عبد الرحيم جيران - حالنا الذي لا يسر...

نعيش اليوم توها لا ضفاف قارة له، نكاد نضيع في حساء العابر، ولا نعدو إلا خلف الشبه الذي يبعث فينا الاطمئنان بأننا في مأمن من المربك، حتى الأشياء تفقد سمكها حين تتلع أمامنا، بفعل عمى أصابعنا، وارتعاش عيوننا. لا نملك القدرة على الاهتداء إلى المعنى، ومحله نضع كل رصيدنا من اليقين الذي يمنحنا إياه المألوف، لأن الوجود أمام فتنة المدهش يرعبنا. وإرادتنا في أن نكون تجاه الكلمات أكثر سمعا وإصغاء مسلوبة، بل هي منعدمة تجاه مسؤوليتنا في تدبير علاقتنا بالعالم وبالزمن انطلاقا من ممكنات الغد واحتمالاته. لا رؤيةَ ولا حلمَ. التعاطي مع الطارئ هو ديدننا، ننتظر ما يسفر عنه الواقع كي نفكر في رد الفعل، وحين نفعل ذلك نستنجد بالانفعال والعاطفة، وبتقاليد الأجداد، والجاهز في جعبتنا، لأن المغامرة تخيفنا، ولسنا أهلا لأن نتحمل خساراتها. كل شيء عندنا مفسر أصلا، من دون أن يتحصل الفهم بأننا نقف عند أنصاف المفاهيم، وعند عتبة تفضي دوما إلى داخل هو خارج مشوه بكل تأكيد. البدعة تخيفنا، لذلك نجهد أنفسنا في تمحيص ذواتنا، بل تمعن ألمنا في مرآة التقليد، وحتى هذه المرآة نأبى أن تكون متعددة، لا بد أن تكون هي هي، وغير مكسرة. وفضيلتنا المثلى أننا نعشق تمرير العالم من خلال لوائح تصنيف ثابتة، لكأن العالم هو هو، والكون هو هو، لا وجود لمادة سوداء أو طاقة مظلمة. لا يقلقنا أبدا التكرار، وتلقين الشيوخ، لأننا لا نستطيع أن نرى أنفسنا خارج أطر التصنيف الموضوعة سلفا منذ أزمنة غابرة، ونحب الطاعة حد الإذلال، ونمج التمرد والعصيان، لأننا نخاف أن نقترب من الشيطان. فحين نقول "لا" نقولها بصيغة "نعم"، حتى أن الفواصل بين الإثبات والنفي تصير منعدمة، وفهمنا للهوية يظل شكلا ناقصا، شكلا يبحث عن محتواه في صور تبعث على السخرية، لا نفهم أن ما يعطي للإنسان هويته الأصيلة هو ما يضيفه إلى العالم، وأن الإنسان هو كذلك لأنه صانع، ومبتكر، لا مباه بما لا يملكه. نرفض الآخر، ولا نستغني عن هويته الماثلة في مبتكراته، نرفض نهجه في الحياة، ونستعمل اصطلاحاتها، بعد أن نلوي عنقها بما يسمح لنا بالتبجح بأننا قد سبقناه بقرون إلى منجزاته. هكذا نحن نحب أن نصنف أنفسنا بأننا الأفضل في العالمين، ولا ندرك أن الأفضل هو من يدرك أن الإنسان نتاج الجدل بين ما هو عليه وما يتطلع إليه، ونحن لا نتطلع لأننا نظن أننا نمتلك كل شيء، وحُزنا السبق في كل شيء، حتى السبق في اختراع الصفر. وحين يصير التصنيف تاما بهذه الطريقة شبيها في ذلك بالعلامات التجارية، نتحول إلى قطعان متوجةً بسعير الانفعالات، فيغيب الاتجاه، وتعصف بنا الفوضى لنجد أنفسنا نرمم الموت، ونتباهي بقتلانا. وكم هو مؤلم أن نعلي من قيمة الشهادة، ونختصر حضورنا في العالم في نعيمها، وننسى أن الحياة من حولنا تتكلم لغة غير لغتنا. نأتي دوما بعد فوات الأوان، فنلعن الزمن، بدلا من أن نلعن عدم قدرتنا على ضبط ساعتنا على الموعد الصحيح مع الوجود. ولأننا نحب دوما أن نلبس جبة الموتى نأبى إلا أن ننعم بهجوعهم بينما الدنيا من حولنا تُشيد بعنفوان التطلع إلى ما هو أكثر نبضا، وأكثر اتصالا بإيقاع الحياة. هكذا هي علاقتنا بالكلمات، لا تندلق على شفاهنا إلا إذا كانت مغموسة في إكسير الموت، وكانت أكثر شبها بالأسود، وفي أحسن الحالات أكثر شبها بالرمادي، فهي نوس بين العدم والالتباس. لكن ما هو أقسى على الفهم هو أننا نسند إليها كل الأسرار، ونجعلها تنوب عن الفعل، وتصير كافية، يتوقف عندها كل مطمح، بل نجعلها تنوب عنا، وتكفينا بذلك مشقة الشك في أن تكون مخادعة، فتتحول إلى كائن مقدس. هكذا نأتي إلى العالم من رحم الكلام وقد نأى عن أن يكون كلاما، لأننا نتوسل بقدرته على أن يكون شبيها بالمسدس، يتقن تصويب الموت صوب كل حياة. نلعن الظلام بينما لا نلعن من يطفئ الشموع، وننسى أن الظلام هو معبر لرؤية النجوم، ولولاه لما تبينت الجهات، ولا تحدد الشمال، ولا اهتدت السفن في اليم. ولهذا نداوي الداء بالداء، نداوي ما نظنه الظلام بالظلام، غيرنا يحول الموت إلى طاقة قوة بمجابهته بالخلق والإبداع، ونحن نحوله إلى منتهى الغاية من الوجود، ولكأننا مثالٌ أكثر تدليلا على غريزة الموت التي تحول، تحت تطلب غريزة البقاء، التدمير من الذات إلى الغير، لكن بجعل هذا الغير ماثلا فينا. وحتى في الحالة التي نسعى فيها إلى تلافي خصوماتنا نستبدل الأفدح بها، نترك العلة ونذهب إلى العرض، ونترك الأصل ونكتفي بالفرع، وحين نخفق ننسب فشلنا إلى الظروف القاهرة، ولا نعدم وسيلة لخلق هذه الظروف حتى ولو كانت منعدمة، لا وجود لها. نخلق الأبطال ثم نتنكر لهم بالسرعة التي خلقناهم بها، لأننا كثيرو النسيان، ولأننا نمل ما نعشقه بسرعة الضوء. لا نعترف بالنجاح إلا إذا كان من نصيبنا، وكذلك الفضائل، أما إذا كانا ممن هو أهل لهما فننكرهما عليه. فمتى يظل حالنا الذي لا يسر أبدا على هذا النحو؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى