الجنس في الثقافة العربية جورج سلوم - الإيروتيكية بين النقد والنقض

في كل يوم قصة قصيرة أو بعض كلمات .. يكتبها مع فنجان قهوته الصباحي .. ولم تكن بضع كلمات!

بالحقيقة يكتب ما في نفسه و لنفسه .. لأنه اختار الصمت انصياعاً !

أصبح والكتابة الصباحية على موعد .. كبديلٍ عن ثرثرة الصباح العاطفية مع زوجته وهي بالواقع ثرثرة استعطافية لاستغفار هفوات الأمس وزلاته ..

ولما لم تعد تستمع لأعذاره ووعوده الصباحية التي تتطاير في زحمة العمل النهاري وتتبخر بالشخير المسائي .. انصرفت لنفسها واستبدلته بأغانٍ فيروزية تهدهد أعصابها كل صباح .. فأصبح صباحهما صامتاً

أما صديقنا الوحدوي الذي غدا وحيداً .. فنَقَلَ ثرثرته الوحدوية إلى الورق .. ولحسن الحظ ما يزال الورق مطواعاً يتلقّف قلمه الذي ينكحه بشغف

وكل كتاباته تبدأ من واقعه المُعاش بكل اختلاطاته وهمومه .. ويسحبه السرد الأدبي من حيث لا يدري نحو الجنس بمفرداته وغياهبه ومعانيه ودهاليزه .. فيسمّونها كتابات جنسية إيروسية أو إيروتيكية .. فيخجل من نفسه ويشطب جملاً انحلالية لا خلُقية .. يخجل من التفوّه بها فكيف به الآن يكتبها؟

كان يقرأ لزوجته يوماً ... فتمتعض وتقول :

- من كثر كلامه قلّت أفعاله .. ومن أسهب في وصف المعارك وميادينها غالباً ما كان من فرسانها..

ارفع مستوى حديثك .. وارتقِ .. والله صرت أخجل من رفيقاتي إن قرأن لك .. كأنك مراهقٌ خمسينيّ استفاق فجأة على الحب .. ولا يملك إلا لساناً جميلاً وقلماً سال مداده كبديلٍ عن جفاف قلمه الزوجي!

عيبٌ عليك .. وعيبٌ على موقعٍ أدبي يتبنّى مفرداتك الساقطة .. ومعانيك التي انفرط عقدها .. وسقطت عنها ورقة التوت فأصبحت معرّاة نابية .. تخدش الحياء.. سوقيّة .. لو كنت تبيع كتاباتك لقلنا إنه عمل تجاري يثير لواعج القراء .. ولكنك بالواقع تشهّر بنفسك وبي كزوجةٍ لكاتبٍ من عصر الانحطاط

استحِ ..واستتر خلف شيبتك .. فما كل ما يخطر في بالنا نبوح به ..

قال وقد مسح عن أنفه غبرة الخجل :

-لماذا نختبئ وراء إصبعنا .. حياتي معك إيروتيكية بمجملها يا امرأة .. ويفقد الزواج معناه العاطفي إن فقد إيروتيكيته ويغدو درامياً بدل أن يكون دراماتيكياً.. ما العيب فيما لو سمّينا الأشياء بمسمّياتها؟

مازلتِ إيروتيكية بالنسبة لي .. جذابة بالرغم من تقادم السنون بيننا .. ألا يلذّ لك ذلك ؟.. كل ما فيكِ يثيرني كامرأة أربعينية ناضجة.. وكلما كبرتِ أراك خمراً معتقة وأكثر حلاوة .. وأنت تثقين بأني لا أعرف غيركِ ولو كتبتُ عن كل نساء الأرض .. أليس كذلك؟

فعلاً أعجز عن التفوّه بكلمات الغزل كرجلٍ استكبرته الأيام وكأبٍ لأولاد في سن الاستعشاق .. ولكني أحسِن كتابتها .. كعاشقٍ خجول يكتب لحبيبته رسالة عشق ويرميها في جيبها وهي بين يديه.. لأن كلماته تخونه بحضرتها .. فالإرهاق الحياتي جعلني مراهقاً!

أنتِ أمّ .. وحبك للحمل والإنجاب إيروتيكي .. والأمومة إيروتيكية وكذا الإرضاع (كما قال فرويد )...

وتعلّق الرضيع أو الطفل بأمه مُفسَّرٌ جنسياً ..

حياتنا المجتمعية محورها الجنس .. وهو القطبة المخفية التي تجمع كل الأنسجة المختلفة .. ونخفف الكلمة ونستحي بها ونستبدلها بالحب .. فيصبح الجنس مسموحاً

الأزاهير تتحاب وتتلاقح في وضح النهار .. والعصافير والحيوانات البرية ذلك هو ديدنها .. والمطر ينكح الأرض نكحاً .. ليس من عندي هذا الكلام إنه من قواميس العربية

والمرود يدخل في المكحلة فتكتحل العيون .. وما أجمل العيون الكحيلة.. والأجفان تتناكح ذاتياً وكذا الشفاه

الإثارة هي ملعقة السكر تضاف إلى جفاف حياتنا ..

أنا أرى حتى تنفسي للهواء نوعاً من الجنس .. فالهواء ينكحني من خياشيمي وفمي .. فشهيقي إدخال وزفيري إخراج .. وتضطرب أنفاسي القلقة حتى لأشعُرَ بالنشوة فأنام مسترخياً مشبعاً بالهواء

وشربي للماء .. وشهوتي للطعام

حديثي مع الناس .. أحلامي .. كلها تصرفات جنسية

قلمي يشتهي أوراقه البيضاء .. يسيل لعابه عليها .. يفضّ بكارتها .. فأرى مضمون خربشاته جنساً .. حتى ولو كتب في أي مجال

حتى الحنين إلى الوطن بعودة المغترب إلى أرضه يشتهي أن يطأها .. والوطء نوع من الحب .. يشم رائحتها ويقبّل ترابها .. هي تصرفات جنسيّة فينكح التربة بأصابعه .. يغرف التراب بلهفة وشوق وينثره على رأسه

وقال الناقد مستغرباً:

-كتاباتك لم تثِر لواعجنا .. أثارت فقط قلمنا فأصبح متهيّجاً وأكثر طولاً واحمرّ رأسه وبدأ ينكح أوراقك بالحبر الأحمر.. ينتقدك .. يفتَّ من عضدك.. يهتك عِرض ما كتبت ويكشف عوراته

نقدُنا لكَ إيروتيكيٌّ أيضاً !!..

قلت:

- ونعمَ النقد أن يكون إيروتيكياً أيضاً .. نكّاحاً للسطور حتى أعماقها .. أما كتاباتي فخُلقت لتثيرني أنا وكفاني فخراً .. أتخيل ملهمتي تجالسني فأصفها وهذا ما يغبِطني .. أذكر اسمها .. فأثار أيضاً .. وأسمع صوتها ورنة قبقابها .. ولا أستطيع نقل إثاراتي لكم..

عتبات بيتها تغريني .. ومكان جلوسها .. وموضع شربها من فنجاني

وكيف أنقل لكم ذلك ؟

دموعُها إن بكت ودموعها إن ضحكت .. إغراءاتٌ لا تقاوَم

وكيف أشرح لكم ذلك ؟

الايروتيكية جعلتني أحب كل نساء الأرض .. وأمارس الجنس معهن جميعاً .. أنا أعزف على أوتارهن كلها .. فأرى الآن كل النساء جميلات ومثيرات

لكن الناقد ضاق صدره وقال:

- وما الجديد في ذلك ؟.. الإيروتيكية ليست جديدة على الأدب العربي .. لكنها على ما يبدو خجولة لديك .. فأين المفردات الصريحة في كتاباتك ؟.. أين النهد النزاري والأير الجريري الفرزدقي .. أين الكؤوس النواسية التي تسكرنا .. أين القبل التسعة والتسعون التي تغنى بها امرؤ القيس ..؟ أين الإباحية الصريحة؟.. أما التغني بعتبات بيت أو ذرفات دمع أو رنة قبقاب فلا تعتبر إثارة .. لنقل إنها إيروتيكية مخففة أو معدلة أو مزيفة .. لكاتب خجول منطوٍ على نفسه

وكان لابدّ لي أن أجيب .. رغم علمي بأنني أدافع عن قضية خاسرة .. تافهة .. منحطة وسافلة .. لا ترقَ لأحلام القضية الكبرى وهموم الأمة والمصلحة العامة والمسيرة النضالية

اكتب مثلاً عن ثقب الأوزون وكفاك تشدّقاً بثقوب المرأة

أنت يا من ترى ازدراد الطعام تصرّفاً جنسياً .. تتجاهل حقوق الجياع أمام رهاب الخبز

أنت يا من تتغنى بنساء الأرض جميعاً .. تهمل زوجتك التي تتكئ جنيبك

ما أنت ؟

ألا ترى واجباتك ككاتب نحو الأجيال القادمة

أين هي رسالة الأديب في إصلاح المجتمع ....

وتابع الناقد ، وأطلق شعاراتٍ كثيرة في خضمّ حديثه وأصبح متعالياً وكبيراً .. وكأنه اعتلى منبراً على قمة جبل .. وأشار إلى دركٍ أسفل تُجمَعُ فيه كل الأوراق التي لا تخدم القضية .. وتابع مفتياً فتاوى كثيرة ملخّصها يقول .. لا صوت يعلو فوق صوت المعركة

ومنذ ذلك اليوم .. نزلت الايروتيكية وكتّابها من ميزان النقد إلى ميزان النقض!

د. جورج سلوم

************************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى