عبد القادر وساط - الشنفرى في حضرة الطاغية

قرأنا على أبي الحسن بن الأزرق، فيما روى عن محمد بن محبوب الفقيه، عن شراحيل بن حسان، قال:
لمّا حُمل الشنفرى إلى مجلس ابن علي، وهو يرسف في القيود، بادره الطاغيةُ قائلاً:
- الحمد لله الذي أظْفَرني بك أيها الشنفرى، وإني لأرجو أن أظفر في القريب العاجل بالسليك بن السُّلَكة وتأبّطَ شراً، حتى يرتاح الناسُ منكم يا أغْربة العَرَب!
فنظر إليه الشنفرى مستغرباً وقال له:
- أيها الطاغية، إن الناس يسموننا أغربة العرب لأن أمهاتنا من الإماء السود، ولأننا نَشركهن في سوادهن، فكيف تجاري العامة في جهلهم وأنت المتأدب المتنور؟!
فسأله الطاغية وهو يضحك:
- وكيف أسميك؟ فحتى الشنفرى ليس اسمك الحقيقي، وإنما هو لقب أطلقوه عليك بسبب غلظ شفتيك. وقد أخبرني صاحبُ شرطتي أن اسمك هو عمرو بن مالك الأزدي... وزعم والي نجدان الغربية أنك تسمى عمرو بن براقة... أما عبد القادر البغدادي فيرى في كتابه ( خزانة الأدب) أن الشنفرى هو اسمك الأصلي...
قال الشاعر وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة تشي بالتحدي:
- يا سيدي، دعنا من الأسماء والألقاب ومما قاله عبدالقادر البغدادي وما لم يقله... هذه ليست بالأمور التي يحفل بها الشعراء...
ولم يبد على ابن علي أنه انتبه لكلامه فواصل قائلاً:
- وحتى قصيدتك الشهيرة (لامية العرب ) قد نُحلَتْ عليك، فهي ليست من شعرك وإنما من صنع خلف الأحمر... ومع ذلك، فقد حظيَتْ باهتمام الشراح واللغويين، لما فيها من تصوير رائع لحياة الشعراء الصعاليك. ومن بين العلماء الذين انكبوا على شرحها أبو العباس ثعلب وابن دريد والتبريزي والعكبري والمبرد والزمخشري... وهناك أيضا عالم مغربي شرحَ هذه اللامية وهو ابن زاكور الفاسي...
قال الشنفرى وقد بدأ يشعر بالضجر:
- يا سيدي، اللامية لاميتي وإن شئتَ أن أقرأها عليك الآن كاملةً فعلت...
قال الطاغية:
- فأخبرني عن مطلعها الذي تقول فيه:
( أقيموا بني أمي صدورَ مَطِيِّكمْ = فإني إلى قوم سواكمْ لأمْيَلُ)
ما الذي ترمي إليه في الشطر الأول بالتحديد؟
فأطرق الشنفرى قليلاً ثم أجاب:
- لا يخفى عليك، يا ابن علي، أن المطِيّ جَمْعُ مطية، وهي الدابة تمطو في سيرها، أي تجدّ و تسرع... ومعنى إقامة صدور المطي، هنا، هو إعمالها في السير والتوجه بها إلى وجهة واضحة... وإنما كان قصدي من هذا التعبير هو التنبيه... فأنا أطلب من بني أمي أن ينتبهوا من غفلتهم، وأن يدركوا أني سأرحل عنهم إلى قوم آخرين...
قال الطاغية:
- فأخبرني عن قولك:
ثلاثة أصحاب: فؤادٌ مشيَّعٌ = و أبيضُ إِصْليتٌ و صفراءُ عَيْطَلُ
أجاب الشاعر :
- الفؤاد المشيع هو الشجاع المقدام الجريء، والأبيض الإصليت هو السيف الصقيل القاطع و الصفراء العيطل هي القوس الطويلة...
فحرك ابن علي رأسه إعجابا بكلام الشنفرى، حتى خلنا أنه سيصفح عنه، ثم قال:
- ومن القصائد التي يرويها لك الرواة كذلك، تلك التائية التي أثْبَتَها العلامة عبد العزيز الميمني في كتابه( الطرائف الأدبية) ...
فنظر الشاعر إلى الحرس من حوله قليلا ثم قال:
- تلك قصيدة نظمتُها بعد أن ثأرتُ لأبي وقتلتُ قاتلَه... وإني لأتذكر أبياتها كأنني نظمتها الآن!.. وفيها أقول، في وصف جمال المحبوبة:
( فدَقَّتْ و جَلَّتْ و اسْبَكَرَّتْ و أُكْملَتْ = فلَوْ جُنَّ إنسانٌ منَ الحُسْن جُنَّتِ)
وهذا والله قول لم يسبقني أحد إليه... وفي هذه القصيدة كذلك أقول:
( و إني لَحُلْوٌ إن أريدتْ حلاوتي = و مُرٌّ إذا نفس العَزوف استمرَّتِ )
و" استمرت" هنا من المرارة... ويبدو أن حسان بن ثابت الذي جاء من بعدي قد استلهمَ بيتي هذا حين قال:
(و إني لَحُلْوٌ تَعْتَريني مَرارَةٌ / و إنّي لَتَرّاكٌ لمَا لمْ أعَوَّدِ)
قال الطاغية:
- وماذا عن موتك أيها الشنفرى، هل تذكره؟
أجاب الشاعر الصعلوك :
- و كيف لا أذكره أيها الطاغية؟! لقد قتلني الأزد، بعد أن نكلتُ بهم فترة طويلة من الزمن... ولستُ والله آسفا على حياتي ولا كارهاً لموتي... وقد سمعتُ أن تأبط شرا رثاني بعد مقتلي بقصيدة طويلة، يقول في مطلعها:
( على الشنفرى ساري الغمام و رائحٌ = غزير الكُلى وصَيِّبُ الماء باكر)
فإن كان ذلك حقا فجزاه الله عني كل خير...
قال شراحيل بن حسان:
فعند ذلك الحد أشار الطاغية إلى صاحب شرطته، وعندئذ اقتيد الشنفرى إلى مخفر قريب، في انتظار تسييره إلى سجن الكثيب...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى