أمل الكردفاني - البرزخ.. قصة قصيرة

- اتركي لعبتها .. لماذا تثيرين اعصابها..

- لا افعل يا ماما..اريد فقط ان العب بها.

- وانت يا ولد لا تأكل الحلوى من الأرض... كيف يمكنني ان انظف المنزل والشيطانة هذه تبكي هكذا.. اشعر بفوضى...

اتسعت عيناها وهي تشاهد اطفالها الثلاثة وهم يتبادلون الصراخ والشجار والرضيعة الرابعة تبكي بصوت عال تطلب ضرعها.

- المنزل متسخ جدا .. كيف استقبل ضيوفي.. نزار يرفض ان يستأجر لي خادمة...واخواتي لديهن بيوتهن ومشاغلهن... لو كانت امي فقط معي... آه يا أمي .. صرت مقطوعة من شجرة...ومن حولي الاولاد يحولون حياتي لجحيم... المنزل متسخ .. السماء لا ترحم وهي تقذف بكل اتربة الصحارى الافريقية كل اسبوع الى المنازل... حتى استئجار خادمة ليس امرا سهلا .. اقدر ظروف نزار .. اقدرها فعلا فالخادمات الشيطانات يحصلن على مرتب وزير .. هذا فضلا عن امتعاضهن المتواصل وعدم اتمام العمل بدقة واتقان ..يفتقدن للاخلاص.. تافهات .. لكن كل ذلك بسبب هذه الحكومة الملعونة... لا اعرف كيف ولكني متأكدة ان لها يدا في تدني اوضاعنا بهذا الشكل ... نزار متعلم وله شهادة وله حتى الان سبع سنوات موظفا في الوزارة ولكن خادمة تافهة تحصل على اضعاف مرتبه هذا في سبعة ايام فقط. هذه ليست عدالة...

حملت الرضيعة واخرجت ثديها والقمته لها ، لم يتوقف العيال الباقون عن الصراخ والشجار والتشاكس... عيناها متسعتان بقلق رهيب.. (سأصاب بالجنون ... ارجوكم يا عيال توقفوا.. لم استطع حتى طبخ حلة الملوخية التي يشتهيها نزار كل يوم ... احتاج لتوريق الملوخية .. منذ اشهر لم اتحنن .. بسبب كل هذه الفوضى... لم اهتم بنفسي... ان رائحتي اما ثوم او بصل او براز الرضيعة .. نزار لم يأت يوما ويجدني في حالة تفتح نفسه للحب...ولكن ماذا افعل... كانت هذه نصيحة المرحومة أمي قبل ست سنوات ، أن انجب وانجب ولا اتوقف عن الانجاب.. كانت تقول بأن الانجاب فيه خير وبركة ولكني لا اشعر بذلك .. كانت تقول انه الهاء لزوجك ولكنه في الواقع الهاء لي .. كانت تقول بأنه زيادة في امة الاسلام ، ولكنني بشر ولست صحابية.....

اقبل الصغير وامسك ثديها قائلا:

- اريد أن اشرب مثلها يا ماما...

صرخت بعصبية:

-ابتعد عني الآن ..لم اعد اتحمل اكثر من ذلك...

مسح الصبي عينيه بأصابع يديه ثم انفجر باكيا...وغادر المكان...

صاحت: فلتبك او فلتمت حتى ..لا اهتم...

البنتان الشقيتان كانتا تدوران من حولها صارختين...

رفعت سبابتها وقالت بلهجة حاسمة:

- اقسم بالله... ان لم تتوقفا عن الصراخ والشجار فسأجلدكن حتى تتورم مؤخراتكن...

لكن الفتاتان لم تهتما لهذا التحذير ...واستمرتا في الصراخ والجري.. فوضعت هي الرضيعة على السرير ثم قفزت تلاحقهما ؛صرخت الأميرتان الصغيرتان بجزع وهرولتا الى الخارج... ثم توقفتا حين سمعتا صوت طرقات الباب... انتبهت هي الى صمت الفتاتين وادركت ان هناك مشكلة ، فخرجت على اثرهما.. اشارت احداهن الى الباب ، فأرهفت هي السمع. كانت طرقات خفيفة كطرقات طفل متردد . هزت جسدها وقبضتي يديها بعنف وقالت بغيظ: وهل هذه مواعيد زيارة... اللعنة ... الا يكفيني ما أنا فيه.

عادت الى الداخل وارتدت غطاء رأسها .. ثم حاولت اخفاء ملامح قلقها عن وجهها واتجهت الى الباب بثبات.

فتحته فتحة صغيرة وحاولت تبين الطارق ، بدت لها سيدة تتسربل بلباس ابيض طويل بأكمام طويلة تغطي حتى راحتيها... ورأس المرأة كان كذلك مغطى بقماشة بيضاء نظيفة ولامعة...

ضاقت عيناها وقالت بصوت خفيض:

- اهلا وسهلا...

كان ترحيبها استفسارا عن هوية المرأة الغريبة ، لكن هذه الأخيرة لم تجب بل ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها...

دققت هي في وجه الغريبة ، لم تتبينها وان كان قد بدا لها انها رأتها من قبل ، قالت:

- أنا آسفة ولكن من انت وماذا تريدين؟

طأطأت الغريبة رأسها وقالت بحزن:

- لم تعرفينني يا عوضية؟.

ارتبكت هي قليلا حين أدركت ان الغريبة تعرف اسمها ؛ ضيقت عينيها لتركز ذاكرتها على هذا الوجه لامرأة خمسينية ، وجهها كان صبوحا... هزت رأسها وقالت بتردد...

- حقا لم اتعرف عليك .. أنا آسفة يا سيدتي...

تأوهت الغريبة... تجهم وجهها ، وبدا وكأنها ستنفجر في البكاء.. تهدج صوتها وهي تقول:

- بهذه السرعة نسيتني يا حبيبتي... بهذه السرعة...

انخلع قلب عوضية حين سمعت تهدج صوت الغريبة فقالت بخوف:

- اقسم لك انني لم اتعرف عليك...اقسم باولادي .. انتي تعرفين مشاغل المنزل والاطفال ..انها تنسينا اسماءنا...

ازداد خوف عوضية حين طفرت الدموع من وجه الغريبة ؛ كانت دموعها تتساقط على خدها المنير كحبات الؤلؤ... فقالت:

- ارجوك لا تبكي فهذا يحزنني جدا.. ارجوك اغفري لي عدم تذكري لك ... ويمكنك ان تذكريني فحسب دون ان تبكي كل هذا البكاء...

نشقت الغريبة انفها بسرعة ومسحت دموعها بيدين حريريتين وقالت بصوت بارد وهي تحدق في عيني عوضية مباشرة:

- نسيت أمك يا عوضية...

ارتبكت عوضية وقالت بعد برهة من الصمت:

- أمي؟؟؟ .. ماذا تقصدين؟؟؟

تقلصت ملامح الغريبة بحنان دافق وهي تقول بصوت مرتجف:

- عوضية .. أنا امك .. امك يا حبيبتي...

شعرت عوضية بدوار ولكنها تماسكت وهي تقول وعيناها مغمضتان:

- ولكن أمي ماتت ..ماتت منذ سنوات .. ماتت حتى قبل ان انجب طفلتي الأولى...

مدت الغريبة يدها ومسحت رأس عوضية وهي تقول بحنان:

- هل استمعت لنصيحتي يا حبيبتي ... هل انجبت الكثير من الأطفال كما قلت لك... هل تتذكرين ذلك الزمان الجميل... حينما بكيت يوم زفافك ... هل تتذكرين حينما دخلت اليك في غرفتك ووجدتك مجهشة بالبكاء وجسدك مرتم على الأرض... الا تتذكرين ذلك يا حبيبتي.. حينما اغلقت الباب حتى لا يدخل علينا أحد ..وأخبرتك بأن براءتك وطهرك هما ما يجعلانك تخافين من العيش مع رجل غريب ... وأنك ستعتادين عليه... بل ربما حتى لن تستطيعي الابتعاد عنه ... وأن الاطفال سيمنحونك فرصة حياة أخرى ... عالم آخر ..


قفزت دموع عوضية وهي تشعر بدفء راحة الغريبة ؛ التي استطردت:

- نزار شاب رائع... ملتزم... ومسؤول...وهذا يكفيه رغم فقره... صحيح انني لم اكن احب والدته في ذلك الوقت ..وانتي بالتأكيد تعرفين مشاعر الحموات هذه .. لكنني كنت احترمه بشدة... كنت قد ائتمنته عليك... وكان خياري صحيحا... والدك الطيب كان يقول لي - وانت شاهدة على ذلك- إن آرائي كلها خاطئة وانه يعمل بعكسها دائما لأنه لا يقتنع بحديث النساء... لكنه كان كاذبا... ففي النهاية كان يكتشف صواب ما اقوله فيعمل به... لم يزرني أبدا وانا خلف البرزخ .. حينها ادركت انه لا يزال حيا... وانا سعيدة بذلك...

ازداد دوار رأس عوضية وهي تبكي بصمت مغمضة العينين ؛ وكانت الغريبة تقول:

- كنت طفلة رائعة..رقيقة وحساسة... كنت بريئة جدا .. وهذا ما جعلني اتوقع بكاءك يوم عرسك... لم تكوني كالفتيات في مثل سنك.... كنت خجولة جدا...وحينما اعترضك ذلك الفتى وانت عائدة من المدرسة امتنعت عن الذهاب مرة اخرى... حاول ابوك اقناعك بأنه سيبحث عن الشاب ويؤنبه ولكنك اصررت على رفض المدرسة... لا اعرف هل كان ذلك فعلا بسبب معاكسة ذلك الشاب ام كان لديك اسباب أخرى.. لكننا في النهاية -أنا وابوك- رضخنا لرغبتك... لن تكوني طبيبة كما حلمنا دائما ولا معلمة وانما ربة منزل... وهذا لا يقل اهمية عن غيره... آه يا حبيبتي ... اعرف انك متفاجئة الآن من عودتي الى عالمكم القديم عالم الفساد... الفساد الذي لابد وحتما ان يصيب كل شيء الاحياء والجمادات والنباتات وحتى الضمائر والقلوب والعواطف...لكنني اشتقت اليك شوقا شديدا... لا احد هناك خلف البرزخ يرغب في العودة الى هنا بعد ان يشعر بالمطلق الا انا.. انا الوحيدة التي قررت مخالفة كل كائنات ما وراء البرزخ لكي انظر الى عينيك الجميلتين .. لكي ارى البراءة فيهما .. لكي انسى فيهما نفسي ... لا تبك يا حبيبتي الصغيرة... لا زلت اراك طفلة رغم ارتسام تجاعيد صغيرة تحت جفنيك المتهدلتين... هل تتذكرين حينما افزعتك الدماء التي انسالت من جسدك .. تلك الصرخة الفزعة والعيون الجزعة.. لقد بكيت بكاءا مريرا رغم محاولتي لتهدئتك...هل تتذكرين حين سقطت من دراجتك الصغيرة وبكيت ايضا .. كلما اراك تبكين كنت اخاف عليك واحبك أكثر... فمنذ ان خرجت من بطني وانت جزء من روحي ... دونا عن شقيقاتك كلهن كنت انت محبوبتي .. لم اعرف السبب .. وحتى عندما توفرت لي فرصة معرفة السبب خلف البرزخ امتنعت عن السؤال... لأن ذلك الشعور كان محبب الى نفسي... اسعد به ولا احتاج لمعرفة اي سبب لهذه السعادة.... عدت اليك وسأبقى معك ... سنغادر يوما ما هذا العالم سويا يا حبيبتي ... إنني اعرف الطرقات جيدا.... خضت تجربة صعبة ، وانكشفت امام عيني الحقائق حتى علمت انه لا شيء يستحق البكاء اكثر من الحب في عالمكم هذا....

كانت انفاس عوضية تعلو وتهبط صار جسدها باردا ومتعرقا ، وبقوة تشبثت بالباب وهي تحاول فتح عينيها لترى الغريبة... كانت امها فعلا ... لكن شيئا ما كان يعطيها معنى مختلفا.. كانت هناك فجوة حاسمة بينهما .. نظرت الى الغريبة وقالت:

- ولكني ... ولكني لن استطيع...

اجهشت بالبكاء والدوار يتلاعب بثباتها الزائف... صاحت من بين دموعها:

- ارجوك غادري... فلن استطيع ...لن استطيع... انت تفهمين ما اعنيه اليس كذلك...

تراجعت الغريبة خطوتين الى الخلف وبكت بصمت ، بكت المرأتان امام بعضهما...

صرخت عوضية:

-ارجوك غادري ...

قالت الغريبة:

- الن تقولي لي يا ماما حتى؟ سأغادر يا حبيبتي ان كان بقائي يزعجك...

قالت عوضية دون ان تتوقف عن البكاء:

- انه يزعجني حقا ... انا لا احمل ذات المشاعر السابقة لك... انا لا افهم ماهي مشاعري تجاهك الآن ..لكنها ليست كما كانت في السابق..ارجوك حاولي ان تفهمي...

حنت الغريبة رأسها ثم غطت وجهها بالغطاء الابيض قبل ان تدور على عقبيها وتغادر ... تاركة عوضية وهي تجهش ببكاء مرير...

(تمت)

* اللوحة: جيزلاف بيكشنسكي - بدون عنوان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى