سفيان صلاح هلال - التعايش مع الأزمات والتشبث بالهوية في (الحور العين تفصص البسلة ) للدكتورة صفاء النجار.

للموضوع دور كبير في خلق إيقاع لغة النص الذي يحتويه، ربما لهذا بدت لغة مجموعة ( الحور العين تفصص البسلة) - للكاتبة د. /صفاء النجار، والصادرة طبعتها الأولى عن دار روافد 2017 –كأنها لغةغرفة عمليات للطوارئ، حيث سيطر على المجموعة الإيقاع السريع، نظرا للانتقالات المفاجئة ما بين الرؤية سريعة الملاحظة والتشخيص، والتحليل الفوري الذي يترتب عليه ابتكار الحلول أو اختراع فلسفة للتعايش مع الأزمات، والتي سيطرت على المجموعة بداية من العنوان المفارق، فالحور العين اللواتي يمثلن في الموروث الديني العام رمز الرفاهية والتنعم، ينزلن المطبخ ...
والكاتبة ترى الأزمات من تجليات الحياة الإنسانية، الأزمة تلاحق الفرد وتلاحق المجتمع وتلاحق الكيانات الخاصة، الحياة منذ وجدت وهي تسير مضغوطة بالمشكلات التي تصل لحد الأزمات، والإنسان في صراع دائم يتجه للكمال؛ لذا فالمشكلة طبيعية تماما كالنعمة؛ لهذا على البنت – بطلة قصة الأميبا- التي خلقها الله تعاني من مفارقات في تكوينها الجسمي والشكلي أن تتعايش مع نفسها وترى هذا النقص نعمة تحفظها من عبث الآخرين، وتنظر إلى خير ما فيها لا مالا يروق منها، وأما مستقبلها، هي لا تخاف عليه، فقط عليها أن تجتهد لتحقيقه مُوظِّفة ما تملك ومُعالجة ما يشذ
(وسيكون على البنت حين يتفتح نوار ثدييها أن تؤدى كل صباح تمرين ضغط الكرة للحائط ثلاثين مرة، وتمرين شد البطن عشرين مرة فقط.) ويكفي أنها دائما تظهر نعمة الخالق عليها في جمال ساقيها مقابل امتغاض الآخر من تكوين وجهها، فإذا دارت بها الأيام دورتها، واشتدت الأزمة، عليهاالتعايش مع الأزمة ببذل القليل من الجهد إذلاغرابة (في مساءاتها كانت تنسحق تحت كرشه الضخم وتنبعج تحته كقطعة عجين تتمدد أطرافها تحت ضغط أصابع فرَان لا يحب صنعته، فاستوعبت أخيرا أنه لم يكن هناك فائدة من تسابقها مع زميلتها أيتهما ترسم الشكل الصحيح للأميبا، فكما قالت المعلمة: الأميبا ليس لها شكل محدد.)
لكن الكاتبة تدرك أن الأزمات ليست كلها طبيعية، لتكفينا فلسفتها للتعايش معهاكجزء من الحياة، فماذا عن الأزمات التي تصنعها السياسة والسياسيون بقدراتهم القمعية؟ وماذا عن أزمة الهوية والأزمات الوجودية الكبرى، لا تغفل المجموعة مثل هذه الأسئلة ففي قصة في انتظار ما قد أتي، يصل القمع والسيطرة على مجريات الأمور حد قراءة ما يدور في داخل عقل المواطن، والمطلوب منه أن يكون أعمى ومنفذا لرؤية النظام فقط فماإن لمح البطل عمال النظام يدفنون رجلا لتتغذى عليه الأزهار التي يزرعونها حتى( . عرف التنظيميون ما مر بخاطر جاري، فانفتحت تحته دائرة جذبته لأسفل وطواعية تزحزحنا عن أماكننا قليلا "بان يمين" "بان لفت" وغطينا مكانه، ذهب الرجل إلى حيث يستحق وترى الجماعة أنه يحتاج، ثم حدثت خلخلة طفيفة، في سطح الأرض، وعاد الرجل في الصف بهيا وقد تم تشحيم خلايا عقله وضبط انعاسات وجهه، ومسح شريط المشتل من ذاكرته) لكن الإنسان مهمها كانت الظروف قمعية فهو يبتكر وسائله الغير مألوفة للتعايش مع الواقع المأزوم
(تدربنا طويلا على التخاطر، لم نعد نحتاج إلى الكلام، فقط حركة بعضلة الوجه تفي بالغرض، كان لدينا متسع من الوقت كي نتدرب على استخدام عضلات وجهنا. خلال الطريق،) وقد يصل مستور الخطاب إلى درجة التخاطر(، وبينما نحن الضيوف منهمكون في الأحاديث الجانبية والنادل يمر بصينيته، إذ جاءنا الأمر إلهاما، لكننني فهمته، واستجبت له رغم حداثة عهدي بالوحي واستجاب له كل من حولي،)
أما في قصة في انتظار ما قد يأتي فيبدو النص كتقرير شعري يرصد تجربة البشرية في انتظار الخلاص على يد منقذ منذ عصر الأساطير حتى عصر الديمقراطيات ، وبالرغم من هذا يبدو الخلاص مجرد حلم لا يتحقق وتظل الإنسانية(في المساء تحرق البخور وتضيئ الشموع كي لا تتوه روحه عنهم وقد جلسوا يتسامرون في انتظار من قد يأتي.)
غير أن كل المشكلات والأزمات تبدو بسيطة بجوار أزمة الهوية التي سيطرت على أبطال القصص، وبدقة بطلات القصص فمعظم الشخصيات الرئيسية في المجموعة من الإناث، وكما تتفاوت مستويات الأزمات الخاصة بالهوية فتبدو بسيطة أحيانا كما في أزمة بطلة (الأميبا) التي تكاد تشك في هويتها الأنثوية فتتعمد تبليل ملابسها وهي تغسل حتي تلتصق بجسدها وتظهر تشكيل تضاريسه التي تطمئنها أنها أنثي حتى أنها تؤكد ذلك لنفسها بالوقوف أمام المرآة مفتونة بعطايا الرب لها، وتبدو الأزمة معقدة أحيانا أخرى كما في قصة (العطية) والتي تضع البطلة في مواجهة الرؤية العامة للمجتمع، وهذه القصة من أعمق قصص المجموعة على المستويين الفني والإنساني معا تبدأ القصة من النهاية للبداية على غير المألوف، وتستعرض فقْدَ " سهاد" وزوجها لبنتهما " نجاة"، تستخدم القصة التشويق موحية لك أن الفقد كان فقدا غير طبيعي نتيجة خطيئة ارتكبتها البنت، وعاقبها عليه الوالد، ومع الرجوع بالأحداث للوراء ستجد أن البطلة "نجاة" والتي تعيش مع سهاد وزوجهاالمسلمين باعتبارها بنتهما، تظهر عليها حالة غريبة حين تزور دير العذراء، تنجذب البنت لأجواء الكنائس وتقلد السيدة العذراء في تفاصيل شكلها، تتعايش الأم مع أزمة بنتها باعتبار أن المسلمين والمسيحيين يكنون للعذراء الحب، لكن البنت التي تربت في أسرة مسلمة وبين موالد أولياء الله المسلمين تتفاقم حالتها وتعود للدير وتطلب الخدمة فيه وحين يعتذر لها المسؤولون عن الدير لأنها مسلمة تنتابها حالة من الهوس الذي يمتزج فيه العشق بالحنين لكل ما هو مسيحي حتى أنها تتخيل المسيح يمشي أمامهاعلى صفحة الماء ويهبها صليبه.. وحين تسد أمامها كل الطرق تصعد روحها كمدا في حفرة لا يراها فيها أحد ، لتورث سهاد وزوجها الحزن حتى موته كمدا(أما "حسونة" وقبل أن يلفظ أنفاسه مختنقًا بلسان مزماره، فقد جاءته، تربت على يديه وتسقيه من أصابعها حتى ارتوى الزمار للمرة الأولى فى حياته، وبموته لم تعد "أم نجاة" تخشى من ثرثرته وهذيانه عن اللفة التى وجدوها فى الفجر بجوار الدير وإصرار سهاد على الاحتفاظ بما فيها.) وجاءت هذه الخاتمة لتوحي لنا بأصل الفتاه التي لم تكن بنتهما بل كانت أصلا لقيطة مسيحية ... القصة في بنيتها كانت موفقه فهي بدأت بسرد الشكليات واتخذتها سلما للتعمق حتى الجذور التي تمثل أصول الموضوع، كما صورت بلغة تشعر القارئ بضغوط الحنين على البنت لتجرها لحقيقتهاا رغم كل العوامل الخارجية التي عاشتها والتي كان يمكن أن تقودها لجهة أخرى ، وأظن أن الكاتبة في هذه القصة ترى بما لا شك فيه أن الهوية لا يمكن انتزاعها ولو تكاتفت كل الظرف على محوها؛ لم تكن هذه القصة الوحيدة التي تعرضت لأزمات الهوية، وإن كانت أعمق القصص نظرا لتعرضها لأكثر أنواع الهوية تأثيرا في البشر وهي الهوية الروحية..
ومن الملاحظات الواضحة في المجموعة، أن ما أشرت إليه من تعايش مع الأزمات ليس استسلاما سلبيا من الأبطال، لكنه سياسة وأسلوب من أساليب الصراع لدحض هذه الأزمات،هو الكر والفر ، الحرب التي قد تصل بالبطل لغايته أحيانا، وقد يموت دون تلك الغاية أحيانا أخرى وقد يظل الأمل في النصر قائما، فالأبطال فاعلون دائما، ففي أقصى درجات القمع السياسي وغسيل الأدمغة والتي تصل لرصد النوايا ونصب الشباك التي لا فكاك منها لمن يفكرون في الخروج ، تنبت للبطلة أجنحة تدهش الجميع حينما تطير، وقد لا تستطيع الأم تحقيق حلمها في النجومية لضعف إمكانتها الطبيعية، فتتولى بنتها بالرعاية والعلم لتحقق هذا الحلم وتكمل المسيرة حتى لوكان الواقع محطما لكل الأحلام .



* العدد 20 من عالم الكناب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى