مصطفى لطفي المنفلوطي - أمس واليوم

عندي أن الفضيلة والرذيلة كالجمال والقبح أمرين اعتباريين يختلفان باختلاف الأمكنة والأزمنة. فكما أن الجمال في امة قد يكون قبحاً في أمة أخرى. كذلك الفضيلة في عصر، قد تكون رذيلة في عصر آخر.

ليست الرذائل والفضائل أسماء توقيفية كأسماء الله لا يمكن تغييرها ولا تبديلها. وليست الفضيلة إلا لأنها طريق السعادة في الحياة ولا الرذيلة رذيلة إلا لأنها طريق الشقاء فيها. فحيث تكون السعادة في صفة فهي الفضيلة وإن كانت رذيلة اللؤم.

وحيث يكون الشقاء في صفة فهي الرذيلة وإن كانت فضيلة الكرم. لقد اعتاد علماء الأخلاق في كل زمان زفي كل مكان من عهد آدم إلى اليوم أن ينشروا لنا في كل كتاب يؤلفونه أو رسالة يدونونها جدولين طويلين ثابتين لا ينتقلان ولا يتحلحلان. . يكتبون على رأس أحدهما عنوان الفضائل وتحته كلمات الجبن والبخل والخيانة والغدر والطمع والدناءة والكذب والظلم والقسوة. وأرى أنه قد آن لهم أن يعلموا أن الناس اليوم غيرهم بالأمس. وأن أساليب الحياة الحاضرة غير أساليب الحياة الماضية وأن كثيراً من الصفات التي كانت في عهد البداوة والسذاجة رذائل يجتويها الناس ويتبرمون بها ويستثقلون مكانها قد أصبحت في هذا العصر عصر المدنية المادية المؤسسة على المنافع والمصالح حالة واقعة مقررة في نظام المجتمع البشري. وأسساً ثابتة تبنى عليها جميع أعماله وشؤونه فلا بد للناس منها. ولا غناء لهم عنها. ولا مندوحة لهم أن أرادوا أن يخضوا معترك الحياة مع خائضيه من أن يتعلموها تعلماً نظامياً ويدرسوها مع ما يدرسون من علوم الحياة التي يتوقف عليها نظام عيشهم ويتألف منها شأن سعادتهم وهنائهم.

كان الكرم فضيلة يوم كان الناس يحفظون الجميل لصاحبه ويعرفون له يده التي يسديها إليهم. فإذا هوى به كرمه إلى هوة من هوى الشقاء وجد من بين الذين أحسن إليهم أو جل في نفوسهم شأن إحسانه من يمد إليه يد المعونة ليستنقذه من شقائه أو يرفهه عليه. أما اليوم وقد أنكر الناس الجميل واستثقلوا حملهعلى عواتقهم بل أصبحوا يشتمون بصاحبه يوم تزل به قدمه ويصفونه بجميع ما ورد في كتب المترادفات من أسماء الجنون وألقابه فليس الكر فضيلة وليس من الرأي الدعاء له والحض عليه.

وكانت الرحمة فضيلة يوم كان الناس صادقيين في أحاديثهم عن أنفسهم فلا يعترف بالبؤس إلا البائس. ولا يلبس الأطمار إلا من يعجز عن لبس الجديد. أما اليوم وقد ذلت النفوس وسفلت المروءات فلبس ثوب الفقير غير الفقير. وانتحل البؤس غير البائس. وأصبح نصف الناس كسالى متبطلين لا عمل لهم إلا التلجوأ إلى ظلال القلوب الرحيمة يعتصرونها ويحلبون درتها حتى تجف جفاف الحشف البالي فالرحمة هي الفقر العاجل والخسران المبين.

وكانت الشجاعة الأدبية فضيلة يوم كان الناس ينصرون الشجاع ويؤازرونه. ويتتبعون خطواته في جميع مذاهبه التي يذهبها. فلا ينقطعون عنه حتى يظفر أو يموتوا من دونه. أما اليوم وقد ضعفت همم الناس ووهنت عزائمهم. وماتت في نفوسهم الحفائظ والغير. ووكل بعضهم أمره إلى بعض. فإن رأوا قائماً يمينهم بدعوة أغروه بالمضي فيها ثم وقفوا على كثب منه ينظرون ماذا يفعل فإذا ظفر قاسموه غنيمته وإن فشل خذلوه وتنكروا له فالشجاعة جنون لا يجد صاحبها من ورائها إلا التهلكة والشقاء.

وكانت القناعة فضيلة يوم كان الفضل هو الميزان الذي يزن به الناس أقدار الناس وقيمهم وكان الفقر مفخرة للشريف إذا عفت يده. والغني معرة للدنيء إذا سلفت مساعيه وأغراضه أما اليم وقد مات كل مجد في العالم إلا المجد المالي وأصبح الناس يتعارفون بأزياءهم ومظاهرهم. قبل أن يتعارفوا بصفاتهم وأعمالهم. فالقناعة ذل الحياة عارها وبؤسها الدائم وشقاؤها الطويل.

وكان الغضب رذيلة يوم كان الناس يعرفون فضيلة الحلم ويقدرونها قدرها. ويطأطئون رؤوسهم بين أيدي صاحبها إجلالاً وإعظاماً. أما وقد أصح الناس أشراراً يحملون شرورهم على أيديهم ويدورونبها في كل مكان يطلبون لها رأساً يصبونها عليه ولا يجرؤون على غير الرأس الضعيف اللين. فلا خير في الحلم والخير كل الخير في الغضب.

الحياة معترك أبطاله الأشرار وأسلحتهم الرذائل. فمن لم يحاربهم بمثل سلاحهم هلك عن الصدمة الأولى.

يجب أن يكون الناس جميعهم فضلاء ليسعدوا بفضيلتهم فإن عجزوا عن ذلك فليكونوا جميعاً أدنياء ليتقي بعضهم بأس بعض. أما أن يتقلد سوادهم سلاح الرذيلة والنزر القليل منهم سلاح الفضيلة وهو أضعف السلاحين وأوهمهما فليس لذلك إلا معنى واحد. وهو أن يهلك أشراف الناس وفضلاؤهم في سبيل حياة أدنيائهم وأنذالهم.

إن الدعاء إلى البر والإحسان والرحمة والشفقة والعدل والإنصاف والصدق والإخلاص في هذا العصر إنما هو حبالة ينصبها الدهاة الماكرون للضعفاء الساذجين لخدعوهم بها عن مائدة الحياة التي يجلسون عليها. فيستأثروا بها من دونهم. فلا يدعو الداعي إلى الكرم إلا لينل ما في جيوب الناس إلى جيبه. ولا إلى العفو إلا ليصيب بشره من يشاء دون أن يناله من الشر شيء. ولا إلى القناعة إلا ليتعلل من سواد المزاحمين له على أغراض الحياة ومطامعها. ولا إلى الصدق إلا ليستمتع وحده بثمرات الكذب ومزاياه.

كلنا يكذب فلم يعيب بعضنا بالكذب بعضاً. وكلنا يبسم لعدوه وصديقه ابتسامه واحدة فلم نستنكر الرياء، وكلنا يطمع في أن تكون له وحده جميع خيرات الأرض وثمراتها من دون الناس جميعاً فلم نستفظع الطمع. وكلنا يتربص بصاحبه الغفلة ليختتله عما في يده فلم نشكو من الظلم؟

إنا لا نفعل ذلك إلا لأنا نريد أن نستخدم الفضيلة في أغراضنا ومآربنا كما استخدم رؤساء الدين الدين في العصور الماضية. وكما استخدم رجال السياسة الوطنية في العصر الحاضر.

يجب أن يتعلم الطفل من أول يوم يجلس فيه أمام مكتب مدرسته أن الموجود في الحياة غير الموجود في الكتب وأن قصص الفضائل التي يقرؤها ونوادر المروءات والكرم والإيثار وأحاديث الشهامة والشجاعة وعزة النفس وإبائها إنما هي روايات تاريخية قد مضت وانقضى عهدها حتى لا يصبح ناقماً على العالم يوم ينكشف له وجهه ويرى سوآته وعوراته. وحتى لا يضيع عليه عمره بين التجارب والإختبارات.

ولو كنت أعلم من أصول الرذائل وقواعدها فوق القدر الذي أعلم منها لألفت للناشئ كتاباً دراسياً أبين له فيه كيف يكذب التاجر. ويغش الصانع. ويلفق المحامي. ويدجل الطبيب. ويختلس المرابي. ويرائي الفقيه. ويصانع السياسي. ويتقلب الصحفي. ثم أقول له هذه هي الحياة وهذا سبيل العيش فيها إن أردتها. فإن لم تردها فدونك مغارة موحشة في قمة من قمم الجبال العالية فعش فيها وحدك بعيداً عن العالم وما فيه. وكل مما تأكل حشرات الأرض واشرب مما تشرب منه حتى يوافيك أجلك.

أنا لا أدعو إلى الرذيلة بل إلى سعادة الحياة وهنائها وهو ما أسميه الفضيلة. لأني أعتقد أن الشر لا يقاوم في العالم إلا بالشر. وإن حامل السيف لا يغمده إلا أمام حامل سيف مثله. والسيل الجارف لا يقف عن جريانه إلا إذا وجد في وجهه سداً يدفعه. وإن الظالم لا يظلم إلا إذا وجد بين يديه ضعيفاً. والمحتال لا يحتال إلا إذا وجد أمامه غبياً. وأن الناس لا يتحامون ولا يتحاجزون ولا يأمن بعضهم بأس بعضهم إلا إذا برزوا جميعاً في ميدان واحد يتقلدون سلاحاً واحداً في فضاء واحد.

ما أجمل الفضيلة وما أعذبها. وما أجمل العيش في ظلالها لولا أن شرور الأشرار قد حالت بيننا وبينها. فرحمة الله عليها. ووا أسفا على أيامها وعهودها.


مجلة البيان للبرقوقي - العدد 35
بتاريخ: 20 - 4 - 1917

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى