حامد حفني داود - رسالة الأدب بين الأصفهاني والثعالبي - 2 -

لعلك بعد هذا العرض المنهجي - الذي أوضحته لك في المقال السابق - توافقني على أن الثعالبي كان مؤرخاً فنياً وأديباً لوذعياً، على حين كان الأصفهاني مؤرخاً استطرادياً يقصر جهوده عند سوق الأخبار وهو يكيلها لك بغير حساب أو منهج يرتضيه عرف الحدثين اليوم.

ولعل المقارنة بين الرجلين لا تقف بنا عند هذا القدر. فهناك جانب خطير أول ما يستلفت الباحث فيه سعة الأفق التي نلحظها في مؤلفات الثعالبي حيث لم يكتف بما اكتفى به الأصفهاني من مؤلفات لا تتجاوز مادة الأدب. يدلك على ذلك أنك لا ترى علماً من علوم العربية إلا وله فيه إصبع ومشاركة وجولات واسعة تميزه عن غيره.

صحيح أن الأصفهاني يشارك صاحبه في تاريخ الأدب ولكنه خالفه في الطريقة حيث لم يتجاوز هذا التاريخ الاستطرادي الصامت الذي ذكرناه. ولا نكاد نستثني من ذلك إلا شذرات اعترف له بها المؤرخون في (تاريخ النقد الأدبي).

فقد عاش الأصفهاني في عصر كان مليئاً بالأصداء النقدية، رسم النقاد خلاله خطوطهم الأولى في حياة النقد الأدبي. وقد كان ذلك عقب المعارك الأدبية التي دارت حول أبي تمام (231هـ) والبحتري (248هـ) من ناحية، وحول أبي الطيب المتنبي (354هـ) شيخ شعراء ذلك العصر، والصاحب بن عباد (315هـ) زعيم نقدة الكلام وحامل لواء الكتابة والبيان في النصف الثاني من القرن الرابع - من ناحية أخرى).

هاتان المعركتان الأدبيتان وأمثالهما في القرن الرابع خلقت جيلاً عظيماً من النقاد الذين حملوا لواء النقد ووضعوا الأسس الأولى في حياته العلمية؛ فكان من بينهم: أبو بكر محمد بن يحيى الصولي (235هـ) صاحب كتاب (أخبار أبي تمام) وأبو الفرج الأصفهاني (356هـ) والقاضي عبد العزيز الجرجاني (366هـ) صاحب كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه) وأبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (371هـ) صاحب كتاب (الموازنة بين الطائيين) والصاحب بن عباد (385هـ) صاحب كتاب (الكشف عن مساوئ ش المتنبي) وأبو منصور عبد الملك الثعالبي (429هـ) صاحب كتاب (أبو الطيب المتنبي: ماله وما عليه).

وأنت تستطيع من هذا الثبت التاريخي في حياة النقد الأدبي أن تستشف الخطوط الأولى في حياة النقد وأن تكشف اللثام عن معالمه الكبرى، ولعلك ترى معي أن الأصفهاني - رغم ما نسب إليه المؤرخون من مشاركة في (النقد الأدبي) - لم يترك لنا سفراً مخصصاً في حياة النقد كما فعل معاصروه الذين ذكرناهم لك. وأكثر من هذا ترى أن الصولي الذي كان أسبق منه في الزمن قد ترك لنا ما يصح أن نعتبره دستوراً قديماً في تاريخ النقد وهو كتاب (أخبار أبي تمام). ومن ذلك نعلم أن القول بمشاركة الأصفهاني في تدوين دعائم النقد الأدبي قول أجوف لا يستريح إليه الباحث المحقق، وعلى العكس من ذلك فإنك ترى الثعالبي - وهو آخر من ذكرتهمفي ثبت النقاد - ترك كتاباً خاصاً في النقد هو كتاب (أبو الطيب المتنبي: ماله وما عليه) ومع أن الكتاب في جملته كان صورة معادة لما جاء به سلفه الصاحب بن عباد، ولكنه على أي حال كتاب مفرد أورد فيه صاحبه كل ما ذكره الصاحب في نقد المتنبي وأضاف إليه شذرات في تاريخ الحياة النقدية وما دار بين المتنبي والصاحب من عصبية كان لها الفضل الأكبر في خلق شطرين من النقاد: شطر يتعصب للمتنبي وآخر يتعصب للصاحب.

وإذا تجاوزت معي دائرة تاريخ الأدب ودائرة النقد انكشف لك ما كان محجوباً عليك من أمر الثعالبي وشخصيته العجيبة، ورأيت كيف كان الرجل يمثل عدة أجيال في جيل، ويصور عدة مدارس في شخص واحد.

ولعل أول ما يلفت الباحث منزلة الرجل في تاريخ البلاغة، فقد انقضى القرنان: الثالث والرابع والبلاغة لا تتجاوز في مؤلفاتها الخطيرة كتاب (البديع) لأمير المؤمنين عبد الله بن المعتز، وكتاب (نقد الشعر) للكاتب قدامة بن جعفر و (كتاب الصناعتين) لأبي هلال العسكري. فلما أن كان أواخر القرن الرابع ومستهل القرن الخامس وكان الثعالبي استظلت البلاغة في ظل المدرسة الأدبية المتحررة التي أسسها ابن المعتز منذ قرن ونصف من الزمن، وكانت علومها وقتئذٍ تسمى (البديع). وقد نضج البديع عند الثعالبي نضوجاً ملموساً واتسعت أبوابه عما كان عليه. فأنواع البديع التي كانت لا تتجاوز سبعة عشر نوعاً في مدرسة ابن المعتز صارت في مدرسة الثعالبي خمسة وثلاثين نوعاً، شرحها الثعالبي في كتابه (روضة الفصاحة وبهجة البلاغة في علم البديع).

والثعالبي الذي أعتز بذاتيته في تاريخ الأدب لا ينساها حين يحدثك عن أنواع البديع، كما أنه لا ينسى أن يبدأ كتابه هذا بمقدمة فنية تناسب طبيعة المدرسة الأدبية التي كان يرأسها. وأنت تلمس ذلك حين يعرف لك الفصاحة والبلاغة، ويوضح الغرض منهما. وهو يسمى علم البديع - أو علوم البلاغة على حد تقسيمنا اليوم - علم الأدب. ويريد به الوسيلة التي تؤد بك إلى صناعة الأدب.

وهو لا يكاد يحقق هذه النهضة البلاغية التي شرحناها حتى يطالعنا بأخرى حين يضع كتباً مفردة في البديع، يجعل كل كتاب منها خاصاً بالحديث عن نوع معين من أنواع ذلك العلم.

من هذه الكتب كتاب (النهاية في الكناية) وكتاب (الإعجاز والإيجاز) وكتاب (المتشابه أو أجناس التجنيس). وتعتبر هذه الكتب في تاريخ البلاغة أول محاولة في الأبحاث البلاغية الخاصة أو المفردة في باب واحد من أبوابها. وأنت حين تقرأ الأخير منها تحس بروح النظام والمنهج الثابت الذي لا يعتريه الاضطراب والملل كما كنت تحس ذلك دائماً في (يتيمة الدهر) حين أرخ للشعراء والكتاب. وهكذا يفتح أمامنا فتحاً جديداً آخر.

ثم نتقدم خطوة رابعة فنرى أن الثعالبي الذي شارك في تاريخ الأدب والنقد وعلوم البلاغة - نراه - يرفع القواعد من المدرسة اللغوية كما رفعها من مدرسة البديع. وهنا يضع أمامنا كتابه (فقه اللغة وأسرار العربية) على نحو خاص يخالف فيه أصحاب المعجمات في وضعهم؛ حين يرتبون مفردات اللغة ترتيباً أبجدياً ثم يأخذون في تفسير معانيها. فالثعالبي لا يذهب في كتابه هذا مذهب ابن دريد (321هـ) في (الجمهرة) والأزهري (370هـ) (في التعذيب) والصاحب بن عباد (385هـ) في (المحيط) وابن فارس (395هـ) في (المجمل) والجوهري (398هـ) في (الصحاح) - مع ما بينهم من اختلاف جزئي. ولكنه يجعل المعاني محور منهجه وأساس بحثه، فيذكر لك المعنى ثم يسرد ما يدخل تحته من ألفاظ. وهو في ذلك يرتب الألفاظ ترتيباً زمنياً أو تصاعدياً أو تنازلياً أو نوعياً حسب جوهر المعنى الذي يذكره ومقتضاه.

وأرجح كثيراً أن ابن سيدة الأندلسي (458هـ) تأثر به حين وضع كتابه (المخصص) مع شيء من التوسع الذي نرجئ بيانه في مجال آخر.

ولم يقتصر الثعالبي على ما ذكرناه له من كتب في البلاغة واللغة، بل كان من النفر القليل الذين زودوا (المكتبة العربية) بكتب تزيد على الخمسة وعشرين كتاباً وليس للأصفهاني ما يقابلها.

وبعد فقد عرفت كيف كان أبو منصور الثعالبي مجدداً في تاريخ الأدب متزعماً لمدارس النقد والبلاغة واللغة في الوقت الذي كان فيه الأصفهاني لا يتجاوز دائرة التاريخ الاستطرادي الصامت فشتان ما بين الرجلين!

إن مثل الثعالبي فيما أداه للعربية من رسالة الأدب في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس مثل أبي عثمان الجاحظ في القرن الثالث. إلا أن أبا عثمان كان فيلسوفاً متفنناً في أسلوب العربية على حين كان أبو منصور مؤرخاً بارعاً للعربية، دارساً لعلومها وآدابها.

حامد حفني داود الجرجاوي

مجلة الرسالة - العدد 986
بتاريخ: 26 - 05 - 1952

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى