إلى أبي العلاء المعري من أحمد بوزفور

2

السلام عليك أيتها الحكمة الإنسانية الشاسعة السعة، السحيقة العمق، الخالدة الإنارة، ما بقي على هذه البسيطة قارئُ عربيةٍ مستنير. أما بعد
فمن ينكر ياشيخي الجليل أنك ابن بجدتها في الأدب والعلم ( والبجدة هي الأصل أو الصحراء أو الأرض والتراب وهي مجازا دِخْلة الأمر وباطنه وحقيقته. والبِجاد الكساء أو القطعة من الثوب، وقد مازح معاوية الأحنف بن قيس ( التميمي ) فسأله: ما الشيء المُلفّفُ في البجاد؟ فقال الأحنف: إنه السخينة ياأمير المومنين. أراد معاوية قول الشاعر يهجو تميما:
( إذا ما مات ميْتٌ من تميم = فسرك أن يعيش فجئ بزاد
بخبز أو يتمر أو بسمن = أو الشيء الملفف في البجادِ )
والشيء الملفف في هذا البيت هو وطب اللبن كانوا يحيطونه بخرقة ليصونوه. وكانت تميم تُعَيّر بوطب اللبن. وأراد الأحنف بالسخينة قريشا التي كانت تعير بأكل السخينة ( حساء من طحين كان العرب يجتزئون به في أيام الجدب والجوع ) وإلى قريش كان يقصد شاعر الرسول كعب بن مالك حين قال:
( زعمت سخينةُ أنْ ستغلبُ ربَّها = وليُغلبنّ مُغالبُ الغلّاب )
(......)
وابن شجرتها في النسب المُعرق في الشعر:
وهل أنت إلا شاعرٌ وابنُ شاعرٍ = وذو نسب في الشاعرين عريق )؟
أصولك وفصولك ياسيدي من سلالة لا يُجحد تفوقها وتألقها في تاريخ الأدب العربي، وأنت جُذيل هذه السلالة المحكك ومحكها المجدول، فته إن شئت كما شئت فمن يُحاجّك إلا جاهل أو جاحد أو لئيم؟ ولكنه فخر المكابرة كما تفضلت بالقول، وقد وعيته فطامنت منه وخفضت لنا نحن قراءك والمعجبين بك جناح الرفق من الرحمة كي تهيئنا لتقبل مفهومك التراجيدي عن الإنسان ( ولعلك ياشيخي تسأل عن معنى كلمة التراجيدي.. وأنى لي أن أشرح ما عجز عن شرحه ابن رشد، وهو عندنا في المغرب مفكر وفيلسوف شرح أرسطو وقرب الحكمة من الشريعة أو الشريعة من الحكمة، وفهم من التراجيديا الإغريقية شيئا يقرب من النبل السيئ الحظ أو المجد الصريع أو الموت المولود مع كل مولود والنامي فيه حين ينمو وقاتله حين يموت ). وقد عرفنا من سيرتك المبثوثة في كتب الأدب والتي تفضل عالم من علمائنا المعاصرين كفيف مثلك اسمه طه حسين، فأشرف على جمع ما قاله القدماء فيك وقالوه عنك في كتاب واحد أسماه ( تعريف القدماء بأبي العلاء )... عرفنا من هذه السيرة أنك أُصبتَ بالعاهة صغيرا ولم تعد تذكر من الألوان، كما قلت في رسالتك، إلا اللون الأحمر. وقد نصحتُ بعض طلابنا في الدراسات العليا الذين يحضّرون أطاريحهم في الأدب بتتبع هذا العرق في شعرك، وقلت لهم إنني أحدس أن لهذا اللون معنى خاصا في شعرك لا يقاربه لون آخر، وضربت لهم بعض الأمثلة، ومنها قولك عن البرق:
( إذا ما اهتاج أحمرَ مستطيرا = حسبت الليل زنجيا جريحا )
ومنها قولك في قصيدتك الشهيرة:
( عللاني فإن بيض الأماني = فنيت والزمان ليس بفان )
وأنت تتحدث عن سهيل، وهو نجم يضرب إلى الحمرة:
( وسهيل كوجنة الحِب في اللو = ن وقلب المحبّ في الخفقان
يسرع اللمح في احمرار كما تســـ = ــرع في اللمح مقلةُ الغضبان
ضرّجَتْه دما سيوفُ الأعادي = فبكت رحمةً له الشّعريان
قدماه وراءه وهو في العجــ = ــز كساع ليست له قدمان
ثم شاب الدجى وخاف من الفجــ = ــر فغطى المشيبَ بالزعفران )
ومنها قولك عن السيف:
( ودبّت فوقه حُمرُ المنايا = ولكن بعدما مُسخت نمالا )
والعرب تشبه فرند السيف أي متنه وما عليه من الوشي بآثار النمل، يقول امرؤ القيس:
( ومهند عضب مضاربه= في متنه كمدبّة النمل ).

***

وبعدُ فليس عجيبا ياشيخي الجليل أن تصحح لراوية المتنبي ما يرويه من شعره، ولو أدركتَ المتنبي وهو حي وتحاورتما في شعره لكان قد قال: ( المعري أعلم بشعري مني ومن ابن جني ). أما التصحيف وطرائفه فكثيرة، ولا سيما ما يُروى منها عن عصر انتقال الثقافة العربية من الشفوي إلى المكتوب، وفي هذه الطرائف المفرح والمحزن والممتع، فمن المحزن ما يروى من أن سليمان بن عبد الملك كتب إلى ابن حزم عامله على المدينة أن أحص مَن قِبَلَك من المخنثين، فصحّف فخصاهم. ومن المفرح ما يروى من أن امرأة عجوزا جاءت إلى الفرزدق فقالت له: إني أستجير بقبر غالب ( أب الفرزدق ) أن تشفع لي لدى قائد جيش الفتوح أن يرد عليّ ابني الوحيد، فكتب الفرزدق إلى القائد أبياتا يرجوه فيها إطلاق ابن العجوز، وسمّاه، فلم يدر القائد هل المقصود هو ( حبيس ) أو ( خنيس... ) فأطلق كل من في عسكره ممن تسمى باسمهما. ومن الطريف الممتع ما رواه عبد الله بن بكر السهمي قال: دخل أبي على عيسى بن جعفر وهو أمير البصرة فعزّاه عن طفل مات له، ودخل بعده شبيب بن شبة فقال: أبشر أيها الأمير فإن الطفل لا يزال محبنظيا على باب الجنة يقول: لا أدخل حتي يدخل والداي. فقال له أبي: ياأبا معمر دع الظاء والزم الطاء ( محبنطيا ). ( والمحبنطئ الممتنع المتغضب المستبطئ ). فقال له شبيب: أتقول لي هذا وما بين لابتيها أفصح مني ( وكان سكان المدينة: يثرب يقولون هذه العبارة لأن يثرب تقع بين لابتين )، فقال له أبي: وهذا خطأ ثان. من أين للبصرة لابة، واللابة حجارة سود والبصرة حجارة بيض؟؟ على أن بعض العلماء كانوا، حتى وهم يصحّفون، يختارون من الصيغ التي يترددون بينها صيغة معقولة أو قريبة من الأصل أو ربما أحسن منه، فقد قرأ الأصمعي على أبي عمرو بن العلاء شعر الحطيئة فقرأ قوله للزبرقان ( وغررتَني وزعمتَ أنك لابنٌ في الصيف تامرْ )أي كثير اللبن والتمر، فقرأها: ( لا تني بالضيف تامُرْ ) يريد: لا تتوانى عن ضيفك وتأمر بتعجيل القِرى له، فقال له أبو عمرو: أنت والله في تصحيفك هذا أشعر من الحطيئة. وأنقل من كتبك ياشيخي قولك في تعريف التصحيف: ( أصل التصحيف أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره عن الصواب ). وقد ذكّرني حديثك عن التصحيف وعن ( المَوضع والمُوضع ) وتفسيرك للمُوضع : من ( أوضع يوضع ) بقصيدة لامرئ القيس أولها:
( أرانا مُوضعين لأمر غيبٍ = ونُسحرُ بالطعام وبالشراب
عصافيرٌ وذِبّانٌ ودُودٌ = وأجرأ من مُجلّحة الذئابِ )
وبرجز لدريد بن الصمة يقول فيه ( ياليتني فيها جَذَعْ/ أخبّ فيها وأضعْ ) وبشعر لعمر بن أبي ربيعة يقول فيه:
( تبالهن بالعرفان لما عرفنني = وقلن امرؤ باغٍ أكلّ وأوضعا
وقرّبن أسباب الهوى لمتيّم = يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا
فلما توافقنا وسلمتُ أشرقت = وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا )
وكلمة ( باغ ) في بيت عمر تعني الناشد الذي أضل ناقته فهو يبحث عنها وينعتها لمن يسألهم، وكان عمر قد تنكر في زي أعرابي مُضلّ كي يتقرب من نسوة خرجن يتنزهن خارج المدينة. وأين يُذهب بنا في هذه الكلمة ياشيخي عن قوله تعالى في سورة التوبة ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سمّاعون لهم ) ويقول المفسرون عن كلمة ( لأوضعوا ) هنا : أي لأسرعوا السير بينكم بالنميمة والفتنة والبغضاء. وفي انتظار كتبك تقبل ياسيدي وإمامي الخالص من حبي والعميق من احترامي وتقديري.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى