محمد مندور - الأدب الإغريقي في عصر الإسكندرية -2-

خلصنا من المقال السابق إلى أن الأدب الإغريقي في عصر الإسكندرية كان كنبات في بيوت من زجاج، فهو بمعزل عن الفضاء الطلق حيث تهب نسمات الحياة منبعثة عن الشعب. ومع ذلك فالنبات - كما قلنا - لم يذو كله وإن شحبت نضرته وقل ماؤه

ولما كانت ملابسات الحياة لم تدفع إلى فن أدبي بذاته، ولا غلبت فناً على فن. فقد كتب أدباء ذلك العصر في كافة الفنون. ولكنني لا أستطيع أن أقف مع القارئ عند كل منها، ولقد سئمت القبح حتى أعود استخرجه من بطون الكتب. وأي خير في أن أطلعك على شعر أو نثر ترى فيه مدح الملوك قد حل محل الوطنية، والتملق محل حرارة القلب، والخرافة محل الإيمان، والتعلق بالخوارق محل تبجيل الآلهة، ثم التفيقه والتبجح بالمعرفة المحصلة المكتسبة محل استطلاع المجهول والحرص على الفهم الصحيح. وإنما أقف بك حيث يعود هذا الأدب فيتصل بالحياة وإذا بالجمال يشرق في نواحيه. أقف عند نفس تفتحت للحب فتذوقت حياة الريف وأنشدت مع الرعاة أناشيدهم. أقف عند نفس تحن إلى الماضي فتستنشق شذاه أو تمعن في الحاضر فترصد أحداثه وقد نطقت بأسرارها

شعر المقطوعات

ولنبدأ بشعر المقطوعات وهي قطع شعرية صغيرة لا تكاد تعدو العشرين بيتاً، ولكنها كثيرة العدد حتى لتملأ أكثر من مجلد في المجموعة المعروفة (بالمختارات وهي لأكثر من أربعين شاعراً من شعراء ذلك العصر، وإن يكن معظمهم من ضعاف الشعراء. ومع ذلك فمن بينهم من تطرب النفس لشعره طرباً حقيقياً. خذ مثلاً الشاعر ألكبيادس الساموسي تجد له ما يقرب من ثمان عشرة مقطوعة شديدة الشبه بشعر أليسه وسافو:

(اشرب يا ألكبيادس. لِمَ هذه الدموع؟ أية محنة قد أصابتك؟! لست الوحيد الذي اتخذت منه كبريس إلهة الحب) فريسة. لست الوحيد الذي أردته سهام إيروس القاسي. لِمَ تدفن نفسك في التراب؟! لنشرب نبيذ ياكوس ضافياً. هاهو الفجر ينبثق. إذا كان المصباح قد انطف أتريد أن تنتظر حتى يستيقظ؟ لنشرب في مرح. أيام أخرى قلائل - أيها المسكين - ثم يطويك الظلام الرحب تستريح بين أحضانه)

أو ما تحس في شعره بجمال الأسرار. جمال الاعترافات. نجوى نفس أليفة. شاعر مرهف

وخير من ألكيبيادس فيما أظن ليونيداس الترنتي من شعراء القرن الثالث ق. م. ولد فقيراً وعاش مشرداً، فتوثقت معرفته بالحياة. كتب لوحات للمقابر والنذور ومحفورات للتماثيل وصوراً للشعراء والفنانين وقطعاً فلسفية وأخلاقية، كتب الكثير منها لصغار الناس: صيادين وعزّالات يحملون القربان إلى الآلهة أو يموتون لشدة الكد في الحياة، ومن ثم واقعية شعره وألفاظه الملونة بالمهن المختلفة، ألفاظ دقيقة تشف عن عاطفة حيِيَّة. لقد عبر في سحر عن جمال الحياة الفقيرة الجاهدة كما عبر عن روعة الربيع وصفاء الينابيع استوحى مثلاً الشاعر القديم سيمونيدس فوصف حقارة الحياة. وصف تلك النقطة، الهروب بين أبديتين: أبدية الماضي وأبدية المستقبل

(لقد انقضى أيها الرجل زمن سحيق قبل أن تأتي إلى الحياة وسينقضي زمن سحيق بعد نزولك إلى هاديس (العالم الآخر). ما هي برهة حياتك؟ نقطة أو أقل من ذلك، وهذه الحياة شاقة، فاللحظة الراهنة ذاتها لا سرور فيها، بل إنها لأشد إيلاماً من الموت البغيض. اهرب إذن من الحياة، اهرب إلى المرفأ)

ولربما كان أقوى الجميع ملياجر الذي جمع مختاراته المسماة (بالتاج) فكانت نواة للمختارات الإغريقية التي بين أيدينا. ولنستمع إليه يرثي هليودورا حبيبته:

(لتذهب إليك دموعي، هليودورا، هدية! لتذهب إلى هاديس كأثر مقدس لحبي! دموع قاسية الإراقة. هأنا أسكب فوق قبرك الذي طالما بكيته، أسكب الأسى ذكرى لغرامي. أنا ملياجر، أئن من أجلك أيتها العزيزة الراحلة، أئن في ألم، ألم مبرح. قربانا للأكيرون لا خيرَ فيه. وا أسفاه! أين غصني الأخضر الذي طالما أحببته! لقد سلبني إياه هاديس، وهذه الزهرة المتفتحة قد غبرها التراب، آه إنني أضرع إليك جاثياً، أضرع إليك أيتها الأرض الكريمة الثمار أن تتقبلي في رفق من الطفلة المبكية، تقبليها في رفق أيتها الأم وضميها إلى صدرك، بين أحضانك)

أغاني الرعاة وهنا أيضاً دعنا نكتفي بتيوقريطس؛ فهو أكبر شعراء الرعاة، بل أكبر شعراء عصر الإسكندرية، ولعله من كبار شعراء الإنسانية، ولنوجز ما نريد معرفته عنه لنستطيع بعد ذلك أن ننصت إلى شيء من شعره وفيه ما يبعث النضرة في القلوب

ولد تيوقريطس في سيراكوسة بصقلية في السنوات الأخيرة من القرن الرابع ق. م. وأمضى جزءاً من حياته بجزيرة كوس حيث تعرف إلى الشاعر فيليتاس ومدرسته كما تعرف بألكبيادس الساموسي السابق الذكر وبأراتوس، وعاش جزءاً آخر في إغريقية الكبيرة (= جنوب إيطاليا). أرسل قبيل سنة 270 ق. م. إلى هيرون مستبد سيراقوسة قصيدة مدح ليمنحه رعايته ولكنه لم ينجح فانصرف بمديحه إلى بطليموس فيلادف وعاش في الإسكندرية بعض الزمن. وأما تاريخ موته فلا نعرفه على وجه التحقيق

لدينا من شعره عدد من المقطوعات الصغيرة ثم ثلاثون قصيدة تسمى (إيدليا) وهذه اللفظة تصغير للفظة إبدوس الإغريقية، وإبدوس معناها قصيدة غنائية إطلاماً واذن فالإيديليا هي القصائد أو اللوحات الصغيرة. ولكنه لما كانت قصائد الرعاة تغلب في المجموعة؛ فقد غلب هذا المعنى على اللفظ في العصور الحديثة

ولكن شعر تيوقريطس في الحقيقة ليس كله من أغاني الرعاة؛ فمن بين الثلاثين قصيدة تسقط خمساً منتحلة واثنتين كشوك فيهما، وننظر في الباقي فنجد من بينها أغاني الغرام وفصول المحاكاة التي تشبه أشعار هيرونداس. ومنها الريفيات التي تجمع بين الغناء والمحاكاة، ومنها القطع القصصية، ومنها الأناشيد، وأخيراً منها المدائح

كل ذلك إلى جوار أغاني الرعاة

لقد تملك تيوقريطس القدرة على الإحساس؛ ثم القدرة على خلق شخصيات حية في أسلوب شخصي. لقد استمر الرجل الطبيعي حياً فيه. استمر فلم يقتله الأديب. فهو يرى العالم: يرى صيغة وألوانه وعبيره. الكأس لا يزال يفوح فخاره، وفروة الراعي ليكيداس تشتم منها الخميرة، وروائح الخريف تطفو في أعياد التاليسيا. وعذوبة الماء والظلال، ولين المخدع من أوراق الكرم، كل هذا يدركه تيوقريطس مختلطاً بخرير الينابيع وتغريد العندليب

الفكرة المسيطرة عند تيوقريطس هي الحلم بالحياة الريفية. وهذا شعور كثيراً ما يظهر في عصور الحضارة. وموضع المشقة فيه هو أن يأتي طبيعياً. وبهذا تميز تيوقريطس عن غيره من اللاحقين.

الطبيعة عنده ليست الطبيعة القاسية التي عرفها هزيودوس، ولا الطبيعة الحزينة الحالمة، التي تغنى بها فرجيليوس، ولكنها طبيعية مشرقة يراها الشاعر دائماً في فصل الضوء بأعلى الجبال حيث ترعى القطعان. وما نظن شاعراً قد حملنا على الإحساس بأواخر الصيف وأوائل الخريف مثلما فعل تيوقريطس في وصف التاليسيا، العيد الذي أشرنا إليه فيها سبق:

(أهداني ليكيداس في ابتسامة عذبة عصاه، أعطاها رمزاً لصداقتنا باسم ربات الوحي؛ ثم اتجه إلى اليسار متابعاً طريق البسكا، وأما إقريطس وأنا وأمينتوس الجميل؛ فقد يممنا بيت فرازيداموس، حيث رقدنا فوق أسرة كثيفة من ورق الكرم النضر. وكان كثير من السرو والعبل يترنح فوق رءوسنا غير بعيد من الموجة المقدسة التي تخر من كهف النامف

وفي الأعشاب المشتبكة كانت الصراصير التي أحرقتها حرارة الشمس تغني حتى بح صوتها، والضفدعة الخضراء تصيح قصية تحت الأشواك المتداخلة. والقبرة وعصافير الجنة تغرد، واليمام يئن، والنحل الأصفر يطن حول الينابيع. من كل فج كانت تنبعث رائحة الصيف، وقد مازجها عبير الخريف، والكمثري والتفاح تتساقط وفيرة على أرجلنا وإلى جانبنا، وقد ثقلت الأغصان بالبرقوق، فتدلت حتى مست الأرض. وأزيل عن الدنان طين عتيق. يا نامف كاستاليا: يا ساكنة. البرناس! هل قدم كيرون العجوز كأساً كهذه إلى هرقل في كهف الفولوس الخصيب؟ ليتني أستطيع أن أعود فأضع المذراة في القمح، بينما تضحك هي وقد امتلأت يداها بالسنبل والحبوب)

هذه لوحة ناطقة موحية. سر جمالها في بساطتها وصدقها؛ فالشاعر يسمي الأشياء بأسمائها، وهو أرهف حساً من أن يصطنع لغة شعرية متحجرة. فالضفدعة والصرصار لم يتحولا تحت قلمه إلى كروان وعندليب، وكل من يعرف الريف يذكر صدق ما وصف. وبفضل طبيعية أسلوبه نحس بأعقاب الصيف وأوائل الخريف وقد غمرها الشعر، فإذا هي أفعل في النفس من الواقع.

وما يحبه تيوقريطس من الرعاة هو بساطتهم: شعر أشعث وحزام من جلد الشجر، وفتاة طبيعة يتغنى بجمالها. وما يعنيه ما يظن الناس بذلك الجمال

(يا ميز ببريه! غن معي الطفلة الرقيقة. فكل ما تمسينه أيتها الإلهة يصبح جميلاً. بومبيكا أيتها الفتاة الباسمة الخفيفة الدم! يدعوك الجميع سورية عجفاء قد أحرقتها الشمس، ولكني أنا، أنا وحدي، أقول إنك شقراء كالعسل. البنفسج أيضاً أسود، والزنبق مجعد. ومع ذلك يُجمعان للتيجان قبل غيرهما من الزهور. الجدي يجري وراء شجرة النحل، والذئب وراء النعجة، والبجع خلف المحراث، وأنا مجنون بك. بودي لو كنت غنياً كقارون. إذن لأقمت لنا تمثالا من الذهب هدية لأفروديت: أنت بالناي ووردة وتفاحة، وأنا بثوب جديد وأحذية فخمة. بومبيكا أيتها الباسمة الخفيفة الدم! إقدامك كعقل الأصابع، وصوتك كالحلم، وأما جمالك فلا أستطيع أن أصفه)

ولقد يحمل السيكلوب بوليفيم في إحدى قصائده على التغني بجمال معشوقته جالاتيه بقوله:

(جالاتيه أيتها البيضاء، لماذا تردين من يحبك؟ أنت أنصع بياضاً من اللبن المخيض، أنت أرق وداعة من الحمل، وأشد حيوية من البقر، وأمعن لذعاً من عنقود العنب الأخضر)

هذه قصائد فيها اهتزاز من انفعال الحب، فيها نغمة صادقة كأنها من حرارة الحياة

تيوقريطس شاعر الريف. شاعر الغرام. وأما ما دون ذلك من شعره في المديح فتافه

وهو إلى جانب ذلك شاعر المحاكاة حتى ليعتبر حواره بين نساء سيراقوسة أنموذجاً لذلك النوع من الأدب الذي سنتحدث عنه في المقال الآتي

محمد مندور


مجلة الرسالة - العدد 578
بتاريخ: 31 - 07 - 1944

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى