شيخة حسين حليوى - حيفا اغتالت جديلتي

سرنا أنا وأمي نقطعُ الطريق من محطّة الباص إلى صالون الحلاقة الوحيد في المنطقة. لاذت كلّ منّا بصمتٍ يكفيها شرّ مناقشة الأمر مرّة أخرى، فمنذ انتقلتُ إلى مدرسة راهبات الناصرة في حيفا وأنا ألحُّ عليها، كنت أطلبُ وهي ترفض، أتوسّل فتسبُّني، أبكي فتصمت...
كانتْ وهي المُطلّقة حديثًا قد أتَتْ على نصيبها من الخطايا، فأيُّ مكان بعدُ لمواجهة أخرى معَ الحمولة ؟ أيُّ عذرٍ ستلتمسه لبنتٍ أغوتها حيفا؟ لم تقتنع، ولكنّها وافقت، كانت قد استعذبت طعم التمرّد أو كرهت طعم الخنوع...
الطريق إلى الحلاّق كانت مألوفة، ولكنّها ذاك الصباح بدت مختلفة.
استدرتُ مع الكرسي الملتفّ حول نفسه لأرى جديلتي تتمدّدُ على الأرض كأفعى الجنّة تُغري بلمسها أو سحقها. ذهبت يدي تتحسّسُ مكان البتر، فارتدّت كالملسوعة. اجتاحني رعبٌ كاد يسقطني عن الكرسيّ. لمحتُ انعكاس وجه أمّي في المرآة العملاقة وهي تكبح بكفها شهقة مكبوتة.
" هيّاتها جدولتك.." قالها الحلاّق بشيء من الإعجاب واللهفة. تهاوت على الأرض، ومقصّه يفاخر في يده بنصر ذكوريّ آخر... كان وهو المعتاد على تلك العقلية البدوية التي تتساوى فيها الجديلة والبكارة مدركا هول المصاب، ولكنّه أوتي فضلا قلّما يناله غيره من الحلاّقين في المنطقة... الجديلة التي سباها ستزيّن لسنوات طويلة إطار صورة لجميلة بشعر قصير ثبّتها فوق المرآة الكبيرة.
كنت أتفادى المرور بجانب صالونه رحمةً بروحي...
أجهشتُ في بكاء صامت. وأمي من ورائي تتوعّدني بنظراتها " طيّب...طيّب بس نروّح !". لم أخش وعيد أمي هذه المرّة، فهي شريكتي في الجُرم. هي التي اختارت الحلاّق واليوم والساعة، موافقتها كانت مغتَصَبة ولكنّها موافَقَة تدرأ عنّي عقابا مؤكّدا... كانت جديلتي المبتورة قد انتزعت معها قطعة من روحي، تألمتُ بصمتٍ، لم أجرؤ على النظر في المرآة المُقابلة، غضب أمي المحزون يتربّصُني من الخلف، ورأسي الأثكلُ يتربّصُ نزقي الصبيانيّ من الأمام.
وحيفا... صديقة خائنة، تفتنني ثمَّ تعلنُ التوبة.
بحثت عن غيرتي أعزّي بها فقداني، استنجدتُ جموحي أواسي به ثكلي... حتّى صور جميلات بقصّات شعر قصيرة طالما فتنتي عن بداوتي كلّما مررتُ أمام الحلاّق، لم تبرّر خطيئتي...
وحيفا...أه حيفا، كيفَ تخليتِ عنّي الآن؟
أيُّ عزاء لي في جديلة مذبوحة!؟
"الله يكصف عمرتش يا البعيدة " في كلّ يوم تقصفُه ألف مرّة.. واللهُ لا يستجيبُ وهي لا تملُّ!
والحلاّق ما ينفكُّ يثرثرُ " يعني صبية مثلك شو بدها بهيك جدّولة ؟"
في كلّ صباحٍ أنزل "العتبة" التي تفصل بين غرفة النوم / الجلوس وبين المطبخ/ الحمّام، بينما تقفُ أمي على "العتبة" حيث يضمن لها هذا الارتفاع مساحة للسيطرة التامة على شعري الواصل في حالته الجعدة حتّى أسفل ظهري. بالكاد ينحصر في قبضة يدها. تلمُّ خصلة فتنفلتُ أخرى، تجمعه في قبضتها ويرحل مشطها فيه، ومع كلّ رحلة للمشط أتمايل متألمة، ومع كلّ آه تفلت منّي تشتدُّ قبضتها ويقسو مشطها فأسكت، ولا تحرّرني إلا وقد "ضبّت شعري" في جديلة تليقُ بصبيّة مُهذّبة.
"شنو؟ بنتش وِدْها تسوّي مِثِل بنات المِدِن؟"
قالها أحدُ أخوالي وهو يحذّر أمّي من فتنة قادمة.
كان الطلاّب في مدرسة راهبات الناصرة في حيفا خليطا من أهل المدينة ومن الوافدين عليها كلّ صباح من القرى المجاورة. لكلّ حلمه ولكلّ سببه. كنت إذ أصل بوابة المدرسة تفتّح أبواب الجنّة والجحيم معًا. أمحو من ذاكرتي المؤقّتة كوخا يؤويني أنا وأخي وأمي. أتبرّأُ من بداوتي الأزليّة، يطاوعني لساني ويتبرّأ هو الآخر من اللهجة البدوية الفاضحة.
وحدهما اسمي وجديلتي كانا يفضحان ما أخفي! لم أفلح في إقناعهم بأنني من سلالة ملوك الصحراء، وأنّني حظيت دون غيري بشرف حمل هذا الاسم. القهقهات المكبوتة كانت تجلدُ روحي "شيخة...هههههه؟ شو يعني ختيارة؟"
وجديلتي إرث بداوة يقصم ظهري. مَنْ لي بيدي تعبثُ بشعر قصير يُداعبُ عنقي؟ تغازلُ خصلاته المنفلتة قسمات وجهٍ غلبت القسوة على الصبا فيه؟
"تريّحتِ هسّا ؟"
" صرتِ مثل بنات حيفا؟ هاظ اللي ودّتش اياه؟ الله يكصف عُمرتش..!"
صرتُ مثل بنات حيفا أو كدتُ أصير.
صدّقتُ ذلك أو كدتُ أصدّقه إلاّ يدي ما زالت تبحثُ عن جديلتي، فترتدُّ كالملسوعة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى