محمد مندور - دراسة اللغة العربية وآدابها

لا أستطيع أن أصور للقارئ مبلغ دهشتي عند ما وصلت إلى باريس وسألت في السربون عن لسانس الأدب الفرنسي فاخبر أن هذا شيء لا وجود له. فأنت لا تستطيع أن تحصل من الجامعات الفرنسية على ليسانس في آدابهم وإنما هناك شيء اسمه ليسانس الكلاسيكي، وهو يتكون من أربع شهادات عليا كل منها منفصلة عن الأخرى تمام الانفصال. ولك أن تبدأ بالتقدم لأيها شئت وفي أي سنة تريد بعد تمضيتك للسنة الأولى بالجامعة. وهذه الشهادات هي: اللغة اليونانية القديمة وآدابها، وشهادة اللغة اللاتينية وآدابها، وشهادة اللغة الفرنسية وآدابها، وأخيرا شهادة فقه هذه اللغات النحوي وإذن فلا يستطيع أن ينال ليسانس، أي إجازة التدريس في الأدب إلا من يعرف اللغتين اليونانية واللاتينية وفقههما اللغوي، وذلك إلى جوار اللغة الفرنسية وأدبها وفقهها وفي الجامعة تلقي الدروس والمحاضرات التي تعد لكل من هذه الشهادات، ولك أن تحضر منها ما تريد، وتتقدم إلى الامتحان عند ما تحس أنك قد وصلت إلى المستوى المطلوب وهو مستوى رفيع جداً لا نصل إليه هوناً؛ حتى أن قليلاً جداً من الأجانب من يستطيع أن يجازف فينافس الفرنسيين في هذا الميدان العويص. وذلك لأن الفرنسيين لا يتقدمون إليه إلا بعد إعداد طويل بمدارسهم الثانوية حيث تلك اللغات جميعا دراسة متينة مفصلة. وكاتب هذا المقال يستطيع أن يتحدث عن يقين عن جدية هذه الدراسات وقد تقلمت فيها أظفاره. ولقد يدهش القارئ عندما نخبره أن الامتحان في شهادة الآداب الفرنسية شيء بالغ البساطة في صورته بالغ المشقة في جوهره. فالامتحان التحريري عبارة عن سؤال واحد تعالجه في أربع ساعات، فإذا نجحت تقدمت إلى الامتحان الشفوي أمام ثلاث لجأن: اثنتان منها لقراءة وشرح نصين أحدهما قديم والآخر حديث، وأمام اللجنة الثالثة تسأل في مسألة من نظريات الأدب أو مدارسه أو كتابه. وهم لا يتطلبون منك في التحريري أن تدل على تحصيل فحسب، بل لا بد أن تثبت إلى جانب ذلك مقدرة حقيقية على النقد الشخصي والفهم العميق. ثم لابد فوق كل شيء من أن تملك هبة الأسلوب وجماله، وذلك لإيمانهم أنه لابد أن تكون إلى حد ما أديباً لتصطلح مدرساً للأدب، وعندهم أن الأدب في المجالات التي لا يغنى فيها شيء عن مواهب النف غادرت مصر بعد أن درست الأدب العربي بجامعتها وعدت إلى مصر فدرست الأدب بجامعتيها، ولقد كنت منذ عودتي شديد التبرم بمناهجنا وطرق فهمنا لآدابنا. ولقد جاهدة في سبيل إصلاحها ما استطعت حتى تركت الجامعة، ولكن تركي لها لن يمنعني أن أواصل الجهاد في خارجها. وذلك لإيماني بأن دراسة الأدب هي المدرسة التي يتخرج منها قادة الرأي قي البلاد. فهي مدرسة الثقافة العامة ومدرسة فن الكتابة وما أريد أن تعترض سبيلنا نزعات مغرضة فنحارب بتعصب لمناهج الغرب التي تكونا بين أحضانها. ولي أمل كبير في أن يولني القارئ الثقة حيث أنني قد بلوت مناهجنا ومناهجهم في نفسي وأطلت فيها التفكير بعد أن استطعت أن استلقي بالحكم؛ ومن واجبنا أن نأخذ الخير حيث نجده

وفي دراستنا للغة العربية وآدابها عيبان كبيران، يشتق على من لم يدرس اللغات والآداب الأخرى أن يدركهما أو يجد لهما علاجاً. ولابد إذا أريد القضاء عليهما من إعداد جيل جديد من الذين تثقفوا بأوربا بالنهوض بتلك المهمة الشاقة، مهمة تدريس اللغة العربية وآدابها، وبغير ذلك لن تكون أي محاولة غير ضجة عميقة، وهذا ورأي يؤمن به من كبار أساتذتنا المصريين استطاع منهم لرحابة عقله وتخلصه من الهوى الشخصي أن يدرك الحقائق في شجاعة ونبل

أما العيب الأول فهو فهم معنى الأدب: فالأدب مقصور عندنا على الشعر والنثر الفني. ومن الملاحظ أن الشعر قد غلبت عليه ابتداء من القرن الثالث الهجري روح المحاكاة حتى أن التجديد فيه لم يعد إلا بمقدار. وأما النثر فأنك إذا قصرته على الفني لم إلا بمحلول ضئيل: خطب ورسائل ومقامات وتوقيعات وأمثال. ولقد كان ظهور النثر المرسل الخالي من الصنعة المتكلفة قصيرا إذ لم يلبث أن طغي البديع ابتداء من القرن الرابع فجرد الكتابة من صدق الإحساس وجوهر الفكر. والإحساس والفكر هما المادة التي إذا خلت منها كتابة فقدت الكثير من قيمتها. ويا ليت الأمر قد وقف عند هذا الحد، فمعنى الأدب حتى على النحو الضيق الذي ذكرنا قد تغير في عصرنا الحاضر، وذلك لأن العرب لم يعرفوا الحقيقة غير الشعر الغنائي والنثر القصير الباع، وأما الأدب المسرحي وأدب القصة ذلك ما لا نستطيع أن نقول على نحو جدي إنهم قد عرفوه. فالبون شاسع بين أنواع الحوار التي خلفوها من أمثال حوار وفود العرب عند كسرى وغيرها وبين المسرحية بالمعنى الحديث.

وكذلك الأمر في البون بين أيام العرب وما شابهها من قصص وبين القصة بالمعنى المعروف اليوم. وهنا نحن منذ اتصالنا بالغرب أخذنا القصص والمسرحيات، وهذا يضعنا في موضع فريد بين الأمم، فالجامعات في أوربا لا تتناول عادة بالدراسة الأحياء من الكتاب. وفي فرنسا كلها لا يدرس الأدب المعاصر فيما أعلم، ولا تعطي عن دراسته درجة علمية إلا في جامعة استراسبورج، وأما السربون فتقف مناهجها عند أواخر القرن التاسع عشر. ولو أننا في مصر حذونا حذوهم كما نفعل الآن لكان موقفنا عجيباً. فسيخرج الطالب وهو لا يعرف عن أدب القصة وأدب المسرحية، وأصولهما ونقدهما شيئاً. ومعنى ذلك هو أن جامعة لن تساعد على خلق بيئة أدبية ورأي عام أدبي، ينمو فيهما أدبنا الحديث، ويتجه وجهه جدية تساير تيارات الأدب العالمي، وتدخلنا في ثناياه. وأمعن من ذلك في الدلالة ما نلاحظه من أن الشعر الغنائي، بل وكافة أنواع اشعر حتى المسرحي منه اخذ في التقهقر أمام النثر في كافة بقاع العالم حتى لأذكر أنه لم يعد في فرنسا كلها غير مجلة واحدة متخصصة في الشعر هي (اجدرازيل) وهي مجلة شهرية. وعلى العكس من ذلك النثر فقد احتل موضع الصدارة. ومن بين فنون النثر كلها اصبح للقصة بأنواعها المكان الأول. ومع ذلك فجامعتنا لا تزال عنايتها بالشعر فوق عنايتها بالنثر، وهذا أمر يفسر ما ذكرنا من قصرها لمعنى النثر على الفن منه. وباستطاعة القارئ أن يتناول أي كتاب في تاريخ أي أدب أجنبي كالأدب الفرنسي أو الإنجليزي أو الألماني وأن يقلب فهرسة ليد فصولا ممتعة عن التاريخ والمؤرخين والفلسفة والفلاسفة، وعن كتاب الأخلاق والاجتماع والباحثين في فلسفة العلوم. ونحن لدينا أمثال هؤلاء: لدينا المؤرخون والفلاسفة والمتصوفة وعلماء الكلام، وفقهاء التشريع، ورجال الأخلاق والاجتماع. فلماذا لا نوسع من معنى الأدب كما يفعل الغربيون فندخل دراسة هؤلاء الكتاب جميعا في مناهجنا وندرسهم بروح العلم الحديثة وننقد مواضع الضعف عندهم وسبل الكمال على ضوء ما وصل إليه الغرب، وبذلك يخرج طالبنا بمادة فكريه لها قيمتها بدلاً من قصره على الدراسات اللفظية التي نأخذ بها اليوم؟

ولكننا إذا أردنا أن نفهم الأدب بهذا المعنى الواسع وإذا أردنا أن ندخل فيه أدبنا المعاصر الذي نأخذ ألوانه عن الآداب الغربية، تبين عندئذ صدق ما قلناه من قبل من أنه لن يستطيع عندئذ استقلال بتدريسه إلا من ثقف ثقافة الغربية وتشبع بمناهج الغرب على نحو واسع متين

والعيب الثاني قائم في منهج الدراسة فهو لا يزال المنهج التقريري كما عرفته القرون الوسطى مع أن مناهج الدراسة في كافة الجامعات أصبحت المنهج التاريخية ومن واجبنا أن نسلك مسلكهم فنوفر على أنفسنا قرونا من الزمان ولو أننا فعلنا لتغير دراساتنا كلها رأساً على عقب، فالنحو عندئذ لن ندرسه على أساس معايير للصحة والخطأ، فتلك دراسة مكانها في مدرسة الثانوية وإنما نتناوله كتطور تاريخي للغة منذ أصولها السامية إلا أنها انتهت اليوم باللهجات العامية، وهذه دراسة لا تعرف الخطأ والصواب وإنما تعرف التحول الطبيعي الخاضع لاعتبارات عضوية واجتماعية ونفسية. والبلاغة علم سنحذفه أصلا من برامجنا كما حذفته جميع الجامعات وتحل محلها دراسة الأساليب وتاريخ تكوينها والتميز بين اتجاهات الكتاب المختلفين وتحديد خصائصهم الروحية باعتبار أن الأسلوب صورة لملكات الرجل لا وسيلة من وسائل الأداء اللفظي فحسب. . .

وسوف نفطن عندئذ إلى شيء لم نسمع بوجوده بعد في جامعتنا وهو تاريخ اللغة، ففي كل الجامعات تجد كراسي لأساتذة كبار مضطلعون بهذه المهمة الشاقة وقد أتيح لي أن اتبع سنوات دراسة الأستاذ فرديناد برينو لتاريخ اللغة الفرنسية بالسربون. وكم كان يشجيني أن أستمع إلى هذا الشيخ الجليل وهو يقص تاريخ لغته، فإذا به يكشف لنا بهذا التاريخ عن العقلية الفرنسية كلها وقد رسبت على طول القرون في مفردات اللغة وتراكيبها ولقد كان يخيل إلى عندئذ أن هذا الرجل لا يلقي إلينا بعلم، وإنما يقص ذكريات حياته الخاصة، وذلك لطول معاشرته لتلك اللغة وإلفه لها ولقد أودع الرجل - رحمه الله - محصول عمره فيما يقرب من عشرين مجلداً في كل مجلد ما يقرب من ألف صفحة من القطع الكبير، واجمع الفرنسيون على أن هذا الشيخ الوقور قد أقام لفرنسا بكتابة هذا عن (تاريخ اللغة الفرنسية) تمثال مجد لن يفنى أبد السنين. وكم كان رائعاً يوم وفاته أن تحمل جثته إلى ساحة السربون ويأتي الوزراء ورجال الدولة ومعهم فصائل من الجيش وموسيقاه ليحيوا رفاته الطاهرة في مشهد وطني رسمي كان من أكبر ما اثر في نفسي إذ كشف عن عظمة هذه الشعوب التي كيف تقدس الفكر البشري.

والمنهج التاريخي كما سيجدد تدريسنا للغة، سيجدد أيضاً تدريسنا للأدب، فللأدب كما نريد أن نفهمه هو مستودع الحضارة، وما أظن أننا نستطيع أن نفهم الحضارة العربية فهما صحيحا ما لم نكشف عن أصولها ومصادرها الإنسان ولك أن تقلب الرأي كيفما شئت فستنتهي إلى نتيجة حتمية هي أن الثقافة العربية مزيج من عناصر ثلاثة: العنصر العبري، والعنصر الفارسي، والعنصر اليوناني. ففي القرآن وفي الإسلام مالا يحصى من مبادئ التوراة وقصص التوراة وأصول التوراة التشريعية، وفي الحضارة العباسية الكثير من وسائل الحياة الفارسية ببذخها المادية، بل وتياراتها الأخلاقية والفكرية في بعض الأحايين، وأما اليونان فأظن أن تأثيرهم في الفلسفة الإسلامية والمنطق الإسلامي وعلم الكلام بل وفي العلوم اللغوية كالنحو والبلاغة وغيرها أوضح من أن يذكر.

والآن لو وسعنا من معنى الأدب وزدنا من عنايتنا بالنثر وأدخلنا في دراستنا إلى جوار الأدب القديم الأدب المعاصر، ولو أصلحنا مناهجنا فجعلناها تاريخية كيف تظن أننا نستطيع عملياً أن ننظم تلك الدراسة. أليس من الخير لنا أن نأخذ بالنظام الفرنسي فلا نقيد دراسة الأدب العربي بسنين بل نجعله شهادات يحضر الطلبة ما يريدون منه، حتى إذا أحسوا بنضوجهم تقدموا إلى الامتحان! ونوع هذه الشهادات أمرها واضح فهي لا يمكن أن تكون أن تكون إلا: 1 - شهادة اللغة العبرية وآدابها. 2 - شهادة اللغة الفارسية وآدابها. 3 - شهادة اللغة اليونانية وآدابها. 4 - شهادة اللغة العربية وآدابها. وبذلك يخرج الطالب مثقفاً ثقافة حقيقية تمكنه من أن يفهم التراث العربي فهما صحيحاً وأن يستطيع مقارنته بغيره من الآداب. .

ومن البين أنه يجب أن يصلح نظام التعليم في المدارس الثانوية بحيث توجد به فروع تعد إعداداً صحيحاً لهذا النوع من الدراسة الجامعية بحيث الطالب ولديه العناصر الأساسية لمواصلة دراسته.

ولست أجهل ما في مثل هذه الدراسة من مشقة، ولك الأوربيين يعالجون مثلها في دراسة آدابهم اللاتينية واليونانية، ولقد تغلبوا على تلك الصعوبات، فلماذا يقعد بنا نحن الكسل عن مواجهة الطرق الجدية والسير في السبل الصحيحة؟

محمد مندور

مجلة الرسالة - العدد 600
بتاريخ: 01 - 01 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى