فخري أبو السعود - القول المكشوف في الأدبين العربي والإنجليزي

لعل الأدب الإنجليزي أشد الآداب تحفظاً في المقال والتزاماً للوقار وعزوفاً عن المجون، فبينه وبين الأدبين الفرنسي والروسي، مثلاً، بون كبير في هذا المجال. وبعكس ذلك كان الأدب العربي الذي وسع من صريح العبارة عن ماجن القول وسفسافه ما لا يسيغه العصر الحالي؛ بل لم يكن يسيغه فضلاء العصر الذي قيل فيه، وذلك راجع للظروف المحيطة بالأدبيين.

فسيماء الوقار والتسامي التي تعلو الأدب الإنجليزي راجعة إلى ثلاثة عوامل رئيسية متشابكة هي: طبيعة الإنجليزي الهادئة، والتربية الإنجليزية التي تجعل غرضها الأول كبح نزعات الناشئ الجامحة وإلزامه ضغط النفس، وثالث العوامل هو الرأي العام القوي.

والرأي العام نتيجة للعاملين الأولين، ونتيجة أيضاً للنظام السياسي الديمقراطي الذي يجعل الأمر للشعب في كل مناحي الحياة، وهذا الرأي العام محافظ حريص على تقاليد الفضيلة يشهر الحرب على من يهم بخدشها، وهو من القوة بحيث لا يجسر كاتب أو شاعر أو ناشر على تحديه وإلا كان عليه الغرم المادي والأدبي، وقد ثار بالمستهترتين المتجاسرين على الدين والتقاليد أمثال بيرون وشلي فاضطرهم إلى مغادرة البلاد ولم يشفع لهم عنده نبوغهم ولا ما نالوه في غير إنجلترا من الصيت البعيد.

أما الأدب العربي فخالطته عوامل اجتماعية وسياسية جعلت اجتثاث جريء القول وبذيئه منه متعذراً: فهو قد ورث جفوة بداوته الأولى، وسرى إليه الفساد الذي تبع الفتوح واختلاط الأعاجم والموالي، وشجعت الحكومة الفردية المطلقة سريان هُجر القول بدل أن تدرأه، فكان من الخلفاء والأمراء من حرضوا على المهاجاة بين الشعراء، وأغضوا عن مجونهم ما داموا مشغولين به عن مناوأة سلطانهم، وأجازوا من وقعوا في خصومهم بقبيح الهجاء.

فالحكومة الفردية المستبدة قد حالت دون قيام رأي عام يقف للخارجين على تقاليده بالمرصاد، أو هي لم تَدَعْ لذلك الرأي العام السلطة أَو الهيبة الكافية لأن ينضح عن تقاليده، بل كثيراً ما حَمَتْ الشعراء الماجنين من غضبه. وهكذا الحكومة القائمة على أساس فاسد يسعها - لشعورها بضعف مركزها - إلا مناصرة عوامل الفساد التي ترى مصلحة لها في بقائها، أو خَلْقُ تلك العوامل.

ولقد كان في الدولة الإسلامية عامل جليل الأهمية لو بقي تأثيره فاشياً لكان الأدب العربي أرقى الآداب على الإطلاق لفظاً وأعفها قصداً، وأعظمها تساميا: ألا وهو الدين الإسلامي الذي يحض على مكارم الأخلاق والذي كانت الدولة تقوم على أساس منه، ويتضح أثره في عصر الخلفاء الراشدين، وما كان من تأديب الحطيئة وردعه عن أعراض الناس.

ولكن هذا العامل السامي الجليل تُنُوِسيَ في غمار السياسة، وجرفه تيار التكالب على الملك والسلطة، فلم يَعُدْ الخليفة أو الأمير يغضب إلا أن يناله الشاعر ببذائه، فبشار بن برد الذي ضج عليةُ القوم ودهماؤهم عهداً طويلاً من فجوره وإقذاعه ظل مُعافَىَ ولم يمس بسوء حتى تمادت به جسارته إلى عرض الخليفة ذاته. أما ما دام الشاعر متقياً غضب الحاكم أو مجتلبا رضاه فلا ضير عليه أن يرمي باللؤم أنصار الرسول أو يفضل إبليس على آدم، أو يتهكم بيوم الحشر، أو يتفاخر بشرب الخمر، أو يتلهى بسب الرجال وقذف المحصنات، أو يتباهى بالتسلل إلى الخدور في غلس الظلام.

هكذا ضم الأدب العربي بجانب سامي الأغراض وشريف الأقوال وكريم الحكم والأمثال سقطاً من القول قوامه الإباحية والاستهتار، وقام من الأدباء من صدموا الناس في عقيدتهم وتقاليدهم ونالوا من أعراضهم وسمعتهم، وأودعوا الأدب من خسيس الأقوال ووضيع الأغراض ما ينافي مقاصد الأدب وسمو الفن بالنفس الإنسانية. ولما لم يكن للناس عاصم من شرهم من رأي عام أو حكومة ساهرة عَمَدَ من استطاع منهم بِحَولٍ أو مكيدة إلى الذب عن نفسه بنفسه، وهكذا لقي المتنبي وابن الرومي حفيهما على أيدي مهجويهما.

وهناك عامل اجتماعي لابد أنه كان من عوامل ذيوع هُجر القول في الأدب العربي، بل في المجتمع العربي ذاته: ألا وهو انسحاب المرأة من المجتمع شيئاً فشيئاً، ففقَدَ الأدب باحتجازها وراء الحجاب عاملَ تجمُّلٍ وتَوَقُّرٍ وتعفُّفٍ في اللفظ والغرض، وصار الافحاش من الذيوع بحيث لم يتردد كاتبان فحلان يمثلان مجتمعيهما تمثيلاً كبيراً: وهما البديع والحريري، في حشد مقاماتهما بمقذع السباب؛ بل خَصَّصَا لذاك مقامات بذاتها.

وأظهر ما يكون المجون والفحش في الشعر في أبواب الهجاء والخمريات والنسيب الخليع والتشبيب بالغلمان. وقد أوغل بعض الشعراء في هذه لأبواب إيغالاً لا يكاد يصدقه العقل. ومن العجيب أن الطريقة التقليدية التي يجري عليها تاريخ الأدب العربي لا تزال تعد من فحول العربية شعراء ولم يكد يؤثر عنهم مقال في سوى هذه الأغراض الحيوانية. ومن البديهي أنه مهما تفنن الناظم وابتدع في وصف الخمر وتصوير الشهوات فلن يرفعه ذلك إلى مصاف الشعراء العظام، إذ الشعر الرفيع لا يقاس بحسن الديباجة وبراعة المعنى فحسب بل بشرف الغرض أيضاً.

فدواوين ابن أبي وبيعة وبشار وابن هانئ إن هي إلا استهتار واستسلام للشهوات وتمدح بالمخازي محكمة الديباجة بارعة النظم متنوعة الأوزان والقوافي، تتخللها حكمة شاردة أو مثل سائر ليس للناظم فيه إلا فضل التأنق في إعادة صوغه، فإذا كان هؤلاء وأشباههم من فحول الأدب والعربي فما أقصره عن بلوغ المثل الأعلى للأدب الراقي!

ومما يفترق الأدبان العربي والإنجليزي في استجازته من أبواب القول - وإن كان بمنجي من الفحش - الفخر، الذي لا يسيغه الأدب الإنجليزي بحال، على حين قد زخر الأدب العربي بما قيل فيه وعدّ باباً من أبواب الشعر التي تظهر فيها براعة الشاعر وتكمل بها منزلته. فالذوق الإنجليزي لا يسيغ أن يُزْهَى إنسان بما يتخيله في نفسه من مكارم وعظائم، بل من أول ما تطمح إليه التربية الإنجليزية - كما سبق الالماع - أن تكبح في الناشئ نزعة الزهو والعجب، وليس أَمْقَت في المجتمع الإنجليزي ممن يدل بنفسه. ولم يكن الشعر العربي في أول مره يعرف الفخر بالنفس، وإنما كان فيه فخر بالقبيلة والعصبية ولا بأس بهذا، ثم استباح بعض الشعراء فيما استباحوا لأنفسهم التمدح بالنفس صدقاً وادعاء، وغلوا في مدح أنفسهم غلوهم في مدح أصحاب النوال، بل أغربوا في المفارقة فجمعوا بين المدحين في القصيدة الواحدة، ونسبوا لأنفسهم الحكمة والشجاعة والمجد وشرف المحتد، وأجلسوا أنفسهم بجانب الشموس والبدور، وأوسعوا الدهر والحظ والناس ذماً بقدر ما أوسعوا أنفسهم مدحاً، وتلك جميعاً لعمر الحق بضائع النوكي!

فحرية القول - أو قل إباحته - فاشية في الأدب العربي القديم، بينما التحفظ ميزة الأدب الإنجليزي، وربما تغالي الرأي العام الإنجليزي في تحفظه وتشبثه بما يليق وحَجْرهِ على ما لا يليق الخوض فيه من حديث، فناهض مفكرين كان الخير الإنساني أو النفع العلمي كل مقصدهم، كما كان موقفه من أوائل الداعين إلى ضبط النسل مثلاً، إلا أنه لا يلبث أن يخفف من غلوائه حين يتبين له شرف المقصد وفائدة الدعوة.

ولئن حمدت الحرية الفكرية الواسعة التي تمتع بها الفلاسفة والعلماء في الدول الإسلامية فما كذلك الحرية التي استباحها المجان من الأدباء، فالأولى حرية تساعد تقدم الفكر وترقي العلم، والثانية تؤدي إلى انحطاط الخلق وتضرب في دعائم المجتمع؛ الأولى حرية فكرية نافعة، والثانية إباحية خلقية ضارة. والأدب يرسم للأمة مثلاً عليا تتوخاها، فإذا تمادى في تصوير دنيء النوازع فإنه يهبط بالنفوس إلى مستوى منحط لا تريد عنه ارتفاعاً.

وللأدب المكشوف في العصر الحديث دعاته الذين يحضون على اطراح النفاق الذي تفرضه التقاليد وتصوير الطباع على حقائقها، على أن هناك فرقاً بين المذهب الحديث وبين ما كان فاشيا في الأدب العربي القديم: فأنصار هذا المذهب ذوو مبدأ هم مقتنعون برجاحته يرون أن الأدب يؤدي مهمته ويرقي الأخلاق الإنسانية بوصف دخائلها ومظاهرها دون تمويه، أما الآخرون فلم يكن لهم مبدأ ولا غاية سوى إرضاء الشهوات والنزوات وعلى الخلق الكريم العفاء.

وهيهات أن يخلو المجتمع الإنجليزي أو غيره من آثار المفاسد التي أفصح الأدباء المتقدمون في التعبير عنها، ولكن ما لا يقبله ذلك المجتمع هو المجاهرة بذلك والمفاخرة والتجاسر على تقاليد المجتمع التي ارتضاها لنفسه وقامت عليها أسسه، وإيغال ذلك في عالم الأدب الذي تحويه بطون الكتب وترويه الأجيال ويُقصد منه إلى السمو بالإنسانية.

فخري أبو السعود

مجلة الرسالة - العدد 167
بتاريخ: 14 - 09 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى