الرسالة - العدد 153

بتاريخ: 08 - 06 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى