عبد القادر وساط - رسالة إلى أحمد بوزفور

صباح الخير
تحدثنا في رسائلنا السابقة عن بعض روائع الشعر العربي القديم، وذكرنا مجموعة من الرائيات على البسيط، ومن بينها رائية أعشى باهلة في رثاء أخيه المنتشر.
وأريد - يا صديقي العزيز - أن أذكرك في رسالتي هذه بشاعرة أخرى من قبيلة باهلة، هي صفية بنت خالد، المشهورة بصفية الباهلية، وبرائيتها الجميلة في رثاء أخيها. وأنتَ تعرف أن الرواة قد اختلفوا كثيرا في مطلع هذه القصيدة وفي بعض أبياتها، ولكنهم اتفقوا أو كادوا على الأبيات التالية:
أخْنى على واحِدي ريبُ الزمان و لا = يُبْقي الزمانُ على شيءٍ و لا يَذَرُ
فاذهبْ حَميداً على ما كان منْ حَدَثٍ = فقد ذهبتَ و أنتَ السمعُ و البصَرُ
و ما رأيتُكَ في قومٍ أسَرُّ بهمْ = إلا و أنتَ الذي في القوم تشتهرُ
كنّا كأنْجُم ليلٍ بيننا قمَرٌ = يجْلو الدجى فهَوى منْ بيننا القمَرُ
وهناك رائية أخرى بديعة على البسيط، أجدها شديدةَ القرب من قصيدة صفية هذه. وقد نسبها البحتري في حماسته لقَعْنَب بن أمّ صاحب الغطفاني. ومن أبياتها:
لو كنتُ أعجبُ منْ شيءٍ لأعْجَبَني = سَعْيُ الفتى و هْو مخبوء له القَدَرُ
يسعى الفتى لأمورٍ ليس يُدْركُها = و النفسُ واحدةٌ و الهمُّ منتشرُ
ومن الرائيات التي احتفظت بها كتب الأدب القديم، رائية أنس بن مُدْرك الخَثْعَمي - قاتِل صديقنا السليك بن السلكة - والتي يقول فيها:
كمْ من أخ لي كريمٍ قد فُجعتُ به = ثم بقيتُ كأني بعدهُ حجَرُ
لا أستكين على ريب الزمان و لا = أغضي على الأمر يأتي دونه القدَرُ
و من الرائيات القديمة كذلك رائية عقيل بن هاشم القيني:
أخاك إن الذي يغدو بغير أخٍ = كالقوس ليس لها سهم و لا وتَرُ
وفيها يقول:
يا آلَ عَمْروٍ أميتوا الضّغْنَ بينكمُ = إن الضغائن كسْرٌ ليس يَنجبرُ
وقد ذكرتَ - صديقي العزيز - في رسالة سابقة أن الراء هي أقوى صوت في قوافي الشعر العربي منذ الجاهلية إلى اليوم. وقد كنتُ دائما أحسّ هذه القوة دون أن أعرف مأتاها. كما كنتُ دائما مقتنعا بأن قافية الراء تضفي " نكهة " خاصة - إن جاز هذا التعبير - على البحر البسيط بالذات، خصوصا حين تلحقها الضمة، ليس لدى الشعراء القدامى فحسب، بل أيضا لدى المعاصرين، الذين يكتبون قصائدهم على أوزان الخليل.. وعندما أقرأ مثلاً قول جبران خليل جبران في " المواكب":
و السرُّ في النفس حزنُ النفس يَسترهُ = فإن تَولّى فبالأفراح يَسْتَترُ
أو قول الشابي مخاطبا القدر ، في " شكوى ضائعة ":
تمشي إلى العدم المحتوم باكيةً = طوائفُ الخلق و الأشكال و الصُّوَرُ
و أنتَ فوق الأسى و الموت مبتسمٌ = ترنو إلى الكون يُبنى ثم يَندثرُ
أو قول سعيد عقل في رائيته الجميلة على البسيط، التي تغنيها فيروز:
لي فيك يا بردىٰ عهدٌ أعيشُ به = و صاحباك عليه الريحُ و المطَرُ
و منها قوله :
شآمُ أهْلوك أحبابي و موعدُنا = أواخرُ الصيف آنَ الكَرْمُ يُعْتَصَرُ
ومنها هذا البيت الجميل:
يا طيبَ القلب يا قلبي تُحَمّلُني = همَّ الأحبّةِ إنْ غابوا و إنْ حَضَرُوا
حين أقرأ مثل هذه الأبيات، يا صديقي، تترسخ لدي تلك القناعة بأن الراء كانت وما زالت هي أقوى صوت في قوافي الشعر العربي، وبأن هذا الصوت القوي يزداد قوة عندما يتعلق الأمر بالبحر البسيط.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى