أنور المعداوي - الفن الانساني

(مهداة إلى الفنان الإنساني محمود تيمور)

الصلة بين الفن والإنسانية صلة لا يحسها إلا الفنان الإنسان... ولقد قلت مرة - وما زلت أقول - إن الفن إذا لم يستمد وميضه وحرارته من نبضات القلب الإنساني، كان وميضه كوميض البرق، وكانت حرارته كحرارة الحمى...! وكل أثر فني تبدعه العبقرية أو تصوغه القريحة، لا يترك أثره في النفس ولا بقاءه على الزمن، ما لم تلتق ومضة الفكر فيه بخفقة القلب، ولفتة الوهن بحركة الشعور، ومنطق العقل بفورة الوجدان... بشعاع من هنا وشعاع من هناك، يشق ضوء الفن طريقه إلى فجاج الروح، وشعاب النفس، ومسارب العاطفة، وبغير هذا كله يخبو البريق في الفن، وتبهت الصورة، وتفنى صفات الخلود!

من أعماق النفس وأغوار الحياة ينبع الصدق في الفن... ولن يتهيأ الصدق في الفن ما لم يستخدم الفنان كل حواسه في تذوق الحياة: يرقب، ويتأمل، ويهتك الحجب، وينفذ إلى ما وراء المجهول؛ فإذا استطاع أن ينقل كل ما يلهب الخيال فيها إلى لوحات من التصوير الفني، فهو الفنان... وإذا استطاع أن ينقل إلى هذه اللوحات كل ما في القلب الإنساني من نبض وخفوق، فهو الفنان الإنسان... وعلى مدار القوة والضعف في تلك النبضات، يفترق العمل الفني عن مثيله في كل فن من الفنون...

الفن الإنساني هو أن يكون الفن انعكاساً صادقاً من الحياة على الشعور... وأن يكون الشعور مرآة صادقة تلتقي على صفحاتها النفس الإنسانية في صورتها الخالدة، بكل ما فيها من اشتجار الأهواء والنزعات... هنا تتحقق المشاركة الوجدانية التي تتمثل في ذلك التجاوب الروحي بين الفن وصاحبه، وبين الفن ومتذوقه، وبين الفن والإنسانية، بكل ما فيها من اختلاف الميول والأذواق. ولسنا نقصد بهذا إلى أن يسير الفن في ركاب المجتمع... كلا، وإنما ندعو إلى أن ينطلق الفن انطلاقاً يتحرر فيه من كل قيد بفرضه عليه طلاب الشعور المزور والانفعال المصطنع. عندئذ يستطيع الفن أن يتنفس في أجواء لا يحس فيها مرارة الاختناق، وعندئذ يلتقط الفن من طريق الحياة - وهو في ظل الحرية - كل م يتبقى فيها من رواسب العواطف المتاينة في النفس الإنسانية.

إن الفنان هو من يعبر عن الحياة فيصدق في التعبير... وإلى هنا يكون الفن قد أدى رسالته التصويرية، وهي رسالة تهدف إلى التصوير الأمين والعرض الصادق، ولكن هاتين الميزتين قد تهتز لهما في نفسك عاطفة الإعجاب، دون أن تهتز لهما مكامن الشعور... إن الإعجاب بالأثر الفني شيء والاهتزاز له والتأثر به شيء آخر؛ وهنا تبرز لنا الناحية الأخرى من رسالة الفن وهي الناحية الإنسانية، تلك التي يكتمل معها الخلود في العمل الفني. إقرأ للقصاص الفرنسي جي دي موباسان أقصوصتين من أقاصيصه هما (الحلية) و (ولد)، تعجب بالأولى وتهتز من أعماقك للثانية، ثم قارن بين الأقصوصتين تجد البون شاسعاً بين أثر هذه وتلك في حساب الشعور. وما أبعد الفارق بين فن يترك أثره في الذهن، وفن يترك أثره في النفس... إن موباسان فنان مبدع هنا وهناك، ولكنه في (الحلية) فنان فحسب؛ فنان يستلهم قلمه... أما في (ولد) فهو فنان وإنسان؛ إنسان يستلهم قلبه...!

واقرأ بعد ذلك (رينيه) لشانوبريان و (رفائيل) للامرتين و (آلام فرتر) لجوته، تلمس أن نبضات القلب الإنساني في هذه القصص الثلاث، لم تبلغ من القوة والصدق والعمق ما بلغته في (أدولف) لبينجامان كونستان؛ ومن هنا كانت (أدولف) في رأي النقاد أكثرها بقاء على الزمن لأنها أكثرها إنسانية... ولقد قرأت هذه القصة مرات، ولا أذكر أني قرأت غيرها أكثر من مرة، بل لا أذكر أن قصة تركت في نفسي من الأثر مثل ما تركت (أدولف)؛ ذلك لأن الفن إنما يقاس بمقدار أثره في النفس ومدى صلته بعنف الوجيب في القلب الإنساني. وأنت حين تقرأ هذه القصص الثلاث، تشعر أن كلا منها قد وضعت للجيل الذي عاشت فيه فهي لا تكاد تصلح إلا له، وأن الفارق بينها وبين (أدولف) هو الفارق بين الفن التصويري الذي يقف بك عند فترة من الزمن لا يتعداها، وبين الفن الإنساني الذي يتخطى حدود الزمان والمكان ولقد بلغ من عمق الصلة بين الفن والإنسانية في (أدولف)، أن اكتشف النقاد أن هذه القصة لم تكن إلا تصويراً صادقاً لحياة مؤلفها، وأن (أدولف) لم يكن في الحقيقة إلا بنحامان كونستان، وأن (إللينورا) لم تكن إلا الكاتبة الفرنسية مدام دي ستابل! (أدولف) هي قصة القلب الإنساني في كل جيل من الأجيال، يقرؤها كل إنسان فيشعر أنها قد كتبت له، ويكاد يجد في نفسه في كل سطر من سطورها... وهذا هو الفن الإنساني الذي تتلقاه الإنسانية جديداً على مر الزمن!... الفن الذي يأخذ مادته من أعماق النفس، ونبضات القلب، وأغوار الحياة.

وعلى ذكر القصص الإنساني أقول إني شاهدت منذ أيام في إحدى دور السينما قصة من القصص النادرة، تدور حوادتها حول حياة الموسيقار روبرت شومان... ولن أنسى أن هذه القصة قد هزتني هزاً عميقاً، لا بموسيقاها ولا بروعة تمثيلها، ولكن بما حفلت به من لمسات إنسانية نفاذة استطاع كاتبها أن يدفع بها إلى مكامن الشعور في النفس الإنسانية؛ ولقد خرجت بعد انتهاء العرض وأنا أستعيد في نفسي بعض تلك اللمسات التي حشدها الكاتب في قصته ليصور بها الجانب الإنساني في حياة شومان... ولعل مشهداً وحداً من مشاهد هذه القصة يقف وحده متفرداً ليترك أثره العميق في النفس والحس؛ هو ذلك الذي ظهر فيه شومان وزوجته وتلميذه يهيئون طعامهم بأيديهم بعد أن تخلت الطاهية عن خدمتهم.. هنا يقف الثلاثة حيارى أمام دجاجة!. . لا تقوى نفوسهم الفنانة الشاعرة على ذبحها؛ نمسك الزوجة بالسكين فتخونها قواها فتدفع بها إلى زوجها، واضعة ثقتها فيه كرجل لا يرتاع لرؤية الدماء. . ويجمع الموسيقار أشتات شجاعته، ولكنها تتناثر هنا وهناك فلا يبقى إلا العزم الخائر أمام شبح الجريمة!. . ولا تجد الزوجة بدا من الاستنجاد بالرجل الآخر ليرد للرجولة كرامتها، ولكن الرجل الآخر ما يكاد يقترب من الضحية والسكين في يده حتى يرتد ضعيفاً مسلوب الإرادة أكثر إخفاقاً من صاحبه. . ولا تزال السكين حائرة بين أيديهم المرتجفة، ولا تزال الدجاجة على قيد الحياة!. . ويهتف روبرت شومان وهو ينظر إلى زوجته وتلميذه، يهتف من أعماق: لقد خلقت للعزف لا للذبح!!

بمثل هذه اللمسات الرائعة، ترتفع القصة في الغرب إلى آفاق مشرقة من الفن الإنساني.

وإذا ما تركنا الفن الإنساني في القصة إلى الفن الإنساني في التصوير، تبرز لنا لوحتان فريدتان هما (العذراء والطفل) لرفائيل و (الجيوكوندا) لدافنشي. وعلى كثرة ما أخرج عباقرة الرسم من لوحات للعذراء والطفل فإن لوحة رفائيل تقف وحدها متفردة، لا بظلالها وأضوائها وألوانها، بل بشئ آخر هو قوة الوجه. . . المعبر عن الإنسانية في أنبل ملامحها، وأجمل سماتها. إن الريشة التي أبدعت هذه اللوحة ريشة إنسان قبل أن تكون ريشة فنان؛ إنسان أنطق أسمى مراتب الأمومة في نظرات السيدة العذراء، وأسمى مراتب النبوة في نظرت السيد المسيح. . . ومن هنا شقت لوحة رفائيل طريقها إلى القمة، بينما وقف غيرها لا يتخطى السفوح، لأن هذه من صنع المخيلة، وتلك من صنع الشعور

من هذه الزاوية الإنسانية التي نظر منها الفن إلى رفائيل في (الغذراء والطفل)، ينظر الفن مرة أخرى إلى ليوناردو دافنشي في (الجيوكوندا). . . هي لوحة تمثل امرأة، ولكن أية امرأة؟! لقد استطاع دافنشي الإنسان أن يبعث في عينيها العميقتين نظرات قديسة، وفي شفتيها الرقيقتين ظل ابتسامة لا ترسم إلا على شفتي ملك. وفي العينين والشفتين ركز دافنشي الإنسانية بكل ما فيها من معاني النبل والطهر والبراءة، ولهذا كانت (الجيوكوندا) تمثل ذلك الجمال الروحي المتصل بالسماء، بينما كان غيرها يمثل ذلك الجمال المادي المشدود إلى الأرض!

من كل هذه الأمثلة التي قدمتها إليك تستطيع أن تخرج بشئ واحد، هو أن الفن إذا لم يستمد وميضه وحرارته من نبضات القلب الإنساني، كان وميضه كوميض البرق، وكانت حرارته كحرارة الحمى...!

أنور المعداوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى