مقدمة كتاب : رهانات التهجين: الجسد والثقافة، الكتاب الأحدث للباحث ابراهيم محمود

لا نتذكَّر ما لا يُـنسى طبعاً :
هل يمكن اعتبار العرب من بين أكذب الخَلْق، إن لم يكونوا أولهم؟
طبعاً، ذلك ما يمكن الاحتكام إليه في عهدة الدلالة اللغوية، خلاف الشائع في أوساطنا، بصدد " الكذب ". الكذَّاب هو من يقول خلاف الحقيقة. هل يكون قائل الحقيقة مجانباً للكذب بإطلاق؟ هل من يشدُّ على الكذْب مثمّناً إياه يُعتبَر كذاباً ؟ ذلك لإشكال كبير وخطير، كما سنرى لاحقاً.
إنما لا بد من المبادرة السريعة إلى التوضيح، قبل أن يُطوى الكتاب جانباً، أو يطوَّح به عالياً، وهو أن " الكذب " كما تقول أمهات المعاجم في العربية، لا أكثر منه ثراءَ معان ودلالات. تصوروا حين يحسن أحدهم الكلام، فيعلق آخر عليه: يا للكذاب. أتراه يقول فيه مدحاً أم قدحاً، أم يجمع بينهما ؟ وأن أحداً ما، حين يحسن فعلاً بتمامه، يكون ممثّل الكذب، حين يُصغى إليه ويرحَّب به، ويهلَّل له بعمق، يكون قد بلغ الذروة في الكذب، وأن فحوى مقولة " أعذب الشعر أكذبه " هو التالي: أعذب الشعر أكثره تنويعاً " 1 ". ألا ترى كيف أن الشاعر الشاعر يحلّق بالجبل، ويسابق الريح بفرسه، ويرتدي النار، ويكلّم الحجر، ويقطف النجوم، ويذل الموت، ويركل الموج، ويعيد ما كان...الخ، ويكون موضع تقدير؟ لا بل إن تاريخ الشعر العظيم هو عدد المرات التي لامس فيها الأفق الأقصى للكذب، وأكثر من يكذب هو الذي ينال قصب السبق فيه، ولا بد أنهم كانوا قوماً يحبّون " الكذب " وأي حب، لا بل كانوا يتبارون فيه، بقدر ما كانوا يعززون مواقعهم على مستوى القبيلة، وفي مناسباتهم الأدبية " عكاظ نموذجاً " بإظهار كل شاعر لمهارته في الكذب، أو بزّه لسواه.
ألا يحفّز هذا القول، إلى طرْق الباب المنتظر، الباب الذي يُفتَتح به كتابنا ؟ التهجين !
ما أن تتردد مفردة " تهجين " لحظة سماعها، حتى يتبادر إلى الذهن وجود شيئين، عنصرين، يقبلان الدخول في علاقة، ليتشكل عنصر ثالثة يلغيهما، ليتكون هو: في عالم الكائن الحي، بالنسبة للأجسام المعدنية، المعادلات الكيمائية، حتى في الحساب، إذ" الجمع " مثلاً، لا يعدو أن يكون حصيلة ضم عددين، وظهور ثالث يهضمهما...الخ: التهجين لسان التعدد.
ولكن ماذا يحصَل لو ووجّه أحدنا من آخر بقول: أنت مهجَّن؟ ألا يستفزه قوله، أم إنه سيبقى هادئاً، أم تراه سيبتسم..؟ لقد استخدمت مفردة" مهجَّن "، وليس " هجين " المبعدة عن البحث !
من المؤكد، أن الجواب هنا" بالذات " يتوقف على خاصية السؤال، أي إن إننا إزاء علاقة محكومة بمستوى معين من التفاهم الذي يحدّد بدوره سقف التعامل، وحدود تعاطي الكلام المشترك. قد يُستشَف من قوله الإساءة والإهانة" ثمة شك في جنسه "، وما أكثر الحالات التي نصادفها أو نسمع بها على هذه الشاكلة. قد يراد من قوله جانب اختباري، ليبقى الجواب أو التعليق متوقفاً على كيفية تلقي قول الآخر. قد يبتسم، ابتسامة سخرية منه بالذات، كما لو أنه يرد عليه دون أن ينبس ببنت شفة، أو ينتظر قليلاً بعد الابتسامة تلك ويرد عليه..
ما يمكن قوله، هو أن لدينا الكثير الذي ينتظر التسمية بصدد المفردة تلك، ويا لها من مفردة تجمع إليها الأرض والسماء، وكل القوى المرئية واللامرئية: أجساماً حيّة، ومركَّبة، وعناصر فاعلة في الطبيعة، وما يستحق القول هو أن كل ما قيل ويقال، ما أن يعلَن عن اختتامه، تكون لدينا " دورة " حياة جديدة قد بدأت، لتعاد النظر في المستجد تهجينياً.
ما يجب قوله بإطلاق: كلُّنا مهجَّنون، ومن ليس مهجناً، أو يزعم أنه معفى من الانتساب إليه، ليس عارفاً بالحد الأدنى مما يكونه، أو يتفاعل معه، ومن يضع حدوداً للتهجين، كمن يغلق على نفسه، كمن يشطب على كل من ينتمي إلى الحياة والكون، ويقول:ما هو خارجي ليس شيئاً.
ويرتكز المشكل الرئيس والذي يقرّبنا من الحقيقة، إلى ما هو نسْبي: بين الصفة والموصوف، المضاف والمضاف إليه، الفاعل والمفعول، العامل والمعمول...الخ، التهجين بنية علاقات لا تتوقف عن التفاعل فيما بين مكوناتها، وكل ما يصلنا به يسمّي التهجين.
لغتنا، عاداتنا، أعرافنا، متحولاتنا، قيمنا، أخطاؤنا، أوهامنا، بطولاتنا، انكساراتنا، معالمنا، أحلامنا، أصواتنا، مكوناتنا اللحمية والعظمية، والدماء التي تجري في عروقنا، لغاتنا، إبداعاتنا، صورنا، علومنا، فنوننا، اكتشافاتنا، معارفنا المختلفة، أمراضنا، حيواتنا، أغذيتنا، شرابنا..الخ.
لا شيء بمستثنى من التهجين: اسماً كان، وما لم يكتسب اسماً بمفرده، مهما كانت بساطة تركيبه أو موقعه بجوار مجموعة الأشياء أو العناصر أو الأجسام في محيطه أو لحظة الربط بينهما.
ثم: أوليس هذا التنقل بين الزمن، لا بل وإن مجرد حديثنا عما نحن عليه، حتى سرعان ما يكون المسمَّى ماضياً، ونحن ننسّب أنفسنا إلى الحاضر، وهناك ما يشدنا إلى المستقبل، أوليس تأكيداً على أننا لا نستطيع التنفس إلا في مناخ تنفسي ؟
وبين أن ننتفس كما هو القانون الطبيعي، وفق مقتضى الحيوي: العضوي فينا، نكون قد ألزمنا أنفسنا بمسايرة الموجَّه حيوياً فينا، سوى أننا، وطالما ننتفس في وسط اجتماعي، يأخذ تنفسنا طابعاً من اللاعضوية أو اللاحيوية عند التذكير بما هو سائد اجتماعياً، وما مكتسَب ثقافياً .
لا أحد منا يتنفس إلا تبعاً لنظام يتجاوب معه: اجتماعي في الأصل، فنتنفس بعمق، أو سريعاً، أو نحبس أنفاسناً عند اللزوم لأمر ما، أو نرفع وتيرتها لأمر يعنينا، عبر زمان ومكان محدَّدين.
كما لو أن ما نعرَف به يكون وديعة علينا الحفاظ عليها، حتى يمكننا التصرف بالطريقة التي تبقي من هم حولنا في رضى عنا. إنه جسدنا الذي نعيش داخله، به، معه، بقدر ما نسعى إلى تأكيد حضورنا من خلاله ونحن نضفي عليه تغييراً في المظهر والجوهر لتأكيد اختلاف ما لنا.
ثم ما هذا الشيء الذي نسمّيه، هذا الشيء الذي نحيله إلينا باسم معين، باعتباره حقيقته، وهو محض اتفاق، أو اصطلاح، هذا الشيء الذي يخرج عن سيطرتنا النفسية والعقلية، الحسّية، ومن المادية كونه أكثر مما هو مجذَّر فيه بتقديرنا، أعمق مما هو مقدَّر به باعتقادنا، أوسع مما هو محاط به في حساباتنا. شيئنا الذي أردناه لنا، فأحطناه بما لدينا من إمكانات، ثم صادقنا عليه، لأنه أمسى داخلاً في نطاق معرفتنا التي تعادل تملكنا للأشياء، ثمة استأنسنا به، بما أنه أصبح في تمام الوضوح لنا، ثم أرشفنا له، كما لو أنه هو ما عزمنا على وضعه والتعريف به ؟
ما هذا الشيء، ونحن إن تحررنا قليلاً من السؤال الذي يرتسم حدودياً تبعاً لرغبتنا، متجاوبين مع سؤال الشيء بالذات، حيث نحن أنفسنا لا نعدو أن نكون شيئاً في " عُرْف " الطبيعة، وأن ما يقال وما لا يقال، وما هو متبرزخ بين الاثنين، إنما هو في واقعه واقع الشيء الذي عهدناه كما عرفناه وليس ما هو عليه، وفي الوقت الذي نحال عليه، فنحن الجزء منه وليس قيمين عليه؟
شيئُنا، شيء الآخر: العالم، أي موجود منه، فيه، وجوده " دازاينه، هيدجرياً "، ما يخرج عن الصفة والموصوف، الفاعل والمفعول به وفيه، ما يؤممه من التأطير والتقعيد، الكائن بكامله، الجماد في مجموعه، شيء، أكثر من مقولة " الشيء في ذاته كانطياً، وفي إثرع هيدجر، أكثر من كل اجتهد ميشيل فوكو في مكاشفته، وأفلح في إضاءة الكثير منه في " الكلمات والأشياء "، إنه شيئنا وليس شيئنا، لأن ثمة خروجاً عن التملك، ثمة ما يتحرك، ويمارس حياته الخاصة، حتى في تسيير سلطته فينا وعلينا، دون طلب الإذن منا، بما أننا نولد وليس لنا خيار في ذلك، وتكوّننا عناصر وليس لنا رأي في ذلك، ونمضي من طور عمري إلى آخر، وليس من قوة، ولا بأي شيء بفالحة في الحيلولة دون سريان فعل هذا المضي، دون إمضاء القانون المتحكم بنا وبكل شيء فينا، وتنتهي حياتنا لغتة، أو وفْق إدراك تقديري منا بأن لا بد من نهاية، حيث الموت الذي لا نعرف أهو يسبق الحياة أم يتربص بكل كائن فيه، أم يظهر في المنعطفات الخاصة، أو يكون صنيع الحياة، أم بالعكس، ولا مناص من قبول حكمه المبرم.
ربما – إذاً- كان التهجين موصولاً بالهجنة، بـ" هجَّن "، فهي نهج عالي التركيب، معمَّق معنى!
كل ذلك يحصل ويمضي فينا وبنا وعلينا ومعنا، ولكل حالة إحالة، ونزعم أن لدينا ما يسعفنا في التفكير والتدبير الفعليين، وملؤنا الإرادة التي تتدخل في المصير الذي أرعب كائناً متفلسفاً إلى درجة الرمي به في دوامة التشاؤم لعجزه عن إبقاء جسده ولو لثانية بعيداً عن مؤثرات الزمان، أي شوبهور، يقيننا الذي نتوهم أو نتصور أن ثمة ما ينبثق داخلنا، فنتراجع أو نتقدم أو نغيّر مساراً لنا، وفينا اعتقاد قائم يهِبنا راحة أو شعوراً بالخيلاء بأننا خلاف أي كان آخر، وننطلق هنا وهناك نمارس ما نعتبره إبداعات أو مواهب أو فنوناً وعلوماً تعزيزاً لقوة نافذة الأثر في بيئتنا رغم أن الجاري هو النقيض الفعلي لكل ما نراه ونعتقده ونتفكره.
من معبر واحد، في اتجاه واحد، في تعيين واحد نعتبره نظام الشيء، نحدد للعالم معنى وسقفاً، وهو من حيث المبدأ لا يخلو في أقل الأقل منه من تعقيد وعمق ورحابة، عبر التركيب الذي لا ينقطع عن كل ما عرفناه حتى الآن وما جهلناه ونجهله حتى اللحظة، ولا بد أن أي ممعن نظر في العالم وموجوداته أن يأخذ علماً بما توقعه من قراءة العنوان بأن القائم فينا هو" التهجين " !
التهجين الذي يمتلك أكثر من جواب على كل سؤال، أكثر من صورة للشيء الواحد، أبعد من تخوم المرآة التي تمنحنا وجهاً أحادي البعد، نهاراً يجري في اتجاه محدد، ذروة تحفّزنا على النظر إلى الأعلى، ناراً تأتي على ما تحرقه أو تنطفىء إن لم تجد ما يغذّيها، وهذه من حيث البنية: القاعدة اللامحدودة لأخلاقية " التهجين " الذي بخسناه حقه، وما زلنا نكابر عليه، وهو في كل ما يحوطنا، ويتدفق داخلنا من دم، ويجلو الشهيق والزفير، وما سطّرناه ونروم مجهولاً !
ماذا يعني هذا المقلق لنا، والذي يتأخر عنا ويتقدمنا، هذا الذي يتداخل مع الكذب ويجلوه ؟
كثيراً ما نسمع في حياتنا اليومية وراهناً أكثر بكلمة" المهجَّن "، كما لو أنها تعني " الترويض" أو " التحكم بالشيء موضوع التهجين: ضبطه ". على مستوى اللغة ودلالاتها، لا مفردة تحل محل الأخرى، أو " ترضى " لأن تنوب عنها، وهي تكون صورة طبق الأصل عنها. إنها من حيث المضمون اختلاق، أو ابتداع غير جائز، إن انطلقنا من العالم اللغوي وفضائه الدلالي لكتاب كل من مسكويه والتوحيدي" الهوامل والشوامل "، إنما هو من باب التجاوز، وفي هذا المنحى يمكن الربط بين التهجين والكذب، باعتبارهما قادرين على الدخول في عقْد دلالي ما يبقيهما معاً ضمن حدود معينة: فالكذب، إذا هو التنويع، فإن التهجين هو السعي إلى التوحيد أو الصهر بين عنصرين، أي لا مجال لتأكيد أي منهما، دون الإمضاء على توافر عنصرين مختلفين على الأقل، وتمازجهما، ليكوّنا جسماً، عنصراً مختلفاً، مع فارق أن الكذب يستند إلى الثراء الدلالي من داخله، أما التهجين فيمضي بنا إلى الخارج، والبحث عن نوعية العناصر التي قيّض لها أن تشكّل جسماً واحداً، وربما أمكن لنا القول كذلك إلى أنه حتى في نطاق اللغة المحكية يكون الكذب منطوياً على هذا التنوع، سوى أن الذي يتقدمه: ما ليس دقيقاً، كحال الكذاب الذي يخشى منه، أي لتنوع أقنعته، هو الذي يحذّر منه، بينما المهجَّن فهو تذكيري، وفي الجانب الآخر، ربما كان المهجَّن الذي يجري ذمُّه " مشكوك في أصله، عرقه "، متضمناً ما يتهدد الآخر، أي ما يذكّر بتوحد قوتين وأكثر منهما في بنية العلاقة، خلاف القائل في نقيضه: الصادق، كما هو مشاع، رغم أن المباغت هو في سماع من يقول إذ يُلدَغ منه: ما كنت أعتقد أنه يكذب. كما لو أن الصدق أحادي الاتجاه، وجه دون قناع. يعني ذلك أن الكذب مثقَل عليه.
ربما من هنا جاز التوقف عند هذه تعريفاً وتوصيفاً ( التهجين métissage ذائع الصيت اليوم، وهو مختلط بكل أنواع الطرق الحامية للمستهلك تقريباً: زخرفة، ثياب، ذِواقة، تسلية، سفر، عالم الموسيقى، دُرجة عرقية، الخ. التهجين بارز مع " حركة " العولمة أكثر من بروزه مع الواقع ومع الغريب جداً، إنه يتسرب إلى أصغر الزوايا المخبأة في حيواتنا وأفكارنا المتبدلة تبدلاً شديداً. لكن المقصود أن للتهجين تاريخ قديم، وهو في آن واحد مصدر نزاعات ورهان هوية، أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتقلص إلى نتائج الدُّرجة .) " 2 ".
من باب التنويه، سوف سنتوقف مراراً عند مصدر هذا القول، كونه يكاد يضم كل ما يمكن النظر فيه أو التعرض له مساءلة ومكاشفة ومقاربة وتقصي أبعاد وسبر معلومات، خصوصاً وأن المصدر" الجسد " يستغرق كل شيء: فليس من شيء إلا ويوضع ضمن خانة " جسم " وهو مكوّن جسدي، أي ما يمكن تجسيده، وفي التجسيد ما يسهم في الإبراز أو التعزيز والتلوين والإنماء والتحول، حيث تكون السيرورة والصيرورة، فنحن كيانات جسدية، وما فينا جسدياً، هو ما يتكفل التهجين بإشهار بطاقته أو الإضارة إلى وجهته ومداه ومباغتاته.
وما هذا التركيز على التهجين، إلا لأن الذي شهدناه منذ عدة عقود زمنية من النواحي كافة، من خلال العولمة وما بعدها، هو الانفجار التهجيني في كل ما يمكن التفكير فيه ومعاينته ووصفه.
ذلك ما يحتّم علينا سؤال المتردد " الأصل: البداية "، ما كانه التهجين سيرةَ حياة ؟!
لهذا، فكل حديث عن التهجين، متعدد المرويات والمسارات، غير الهجين المخل بالعلاقة بين طرف وآخر، كما في حال المولَّد قديماً، عبر نظرة دونية، محكومة بتغليب عنصر على آخر، والتهجين محرَّر من حيث التواجد والتفاعل من هذه التفاوتية الاحتقانية، بحتميته هنا وهناك.
أشير هنا بداية إلى ما عرِف خلال العقود الزمنية المذكورة، بـ" الأركيولوجيا "، وعربياً أبقي على المفردة المركَّبة، وفي ترجمات أخرى كان التعريف " حفريات: أثريات "، كما في حال كتاب ميشيل فوكو" حفريات المعرفة "، وما حاوله المغربي محمد عابد الجابري " حفريات في الذاكرة " وهو بادي التأثر به" وتلك هجنة أخرى، ستضاء فيما بعد ". إنما ماذا تتضمن ؟
إنها تتعلق بالغوص في طبقات التاريخ، بأطوار التاريخ، عهوده، ومدى تشابكاتها.
ثمة إحالة إلى " أصل " المفردة، باعتبارها " المبدأ ". ما المقصود بها ( من الواضح أن الكلمة الإغريقية " " archêتتضمن معنيين لـ" المبدأ"، أي المبدأ بالمعنى الزمني للأصل والبداية فضلاً عن المبدأ بالمعنى الفلسفي. المنطقي التأملي ) " 3 ".
أصلٌ هو افتراض، أو مبدأ من البداية التي تتطلب يقظة في التعامل معها، فما يكون أصلاً، أو بداية، كما يشاء غادامير في " بداية الفلسفة "، القصد محدد" ربطه الفلسفة الغربية باليونانية باعتباره هذه أصل لتلك "، وما في ذلك من إضعاف لمفهوم التهجين هنا وهناك. أي شاهد يشهد تاريخياً، على أن الفلسفة اليونانية أنّى كان تحديدها الزمني، منحصرة في نطاق الجغرافية الجامعة بين الماء واليابسة يونانياً، وأن الذين تهجّوها ومارسوها هم يونان: إغريق تماماً ؟
هل نستعيد الكذب بالمفهوم الفني، أم بالمفهوم الشائع، وما فيه من تجنَّ على التهجين بالذات ؟
ثمة العديد من الحالات، وهذا ما يصلنا بعمق المفهوم المركَّب، كما الحال مع ما نحن بصدده، ولا شك أن وراء كل تنوع ذلك الضرب اللافت من التهجين، على قدر عراقته وإشكاليته، وأن محاولة ضبط المعنى لا تعدو أن تكون تخلصاً من أرق التفكير في التنوع جرّاء متطلباته.
ومن المؤثر التأكيد على أننا كثيراً ما نعيش تراكيب المفهوم، تداخلاته، تداعيات ألوانه الكثيرة، ما يبقى عصياً على الاحتواء ضمن خانة دلالية واحدة، عندما استعدنا أنفسنا، أو واجهناها.
لاحظ، كيف يعلّق باحث معاصر على كلام لأرسطو( كلما أصبحت مستوحداً، أحببت الحكايات، وأحببت الأساطير )، وتعليقه يأتي من باب تبرير لوضع خاص به، تاريخي المقام، حيث إن الأسطورة زمن أرسطو تختلف معنىً عما هي عليه لاحقاً( إذ إنه خصص كلمة " أسطورة " للحبكة الروائية المُحكمة، وللحكاية التي عرف مخترعها كيف يحبكها)، ليفصح عن أرسطو"ه" الذي يميل إليه( إنني أفضل الحديث عن أرسطو آخر، ذلك الرؤيوي المقتنع بأن الحضارات كانت لا تُعَد ولا تحصى، وبأنه في الأزمنة السحيقة كانت هناك بدايات غفلت عن بدايات أخرى، وبأن كل الاختراعات قد حصلت في مرات لا حصر لها..الخ) " 4 ".
لا فصل ممكناً بين القولين، ففي الحالتين كان أرسطو، وما يشير إليه بصدد الأسطورة، إنما هو وضع نفسي خاص وعلاقة مع الخارج بطريقة أخرى، تكون الأسطورة تلك أضبط بالمعنى، أكثر من ذلك، إن الوحدة تواجه المرء بطبقاته النفسية، بما كان بعيداً عنه، وهو قريب منه، وأن الذي يتحدث عنه البلجيكي ديتيان، إنما خروج أرسطو من ذاته، وقد استمد منه قوة مؤازرة، حيث رحابة العالم لا تفارق رحابة الذات في العمق اللجي لها، وأن حياتنا من جهة التوصيف سردية لا تنتهي، وتخيف صاحبها لأنه الوحيد الذي يجب عليها سبر قاعها، أو الغوص فيها، وما في ذلك من مفاجآت، ومن تعقيدات، ومن تشابكات، أي يكون عالماً تهجينياً بجلاء.
ليكون الحديث عن البدايات من بين إحدى السرديات الأكثر إثارة للتساؤلات: ما إذا كان يتحدث فيه أو عنه ينتسب إلى الحقيقة، أم الكذب بالمفهوم السابق؟ ما إذا كانت البداية تعني لزوم التقيد بما هو عرفي/ تقليدي، للسير إلى النهاية، وما في ذلك من اختزال للمسافة، وبالتالي، فإن أرسطو الذي شغله عالم كامل، كما نقرأ له وبيننا مسافة زمنية طويلة، هو ومن هم قبله، إنما يعيش متتاليات أفكاره ومشاعره ومخاوفه، فزعم الأكثر علمية هو الأكثر مؤاخاة للأسطورة !
وربما كان في مثال أرسطو ما يحفّز على اعتماد المتخيل الأدبي والذاكرة العلمية في تحرّي حقيقة ما يقوله، وهو التالي على كل من سقراط وتلميذه اللبيب أفلاطون، أي ما يجعله يضع حداً بين الأسطوري وخاصية الوحدة، والعلمي والفلسفي والانتقال بين الأمكنة، إذ لا يغيب الوصل بينهما، فما تم التنكر له أسطورياً، وفي الملحمة ذات الطابع الشعري الموسيقي الهوميري، تناسل فلاسفة اليونان، والأسطورة تدعو إلى التأمل، والتأمل له نسب مكاني، توحدي، إلى جانب معايشة النفس والخفي فيها. بمعنى ما، في التأمل ذي الأرضية الأسطورية، حيث تتراءى حكايات لها أصداؤها يحضر هوميروس، بينما في الطرف الآخر: فيثاغورث غالباً.
في السياق ذاته، لا مجال للقول بأن الذي عاشه أرسطو يميّزه فيلسوفاً بالمطلق، دون أن تكون تلك الأهواء أو الميول الخاصة، ومنها تلك الحالات التي تجعله مستمرئاً ما هو حكاياتي.
إزاء ذلك لا يظهر التهجين أحادي الاتجاه، بقدر ما يكون على غاية من التعقيد، على قدر ما يمكننا الحديث عما هو كوني، أو حياتي أو إنساني، فهو الذاكرة المركَّبة التي تعيننا في الكشف عن الكثير مما صعب علينا فهمه،إنه "نحن " فيما كنّاه أو عشناه وما نعيشه ونكونه الآن ولاحقاً.
لهذا، ليس مبالغة في القول إن تم التأكيد على أن اللغة ذاتها، مهما كانت بساطتها، قادرة على أن تمدّنا بالكثير من وسائل الربط والانفتاح على هذا الملغز، باعتبارها هي ذاتها تهجينية بجلاء.
إننا نتحدث هنا عما هو طفولي، والعمر في مختتَمه، عما هو طفولي وطلاقة خيال الشاعر، ما هو طفولي وقابلية الباحث لأن يسلسل القياد لأفكاره، وكأنه لاعب بلا حدود، وهو تهجين .
في كل ما يُسمّي اللغة يكون التهجين حاضراً بقوة: في الجملة الفعلية ودلالاتها، وهكذا الحال مع الاسمية، وما يضفي على عدة كلمات صفة " جملة "، ولها معنى، أي ما يعزز في وجود هذا الذي يُتنكَّر لتاريخه الطويل والمتعرج والمتقطع وغير المرئي لمن يعجز عن قراءة الخفاء.
لغتنا، لغاتنا في مرتبة الأم والقابلة وغرفة الولادة معاً، في كيفية الإسهام بإعطاء معنى لكل تركيب جمَلي. وعلى قدر مرونتنا وأهليتنا للإبداع والمعرفة تكون اللغة دالة على ذلك.
ويمكن من هذا المنطلق النظربعيداً وفي العمق، وفي القرب وحيثما كنّا، إذ تمتد الأشياء بقدر ما تتداخل، أو تتراكم، أو تتمايز، أو تتوحد، وتشكل سواها، وتلك مشهديات التهجين.
ليس هذا فحسب، فإن تاريخ البشرية لحظة التوقف عنده وإيجازه في كلمة مفيدة، فلا بد أن تكون وكما هو متوقع" التهجين ". إن التفاوتات التي تميّز المجتمعات البشرية عن بعضها بعضاً، وحتى بالنسبة للمجتمع الواحد في عهوده المختلفة، والعلاقات القائمة بين أفراده، ومتحولات القيم التي تربط بين من كانوا والذين جاؤوا من بعدهم، وكيفية التفكير في مصيرهم وغدهم ، لهي مشدودة إلى الكلمة الأنفة الذكر بالذات. المجتمعات التي نسمع أفرادها وهم يتغنون بأمجادهم، أو يشيدون بماضيهم، ويتأكد ذلك من خلال الوقائع، يمكن أن تكون كذلك من خلال تبيُّن فاعلية التهجين: كيفية تمكين هذا المجتمع أو ذاك من نفسه، والدخول في تحد معها ومع العالم الخارجي، بغية الإتيان بما هو مختلف، كإرث للأجيال اللاحقة، وهكذا دواليك .
لنقل إذاً، إن وراء تعددية الأجناس البشرية، وراء التنوع الثقافي البيني، وداخل المجتمع الواحد، وراء الحضور المؤثّر للفرد الواحد، وراء التاريخ الغني بمكوناته الاجتماعية والحضارية، ثمة معمّد واحد، ناطق رسمي، مهما قيل فيه، أو وجّه إليه من نقد، ثمة فاعل واحد هو التهجين.
والجدير بالتذكير هو أن هذا الموسوم، كثيراً ما أسيء فهمه، كما أشير إليه سالفاً، لوجود ثقافة في الاتجاه المعاكس له تاريخياً أو في مجتمعات دون أخرى، إلى درجة الاشتباه بأن هناك من يمارس جهوداً حثيثة لعدم الإتيان على ذكر اسمه، أو الإشادة به، أو الاعتراف بمكانته، كما لو أن مجرد الإحالة إليه، أو التوقف عنده، ينكشف الوجه الآخر للحقيقة التي يتستر أو يختفي وراءه أفراد وجماعات، كلما تم الرهان على ما هو مركزي، أو محلي ضيق، ودون أن يؤتى على ذكر اسمه، لحظة التنكر لفضيلة التنوع، أو الاستعداد لقبول الآخر من منظور التفاعل، وهو أول الخطو في التهجين، أول الطرْق على باب التاريخ الذي لا يُرى كاملاً لضخامته.
في بنية هذا المفهوم، حيثما نظر المرء، أو أعمل الباحث في المجتمعات، والإناسي وعالم الاجتماع قبل غيرهما، لاتصالهما الوثيق بالموضوع، لا بد أن يلمح المفهوم، الحامل الرئيس لما هو شاهد على أحوالنا وأطوارنا، ما حققناه من إنجازات مفرحة، وهزائم يخجَل من ذكر اسمها.
لا بد أنه الجسد، هذا الكيان الحيوي والذي يمثّل القاسم المشترك الأعظم بين بني البشر، وإن خفّفنا المركزية عنه، وأمعنا النظر في ميكانيزم التكاثر بالنسبة لعموم الكائنات، فثمة رحابة لا مثيل لها لهذا المذكور: داخله وخارجه تأخذ الحياة مجراها، كما يعيش التاريخ أطواره المتعاقبة.
إنما ولكي نتمكن من التقاط جملة الأفكار الحيوية للتهجين، يكون التوقف عنده، داعماً لنا، ونحن قد حرّرنا بحثنا حتى الآن مما هو حدودي، لأن المعرفي يتطلب اللامحدود ليكون أكثر سوية.
حسبي أن أسمّي ثانية بعضاً مهماً مما ورد في " معجم الجسد "، وخصوصاً في المجلد الأول له جرّاء المثار من خلاله، ففي هذه الأضمومة المعلوماتية ثمة ما ينشّط قوانا النفسية:
في المجلد الأول، ثمة صفحات تترى، تستعرض معدة الكتاب لائحة معلومات بهذا الصدد، وقد أشير إلى نقطة منها، وهي ذات محتوى وصفي أكثر، تعريفي أقل :
ما يأتي تأكيداً على أهميته في القرن العشرين، وهو ما يذكّرنا بالفطرة المعلوماتية الهائلة، إنما ما يخضع العملية برمتها لسلطة التجاذبات البلاغية على مستوى العلم نفسه، وهو متعاقد في الخفاء أو علانية، أو بصيغ التفافية، ولا بد أن يكون الوضع كذلك إعلاماً بموقعه:
( إن كلمة " تهجين " خلال القرن العشرين، قد انحرفت رويداًرويداً من البيولوجيا باتجاه الثقافة وعلم الاجتماع...هل يمكن تحديد هوية التهجين؟: هناك تهجين مخجل وتهجين سار. إذا أحسن فهمه، يتضح أن التهجين هو فرصة مدهشة، وإذا أسيء فهمه، فإنه بإمكانه أن يجعل المجتمعات كالأفراد في غاية الخطورة. الجسد المهجن متسامي تارة ومقيمته منتقصة تارة أخرى، هو إحدى التعابير عن هذه المعاينة المزدوجة.ص490.).
ومن المؤكد ، كما أرى، أن ثمة صعوبة في تحديد نقطة البداية: لمن تكون: لرجل العلم الذي لا يهمه علمه وما يفيده ومجتمعه وأبعد منه، أم لرجل آخر يتضمن رجل العلم، أو بالتشارك، ومن هنا كان هذا الإعلاء من الثنائية الملحوظة، بتينك الطرفين: السلب والإيجاب، أو ما يتدخل في مضماره الأخلاقي: الخير والشر، كما هو المشار إليه في الفهم الحسن أو السيء، وربما كان المفصح عن ذلك بالمقابل، هو أن إساءة الفهم قد لا تكون دقيقة، في ضوء المستجدات، إنما هو الجاري عمداً انطلاقاً من خلفية ثقافية واجتماعية، وليس من عالم إلا ويتنفس مجتمعه بشكل ما.
في المنحى غير المستقيم للمفردة، يمكننا تعقب سردية تاريخية لها، وكيف ولِدت ونمت ومن ثم تشعبت بدلالاتها المختلفة، عندما نتوقف عند فقرة " تاريخ صعب "، ولا بد أنه كذلك انطلاقاً من متضمنات المفردة وهي ليست بسيطة( تأتي كلمة métissage أي تهجين من الكلمة اللاتينية mixtus التي تعني " ممزوج ".. إن كلمات " خلاسي "، " الأبيض المولود في المستعمرات الأوروبية القديمة" و" الهجين " المولود من عرقين مختلفين..ألخ . هذه الكلمات تفرض نفسها بترويج السلم الغربي للألوان والقيم.ص490.).
إنها أكثر من كونها قضية تزاوج، نظراً للعلاقات المتوترة بين الأجناس على الصعيد اللوني، أي حين يتحول اللون إلى منصة إطلاق للأحكام أو لضخ ما هو قيمي لتعميق التفاوت، وذلك تبعاً لنظرة كل طرف إلى الآخر، والسلطة التي تسمّي أحدهما وتعنيه أكثر من الآخر.
ومن البداهة القول أن الأبيض، يعرَف بتاريخ طويل، وطويل جداً، من المآثر والمناقب، إلى جانب مشهديات البطولة والتفوق والاعتبار حتى على مستوى ديني يشرِك فيها السماء، وما في ذلك من تداعيات القوة ووضع كل ما هو موجود العالم ضمن صنافة لونية وتوابعها طبعاً.
إزاء ذلك، نجد أنفسنا في زحام التجاذبات والتنازعات ذات الأرضية اللونية، وما يجري من اتصالات بالإكراه أو الغصب،كما هو الاغتصاب السيء الصيت تاريخياً، ليكون اللون من حيث التسمية الدلالة السياسية، أو علامة القهر والتحكم، ليكون الهجين أكثر قابلية للأخذ به، ومن الزاوية الأكثر انفتاحاً على الآخر، عندما يقبِل طرفان على علاقة زيجة ليكون نسل مختلف.
وإذا كان لنا أن نلقي نظرة على تاريخ العالم، ومجريات أحداثه، فربما لا نحتاج إلى انتظار كثير لمعرفة النتيجة والتي تُري حجم المآسي، أو المكابدات، فـ ( التاريخ العالمي هو قبل كل شيء ثمرة لقاءات مشؤومة ومدمرة تقريباً... مثلاً: وصل الاسكندر الكبير إلى الهند عندما أخلت الحرب المكان للفن واللقاء الثقافي حول هذا الانصهار الإغريقي البوذي الشهير الذي ولَّد فن غراندهارا.ص 490...وكذلك: في أميركا، دمَّر الكونكيستادور إمبراطوريتي أزتيك وإنكا، لكن الكنائس التي حلت محل الأهرامات القديمة كشفت عن القدرات الفنية لدى الهنود الأميركيين الذين فرضوا أسلوبهم الخاص..ص491.).
هما مثالان، من باب التنوير الجسدي المقام، للتعبير عن أن السياسة ذاتها قابلة لأن تفيد أو تستثير، أن تكتم أنفاس المرء أو تريحه، ولكن العالم معرَّف بحروب إبادة واستعباد، أكثر من كونها حروباً من أجل الآخر، إذ من باب التأكيد على أن شعباً يطلب من قوة خارجة أن تدخل حدوده،وتكون مقررة مصيره في كل شيء، ذلك هو الحد الأقصى من التهجين السلبي.
لذلك، يمكن النظر إلى التهجين كما هو مرئي أمامنا من زاوية أخرى وهو أن ( التهجين هو تاريخ المهزومين الذين يلتقون بالمنتصرين، وبالعكس.ص 491.).
ثنائية مفتوحة على احتمالات متنوعة، تتوقف على نوعية التكافؤ بين طرفي المعادلة: فردين، جماعتين، طرفين..( والتهجين لا معنى له إلا إن كان مع وليس ضد..ص491.).
فثمة الجانب الداعي إلى التفاعل، إلى التصاهر، كما هو" التثاقف " الذي هو تهجيني، وحتى في مفردة " التناص " يمكن المضيّ مع غابة النصوص التي تكبر وتتنامى، أو تلك الخاصية التي ألح عليها الفرنسي ذو الصيت جيل دولوز"1925-1995 " تحت اسم/ دمغة" الجذمور "، شجرة تستدعي سواها، وأشجار تكوّن غابة، فلدينا عناصر، أجسام ربما تعيش مع بعضها بعضاً نوعاً من العقد الأبدي بغية استيلاد أجسام أخرى، وهذا يبقي أبواب الاتجاهات المفتوحة، للمستقبل الواحد بالذات، أي بصدد لاتناهي المفهوم، ذلك من شأنه تفعيل التهجين لأن يقوم بدوره صحبة المناخ الفضائي الذي يتطلبه، ودونهينعدمُ اسماً !
ولا أبلغ من هذا الاستيعاب لما يفرح أو يصدم من تنوير آخر للمفهوم بتشخيصه ( وإذا ما طبق مفهوم التهجين على الجسد فإنه يترجم استيهاماً مزدوجاً : الاستيهام الجنسي الاستعماري والاستيهام الذي يغذي الخوف من المزج والافتتان بالآخر... وإذا انطلقنا من هنا، فإن مأساة الخلاسي تولد بالتأكيد في الاغتصاب الأصلي والصادم والمزيل للحضارة..ص 492.).
وهذا ما يصلنا بـ" التهجين والعلوم الإنسانية"، وهي علوم كونها تدعي العلمية، وإنسانية، باعتبارها تلبّس العلمي ما هو معايش ثقافياً في التعامل مع الآخر، حيث ( لم تكن الإناسة دوماً حليفاً للتهجين.. وثمة إسرافات تعني الإناسة وبشكل صادم " تحت النظام النازي، مثلاً" مسوغة ما لم يكن بوسعه أن يكون تهجيناً: العنصرية، بيولوجية كانت أم ثقافية...شكل التهجين على هذا النحو تهديداً للقوى الاستعمارية والامبريالية..ص492.).
وهذا دقيق ومهم للغاية، إذ ما أكثر استخدامات العلوم الإنسانية وبأساليب مختلفة في إثارة نقاط تسيء إلى اسمها، وفي بنية العلاقات القائمة بين الجماعات البشرية.
لعل ذلك يمس جوهر الموضوع، فما تتنشط فيه العلوم الإنسانية، له مرجعية تهجينية، وما يميّز هذه العلوم في الحالتين يرتد ليس إلى سوء استخدام المفهوم، وإنما إلى الرؤية الفكرية له.
لهذا، فـ( إن مفهوم التهجين ممتهن، معمم، أشيع بين أفراد الشعب، فاسد، ومصدر إرتباك كبير..ص493.).
لا بد أن مسيرة التهجين تعكس الصيغ المضلّلة للذين راهنوا عليه جسدياً، وأفضوا إلى المزيد من الالتفافات على كل ما له صلة به، وتحديداً في عالمنا الحديث والمعاصر( ومنذ سنوات ثلاثينيات القرن الماضي، كان إيميه سيزير.. قد شق الميدان بتقديره أن التهجين، بالمعارك من أجل الكرامة الإنسانية التي يفترضها، كان يدعو إلى تكامل الجسد الإنساني.ص494.).
لا بد أن التهجين يعرَّف به من خلال ما هو هائل التكوين، وما يمكن أن ينطق بالخير أو بالشر، وعبر ما هو ضارب بأصوله غير المعلومة في أعماق ما وراء التاريخ، في المجهول أكثر من كونه المعلوم، وأن غوايته متعددة الجنسيان، في تداخل الليل والنهار طيّه، وذلك يسمح بتسريب ما هو سافل، وما هو جليل، وما يبقى غفلاً من الاسم، ليكون لدينا أكثر من التأويل المفتوح .
ذلك ما يعيدنا إلى الوراء، إلى النقطة التي ترينا ما هو وخيم تاريخياً وحتى كتابة هذه الكلمة، حيث ( انشغل علماء وكتاب كثيرون بالتهجين، كما في العلاقات الاستعمارية والألم المصاحب للاغتصاب.. التهجين يقلق حيث النقاء يطمئن، يعيش حياة الترحل عملاً وفكراً بينما يحتاج الأصيل لاستقرار الحضرية. التهجين هو قبل كل شيء، الإطراء على الحركة.ص495.).
تُرى، ألا يمكننا القول بأن التهجين في مفهومه الثري مفهوم " الطرب "، بجمعه بين الفرح والحزن؟ أليس في ذلك ما يحفّز على النظر في التهجين وانطوائه على تنوع هائل في قائمة تلك المزدوجات التي تسمّي الجهتين، تسمي العناصر باختلافها وقدرتها على إثراء العالم...!
بالترادف، أو بالتوازي، أو في هذا المنحنى الوعر لإيحاءات التهجين، وما يمكن أن يوفره من خدمات خاصة للقيمين عليه سلطوياً، نتلمس أطيافاً في " التهجين والامتزاج "، حيث إن التهجين نفسه يستدعي التالي عليه، أي ما يزيده هو نفسه وضوح أبعاد وذلك في موقعه غير المستقر، إذ إن ( امتزاج الديانات وهو لقاء الحكماء، يقود إلى التوفيقية، وهي شكل خاص من التهجين المطبق في المجال الروحي. تنزع التوفيقية الدينية إلى جمع التأثيرات المتنوعة في مركز واحد، إلى توحيد المعتقدات لتخلق منها معتقداً جديداً. أي أنها تفكك دون تهجين.ص 495.).
لعلها سياسة أخرى في ضوء العلاقات غير المتكافئة في عالمنا، وما هو جار أحياناً باسم " حوار الأديان " ونوعية الذين يشاركون في كل مؤتمر، أو ندوة، أو مناسبة، والقرارات التي يوقَّع عليها وما يترتب عليها من إزاحة لأصل الحادث، وهو أن جل المشاركين لا قدرة لهم في أن يقولوا إلا ما يقرب شعوبهم من بعضها بعضاً، وغض النظر عن الجسد السياسي الذي يتركب ويتلون بطريقة خاصة تابعة لمجتمع كل مشارك.
نعم، ثمة ما يغري في البحث والتقصي والتحاور تهجينياً، فالمجال واسع( وبخصوص الجسد المهجن، هناك مستقبل جميل بانتظاره. من تهجين الأجساد إلى نسيج الزخرفة. ص496.). ولا بد أن أساس المقاربة النقدية أو التفاهم قائم على أساس لغوي بما أن ( اللغة، لغة الجسد ولغة الثقافة، أساسية للوصول إلى الآخر. ص 497..).
ومثلما أن التهجين يرسم إحداثيات كبرى لمصائرنا، إن تنبهنا أو لم نتبه، مثلما أنه في كل اتجاه لنا، مثلما أن المرئي واللامرئي يهمسان باسمه، فإنه " من أجل أخلاق التهجين" ثمة ما يفرض علينا شروطه، وهي في المتن تضمن سلامة علاقات مشتركة أكثر، وذلك عندما نتعرف إلى منشأ الاسم وكيف سيق من حال إلى أخرى، إذ ( إن درس التهجين هو في وعي أن الوجود لا معنى له إلا إن كنا مع بعض، بتشابهاتنا واختلافاتنا الممزوجة... إن كلمة " تهجين " التي ظهرت حقيقة في القرن التاسع عشر في أوروبا، احتُفظ بها " أولاً للتدجين، وبشكل خاص لنوع الغنم، وبعدها انتقلت إلى الإنسان"..ص 499.).
وربما أمكن القول أن الانزياح رافعة تاريخية لا اتجاه دقيقاً لها في تلقي الذبذبات، والإيحاءات بالتحرك هنا وهناك، لكن القوة، ومن باب البداية تفصح عما هو واجب التذكير به، في عالم اليوم، عالم التجارة في كل شيء، وللجسد نصيبه اللافت، حتى وهو محتفى به، بما أنه يقحَم في ميدان إعلاني، داعئي، ليتسلعن، كما في " التهجين في المجال التجاري" وما يراهن عليه فوائدياً( يصبح التهجين استراتيجية تسويق، وفي نفس الوقت وسيلة لتخفي تكاليف الإنتاج وتحسينه وتجميعه من غذاء غير منحصر، والذي يصبح تنظيمه أغلى من إنجازه.ص 899.).
وهذا ما يدفع بنا إلى التدقيق في كل ما يعرَض عليه مناهجياً أو معرفياً، للتعرف على مؤثر التهجين تاريخياً، وكيف تفاعلت أنواع حية مع بعضها عبر المخيال البشرية، أوحتى في صناعة السينما وأفلام الهوليود عن خياليات تستغرق السماء ذاتها، عبر الكائن الهجين، كما هو الوارد في المجلد الثاني من " معجم الجسد "( الكائن الهجين هو من فئة المخلوقات الخيالية. مكان لإقامته هو أرض حدودية محصورة بين الأدب لا سيما أدب العلم الخيالي والعلم، ولا سيما الاستقبالية العلمية، أي مجال ما ليس موجوداً بعد والذي قد لا يوجد على الإطلاق.ص1409.).
ولا بد أن صفة " الهجين " لا يؤخَذ بها إلا في سياق الخلطة التي تتضمن الداء والدواء معاً .
وبلين أفلام هوليود وما فيها من ابتداعات، وما يجري في المخابر أو مخبرياً يمكن مقاربة الجسد وكيف يجري التحكم بقواه ( هناك الجسد في الطب، كما في الجسد الهجين ومسألة وضعه في رحم المرأة طبياً والتوترات الحاصلة وأبعادها المختلفة..ص1832.).
إنها تفرعات المفهوم الواحد، في بنية العولمة التي نعيش صيغاً مختلفة منها، بشأن الجسد الذي يقال فيه الكثير، سوى أن المقرَّر علمياً وطبياً وما يضخ إعلامياً، يبقيه مفهوماً ثقافياً أكثر.
بالطريقة هذه، عبر مقبوسات سريعة، إنما هي كافية في تعزيز نقاط مهمة في الموضوع، يمكن التيقظ بزاوية كاملة، وعدم الوقوع في خانة الاستثناءات، عند تحويل " التهجين " إلى درس، وما يعنيه الدرس هذا من تجاوز نطاق الجدران الأربعة، وهي صفية، ليكون كل ما يمثُل أمام النظر امتداداً له، أو موصولاً بغيره، متأثراً ومؤثراً، وليس في الإمكان التوقف والثبات في المكان، لأن الحركة زمانية، والمكان كينونة حسية إن أعطيناها الأهمية المناسبة، أي إنها هي ذاتها أبعد من أن تكون وضعية جماد، وهذا من شأنه الخروج أكثر إلى الهواء الطلق، إلى النظر في الكائنات، والذهاب إلى ما وراء المعطى الحسي فيها، كما في مشتقات الألوان: برتقالي، بنفسجي، زهري، نيلي، عشبي، دموي، كرزي، بني، بصلي، جوزي، سفرجلي، سكّري، فيروزي...الخ، ألوان تبتدع فيها مخابر الكيميائيين ومن يعملون معهم، ويعتمدها الفنانون في علاقاتهم مع لوحاتهم، كما لو أنهم على مستوى العلاقة، أي علاقة مع اللوحة، إنما يعيشون ما هو مثار بين جنبيهم، أو ما يتحسسونه من أشياء العالم، وما يكونه أحدهم في موقع معين، أو زمان معين، وحالة معينة، ليكون التهجين شاهد إثبات على الجاري، وهو مسكون بغوايته .
وللسائل أن يسأل عن نوعية هذه الغواية، وكيف، ومن أين؟
إنها الغواية ذات الحضورالتاريخي، وهي التي تمكّن المرء أحياناً من نفسه، في أن يعيش انقساماً من الداخل، أو يتنكر لما هو إنساني فيه، على وقع المتردد من شعارات، أو يؤخَذ به من قيم تطبَّق في ميدان العلاقات بين أفراد المجتمع، باعتماد معايير تمازج يغيب فيها التنوع قبل كل شيء، بما أن فعل التمازج قسري، أي يخضِع طرفاً لآخر، أو قوة لأخرى، فيكون لدينا اختلال التوازن بين الجهتين، وما من شأنه إقصاء التهجين وهو في تنوع علاماته الثقافية، إلى جانب الطبيعية، أي ما يبقي الطبيعة في ذمَّة المشدَّد عليه سياسياً، كما هو المعاش في مناطق متفرقة في العالم، الأمر الذي يحتّم علينا السؤال عمّا يجري وإلى أين يبقى التهجين معتماً عليه؟



مصادر وإشارات :
1-للباحث السعودي الأكاديمي عبدالله الغذامي، دراسة ممتعة حول هذه النقطة، تحت عنوان " جماليات الكذب "، الفصل الثالث، من كتابه: القصيدة والنص المضاد، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1994، صص113-157، وينظَر في ص: 114-115-116-120-146...الخ.
وقد تعرضت لذلك في مساهمتي المقدَّمة إلى" مهرجان الشعرالعربي الخامس " الرقة، في 12- 4- 2009، متطرقاً فيها إلى أكاذيب الشعراء المعاصرين .
وبصدد خاصية الشعر باعتباره " ديوان العرب "، وكيف يجري التمسك به بوصفه ميزة العرب الأولى، لدى الجاحظ في مقدمة كتابه " كتاب الحيوان "، الجزء الأول، ومتابعة ذلك من قبل كتاب معاصرين، كما تعرضت إلى ذلك في كتابي: أسئلة التأويل، دار الحوار، اللاذقية، الفصل الثالث، صص 153-210، وهذا ما سأتوقف عنده عند تناولي مسوخيات مختلفة في الأدبيات العربية، وما قبلها، ولدى شعوب أخرى، وعلى مستوى الأدب والفن تأكيداً على عمق الدلالة.
2-معجم الجسد، بإشراف ميشيلا مارزانو، ترجمة: حبيب نصرالله نصرالله، المؤسسة الجامعية، بيروت، ط1، 2012، م1، ص489.
وأشدد مجدداً، على أن التهجين ينظَر فيه غالباً باعتباره تفاعلات عناصر، بعيداً عن عنف طرف في آخر، واحتوائه، ولعل النظر في الأمثلة الشاغلة للكتاب هو الذي يفصح عما تقدَّم .
3- غادامير، هانز جورج:بداية الفلسفة، ترجمة: علي حاكم صالح- د. حسن ناظم، دار الكتاب الجديد، طرابلس الغرب، ط1، 2002، ص 11.
4- ديتيان، مارسيل: اختلاق الميثولوجيا، ترجمة: د. مصباح الصمد، مراجعة: د. بسّام بركة، منشورات المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2008، ص40.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى