إبراهيم محمود - كافكا ومدينة الشعارات

" برج بابل " متداول على أكثر من صعيد، من المرجعية الدينية إلى الدلالية، ومن التفسير إلى التأويل، ومن التاريخ إلى الإيتيمولوجيا...الخ، كما لو أنه متعدي التسميات والمعاني.
ولا بد أن كافكا " 1883-1924 " في تناوله له في " شعار المدينة " قد تراءى الاسم من الزاوية التي اجتهد في شق طريقه التخيلي والثقافي إليها: الخلاف أولاً فأخيراً.
بدأت البدعة بالعنوان، هو لم يسم قصته بـ" برج بابل " إنما " شعار المدينة "، ولعل الفطن يدرك إلى أي مدى كان الشعار عرّاب التجاذبات والمشاحنات، لأنه يخفي ما دونه.
لم يتركز حذق كافكا على برج بابل، ولماذا هو وليس غيره، وهل بابل وحدها معنية بالبرج وليس أي مكان آخر، ومن هم هؤلاء الذين اتفقوا على بنائه وكلهم " سمنة على عسل " إذا بهم، ولا ندري عند أي نقطة، استحالوا سماً في عسل "، وهم أهل المكان بلغة يفهمونها.
كان الذي يهمهم بداية، كما هو مخطط، هو الشروع في بناء البرج ليطال السماء، وما يعنيه ذلك من تحدّي المتقلب، الفاني أرضياً، وربما من باب الانقلاب على حقيقتهم. ذلك منحى آخر في المقاربة الدلالية، لكن الصادم، ما صار فلتة، هو أنهم بدلاً من البناء إذا بهم يدخلون في نزاعات. طبعاً لا بد أن يشار هنا، إلى تلك الفزاعة الاختلاقية المقحمة في النص اللامتجانس، مهما كان محتواه: البلبلة، وبؤس التعريف، ومصادرة المعنى المجهول، حيث اختلفوا فيما بينهم. ليكون بذلك الدرس الأول لأولئك وهو ليس في الحسبان.
كافكا لا يخفيسخريته من المفارقات الكينونية لبني البشر، في مجمل رواياته وقصصه وحتى كتاباته الأخرى: التأكيد على أن هناك خللاً لم يكشَف عنه، بمثابة " لعنة " تلبست البشر، على فضيحة تاريخية، لا يشار إليها تبقيهم في الريح، خلل يفقدهم التركيز ما أن يبدأوا بتنفيذ ما خططوا له، ولأول مرة تكون الهوامش طاغية على المتون لا العكس .
بناؤو البرج تركوا بناء البرج، وانشغلوا بمساكن العمال، فكان أول النزاع، وليكون البدء بتجميل المدينة في ضوء الهدنة منعطفاً نزاعياً آخر، وهكذا دوليك، أي ما أن يكون تخطيط لفكرة والانشغال بها، إذا بأخرى تزيحها جانباً، كما لو أن اللاشعور في ركامه اللامدون يثبت على البشرية إثماً لا ينتهي سداد دينه، وليكون البرج جرّاء ذلك، كما لو أنه غير موجود، ولعلها الفكرة المدهشة في ثنايا السردية الكافكاوية الأفعوانية.
البشرية تعلَم جيداً أن هناك ما يفيدها في السلام، الصداقة، التعاون، المحبة...الخ، وما أن تهيء نفسها لذلك حتى تنشد إلى ممارسة ما لم يكن في ذهنها.
إن كل الاتفاقيات، المعاهدات، البروتوكولات، العقود الاجتماعية...الخ، لا تعدو أن تكون سعياً إلى الالتفات على الفكرة الرئيسة وتعطيبها، أي برجية الفكرة. فالحرب المستأثرة بجل أفكار البشر وتصوراتهم ورغباتهم وفنونهم...الخ، ليست أكثر من انزياح لمفهوم السلام نظير برج بابل، كأن غواية الحرب ممدوحة ومنشودة أكثر، وما في ذلك من كارثي.
ربما أمكننا النظر فيما ينظّر له السياسيون، ما ينشغل به المفكرون، ما يعيشه الأدباء والكتاب من إلهام، وما يقلق نفوس العلماء وأذهانهم، وهم يتحركون باتجاه عالم يتجاوزن فيه ما هو مهدّد لهم، أو يقض مضجعهم، فما أن يباشروا في الكتابة تعتمل داخلهم مشاعر وتصورات تكاد تعيدهم إلى نقطة " الصفر "
وليتحول " شعار المدينة ": القبضة، وما في التسمية من سخرية مريعة إلى جينة تعريفية، آفاتية أو يكاد لخلاصة الأثر في تاريخ البشر، من الذهني إلى العضلي وتجليه الغريزي.
أليس هذا ما يجري في أوساطنا: نشير بإصبعنا إلى لزوم إعمال الذهن، ونحن نثبت هذه الإصبع على الرأس، وسرعان ما ننسى حركتنا، ونحن نتكلم وقبضة كل منا تتقدمه بصورة أو بأخرى؟ أليست فكرة " القبضاي " موروثة من هذا التصور التليد ؟


إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى