أحمد بوزفور - رسالة من احمد بوزفور الى عبد القادر وساط

أخشى أن يعيد ولد علي فتنة الشعر جذعة. وكان الأصمعي قد أنهاها بقوله المشهور ( الشعر نكد بابه الشر فإذا دخل في باب الخير ضعف ). وإذا كان ابن مقبل الشاعر المخضرم يحن إلى الجاهلية ويبكي أيامها
( وماليَ لا أبكي الديار وأهلها = وقد زارها زوّار عك وحميرا
وجاء قطا الأجباب من كل جانب = فوقّع في أعطاننا ثم طيّرا )
فمثلما يبكي الشعراء الشباب، وقد قال يونس بن حبيب ( ما بكت العرب شيئا كبكائها الشباب.. ). ونحن نجد ذلك عند كثير من الشعراء المخضرمين.. ابن أحمر مثلا، وهو مخضرم كابن مقبل وأعور مثله، وبكى الشباب وشكا من ظلم الولاة والسعاة في الإسلام، فهل ندع شعره ونهتم بأخلاقه؟ ولم لم يدعه الأقدمون، وشعره وشعر ابن مقبل شائع في كل كتب اللغة والشعر وعلوم الآلة؟ ويعجبني في هذا المقام ما رواه عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز: ( ومن المحفوظ في ذلك حديث محمد بن مسلمة الأنصاري. جمعه وابنَ أبي حدرد الأسلمي الطريقُ، قال: فتذاكرنا الشكر والمعروف، قال فقال محمد: كنا يوما عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لحسان بن ثابت: أنشدني قصيدة من شعر الجاهلية، فإن الله وضع عنا آثامها في شعرها وروايته، فأنشده قصيدة للأعشى هجا بها علقمة بن علاثة:
( علقم ما أنت إلى عامر = الناقضِ الأوتار والواتر )
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ياحسان لا تعد تنشدني هذه القصيدة بعد مجلسك هذا. فقال: يارسول الله، تنهاني عن رجل مشرك مقيم عند قيصر؟ ( يقصد علقمة بن علاثة ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشكر الناس للناس أشكرهم لله تعالى، وإن قيصر سأل أبا سفيان بن حرب عني فتناول مني، وإنه سأل هذا عني فأحسن القول.... قال حسان: يارسول الله، من نالتك يده وجب علينا شكره ).

***

وتأملوا معي هذا البيت:
( وجاء قطا الأجباب من كل جانب = فوقّع في أعطاننا ثم طيّرا )
هذا شاعر شيخ يمعن النظر في الديار التي كان يسكن فيها قديما في أيام شبابه، والديار في الشعر العربي القديم ليست جدرانا ولا آثار بناء .. إنما هي آثار خيام. مواقد وأثافي وأرمدة وأحواض ونُئي ( جمع نؤي وهو الحفرة تحفر حول الخيمة لتقيها السيل ). الشاعر يتأمل ما كان ديارا فلا يرى فيها بشرا ولا حيوانا أليفا ولا حماما داجنا بل يرى قطا، والقطا طير وحشي، لا يألف البشر، ثم هو قطا الأجباب: جمع جُب، والجب البئر العميقة التي لا يرى المطل من قعرها إلا غيابات. والأجباب آبار الوحشة والقفر، ولا يكاد يشرب منها البشر إلا في القوافل المسافرة ، ولا يعرفها إلا الأدلاء الخبيرون بالصحراء، فهذا القطا الذي يبلغ من وحشته أن يألف الأجباب هو الذي جاء إلى هذه الديار التي صارت قفرا ليشرب مما بقي من المطر في ما كان أعطاناً ( مبارك الإبل حول البئر تبرك فيها بعد أن تشرب ). الشاعر ينسج بخيوط مختلفة إحساس الوحشة والعزلة والحنين... إلى أيام الجاهلية؟ ربما. إلى أيام الصبا والشباب؟ ربما.. ولكنه شعر مؤثر على كل حال. وذلك هو المهم.

***

وفي هذه القصيدة نفسها التي يبكي فيها الماضي ( وكأنما تكهن بما قد ينقده به الناقدون من بعد ) يقول منبها الناس إلى شعره:
( إذا متُّ عن ذكر القوافي فلن ترى = لها تاليا بعدي أطَبَّ وأشعرا
وأكثر بيتا ماردا ضُربت له = حُزونُ جبال الشعر حتى تيسّرا
أغرَّ غريبا يمسح الناس وجهه = كما تمسح الأيدي الجوادَ المُشَهّرا )
وقد صدق. فهاهو بيته المشهور:
( ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر = تنبو الحوادثُ عنه وهو ملمومُ )
يصهل في الشعر العربي الحديث كالجواد المشهر.. وأول من مسح وجهه في العصر الحديث حسب علمي هو أدونيس الذي أورد هذا البيت في مختاراته ( ديوان الشعر العربي ) منذ طبعته الأولى.. ثم جاءت ( ليتني حجر ..) لدرويش فرسّبته في ذواكر الشعراء. وقد كان ابن مقبل يهجو الأخطل وبينهما مشاحنات.. فلما سأل عبد الملك بن مروان الأخطل: أي الناس أشعر؟ قال: العبد العجلاني ( يقصد ابن مقبل ). قال عبد الملك: بم ذاك؟ قال الأخطل: وجدتُه قائما في بطحاء الشعر، والشعراء على الحرفين. وكأنما يشير الأخطل إلى سليقة في شعر ابن مقبل لا يقربها التكلف والتعمل، ولا يرشح على بشرتها عرق الشاعر المُكدي.

***

وفي قصيدة البيت المارد: الفتى الحجر .. يقول ابن مقبل في مطلعها:
( أناظر الوصل أم غادٍ فمصرومُ = أم كل دَينك من دهماء مغرومُ
أم ما تَذكّرُ من دهماء إذ طلعت = نَجدَيْ مريع وقد شاب المقاديمُ
هل عاشق نال من دهماء حاجته = في الجاهلية قبل الدِّين محروم
.... إلى أن يقول بعد البيت المارد:
لا يحرز المرءَ أنصار ٌورابيةٌ = تأبى الهوانَ إذا عُدّ الجراثيمُ
لا تمنع المرءَ أحجارُ البلاد ولا = تُبنى له في السماوات السلاليمُ )
أما بيته الذي يفتنني فهو قوله في الرائية:
( كان الشبابُ لحاجات وكن له = فقد فرغتُ إلى حاجاتيَ الأخَرِ )
وليت شعر ابن مقبل ما هي هذه الحاجاتُ الأُخَر؟


1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى