كتاب كامل جورج سلوم - القس .. والخوارج!! نص من كتاب ( الإنفصال عن الواقع)

ذلك القس يسكن في حيّنا .. وأهرب من مواجهته .. كطالبٍ كسول يرتعد من مواجهة معلّمه لأنه سيذكّره بواجباته المدرسية المتراكمة ..

ومواجهة القس أصعب من المعلّم .. فالمعلم يعاتبك مقطّباً وتكون عن نفسك مدافعاً.. أما القس فيعاتبك مبتسماً فتكون له مستسلماً..

المعلم كان يقرصني من أذني اليسرى فقط .. يصيح بي .. ثم يطرحني خارج الصف.. أما القس فينظر في عينيك .. يبتسم بعيونٍ مدوّرة .. ويتوعّدك بنار جهنم !.. يصفعك بكلماته على خدّكَ الأيسر وينتظر أن تديرَ له الأيمن أيضاً!

كان الهروب هو الحلّ بالنسبة لطالب مقصّرٍ مدرسياً.. فأصبحتُ خارجاً عن المدرسة.

ومازال التهرّب والتأجيل هو الحل بالنسبة لرجلٍ مقصّر دينياً.. وغدوت خارجاً عن الكنيسة !

من أعطاه تلك السلطة ليفرز القوم ؟.. وهل يملك رجال الدين مفاتيح الجنة والنار؟..

قلت له :

-لا تمارس مهنة التبشير معي .. أعرف أنني خاطئ وضالٌّ بين الرّعية !

-لذلك أدعوك لتكون مع خراف الرب فيستقيم حالُك.

-ياسيدي أنا أومن بالله .. وأصلّي في بيتي أحياناً .. لاوقت لدي للصلاة في الكنيسة .. وإن الله غفورٌ رحيم.

-لكنّ ربك يقول (إن اجتمع اثنان أو ثلاثة بإسمي فأنا أكون هناك بينهم ).. يومُك فيه ست وتسعون ربع ساعة ... امنح أحد تلك الأرباع لربك بالصلاة .. فتتحدث مع الله بنسبة واحد بالمائة يومياً.. أيستكثر العبد تلك النسبة على خالقه؟ .. أنا بانتظارك اليوم في قدّاس الأحد لمدة ربع ساعة فقط.

آه .. لماذا يدقون الناقوس هكذا ؟.. أهو جرس إنذار ؟.. صوته وارتدادات صداه .. يبعثان القشعريرة والخوف في أوصالي.

من أين أتيتم بالناقوس ؟.. ماكان في عهد المسيح ولا في عهد تلاميذه .. ولا تحتاج الدعوة إلى الصلاة لمكبّراتٍ للصوت ولا للسوط!

لماذا تقرأ كتباً سماوية فتقترب إلى الله روحاً .. وتختلط برجال الدين فترى نفسك خارجاً ؟.. إنهم متنفّذون ولا ينفّذون

وقفتُ بباب الكنيسة منتظراً دخولَ القوم .. فأدخل آخراً وأخرج أولاً .. هو ربع ساعة فقط .. المهم أن يراني القس وأسجّلَ حضوراً .. هل أصلي إلى الله أم إلى القس ؟.. لست أدري.

رجال الدين أشبه برجال الشرطة .. سلاحهم عيونهم.. ولسانهم كالسوط يجلدك ويتوعدك بالمزيد .. لباسهم موحّد كالبوليس الدولي .. ذقنٌ وعمامة .. وبدانة .. وعيونٌ صقرية .. وابتسامة جهنّمية .. يرددون الآيات السماوية كالقضاة ..ويستشهدون للمتهمين بالمادة كذا من قانون العقوبات .. يُمهل ولا يهمل .. نسيوا أنه قال أيضاً (طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون )!.. لا .. لا تقلبوا الحاء إلى جيم في تلك الآية

جلست في المقعد الأخير بالكنيسة .. أرى ظهور المصلين ولا يراني أحد .. سوى القس .. ابتسم لرؤيتي في معرض صلاته .. وأظن أنه أعطاني ترقية ما .. لست مع المُصلّين في شيء .. أراقب القس وأرقب ساعتي وأتحيّن الوقت المناسب للخروج خلسة.

كانت قدماي تهتزّان كنابضٍ مضغوط قسراً .. وعندما ينفلت عقاله سيرمي بي خارجاً على مبدأ ردّ الفعل .. لم يسخن المقعد الخشبي الذي جلست إليه .. لم أشعل شمعة .. لم أستنشق بخوراً.. لم تصل إليّ حرارة الإيمان.

وبلمح البصر وجدت نفسي على باب الكنيسة الخارجي .. وقفت ونظرت في ساعتي .. حضوري لم يتجاوز دقائقَ معدودة .. وضعت هاتفي الجوال على أذني كمن يتلقى مكالمة مهمّة أودت به إلى الخارج..

كانت واقفة بالباب وترتجف برداً بلباسها الخفيف .. قالت:

-يبدو أنك رجلٌ مهم وتأتيك مكالماتٌ تقطعك عن الصلاة ؟

قلت وقد تقمّصت شخصية المصلّين :

-المؤمن يزهد بالدنيا ومتاعها طمعا بالآخرة .. من يصلي يجب أن يقفل هاتفه الدنيوي .. فلا يتلقى اتصالاً إلا من ربه... ادخلي إلى الداخل اتقاءً للبرد فالصلاة مازالت قائمة.

-ماأتيت للصلاة .. جئت فقط ليراني القس ..

ضحكتُ وقلت :

-وأنا أيضاً .. سجّلتُ حضوراً وهربت .. ادخلي قليلاً واهربي .. قد تطول الصلاة وتبردين بثيابك الخفيفة هذه.

قالت.. وكأنها نادمة على أفعالها:

- لست أهلاً لدخول الكنيسة في وضعيَ الحالي ... لاحقاً سأتوب وأعود إلى ربي .. لكن ليس اليوم .. الآن أتيت من أجل القس فقط وأنتظر خروج الجميع فيراني على الباب .. وأنتهي من نظراته ... وأنت أيضاً انتظرْ حتى يخرج ويراك ويكلّمك فتسجّل حضوراً وينتهي الأمر.

-ماهذا القس ؟.. شبهته سابقاً بشرطي المرور والآن يذكّرني بناظر المدرسة ..

-بعد قليل سيأتي غيرنا وينتظرون على الباب .. نحن نصلّي خارجاً .. نحن الخطاة في دنيانا سنبقى خارجاً وكذلك في آخرتنا..

كلامها مخيف .. هذا المكان يذكرني بالآخرة و مبدأ فرز الأقوام .. فالمحظيون بالداخل والملفوظون بالخارج ... قلت :

-هلمي نتساير قليلاً ونعود مع صوت الناقوس المؤذن بانتهاء الصلاة .. فيرانا الناظر ويعطينا شهادة حسن السلوك.

سارت مبتعدة عن الكنيسة .. ومازالت ترتجف برداً.. قلت مبتسماً:

-تنقصكِ حرارة الإيمان .. ثيابكِ خفيفة وإيمانكِ ضعيف .. استري جسدكِ جيداً تستردّين عافيتك ..واقتربي من الله تربحين آخرتك.

لم تجب سوى بتكتكات أسنانها المصطكّة برداً.. وأسرعت الخطوَ علّها تولّد طاقة إيجابية في جسدها السلبي .. سايرتُها بعد أن أشعلتُ سيجارتي بصعوبة في هذا التيار البارد .. قالت:

-وأنت ..لماذا اخترت الوقوف مع الخارجين عن الصلاة ؟..

-لم أختر ذلك بمحض إرادتي .. الإنسان مؤمن بالفطرة .. يرضع الإيمان بوجود قوة عظمى مع حليب أمه .. وعندما يكبر ويصطدم بالواقع يكفر بسبب انقلاب المفاهيم .. فسارق قوت الفقير يصبح غنياً .. ويحلفون بأخلاقه .. بكرمه وكرامته .. ويسمونه من ذوي الكرامة ... ويذيعون على الملأ مقدار زكاته .. وقد يُفتي في القوم .. ويفسحون له صدور المجالس في الموالد وجلسات الذكر ومحافل الكنائس .. ويمنحه القس بركاته .. فيربح الدنيا والآخرة .. لو تساءلت عن ذلك .. لا يجيبون.. لذلك أنا خارج الكنيسة .. مشكلتي مع ذلك القس الذي يميز الخلق عن بعضهم ويمنح صكوك الغفران لمن يشاء

وسبق أن كنت خارج البيت عندما طردني أبي الغاضب دائماً.. لا يعرف معنى الأبوة إلا بالعصا والشتائم .. ولم أكتب يومها وظيفتي فصرت خارج المدرسة .. كيف أدرس وأنا أنام خارجاً؟..

لم أجد عملاً فصرخت من وجعي وأصبحت خارجاً عن القانون .. وعندما فتحت فمي أمام القاضي طلب إليهم أن يخرجوني من جلسة المحكمة..

لذلك استسلمت لكي لا أصبح خارج الحدود .. وخارج الحياة ..

أصبح شعاري الآن .. من ركبني حملته راضياً.. ومن اعتلاني انبطحت تحته .. ومن تزوج أمي قلت له يا عمّي!..

وعندما يتداعى القوم للمجالس .. أعرف مكاني مسبقاً وأقف خارجاً على الباب ..

لا أحاول الجلوس في الداخل لأنهم قطعاً سيخرجوني ويخرجونني بالقوة أو بالصوت الغليظ .. سينهرونني وشبعت نهراً وطرداً .. بقي لي القليل من ماء وجهي وأريد الاحتفاظ بالباقي

- هل أنت متزوج ؟

- لو تزوجت .. ستصيح بي مثلهم .. اذهب ونم خارجاً !.. سأصبح خارجاً أيضاً عن غرفة نومي.

تباطأتْ خطواتها .. وكأنّ اعترافاتي أشعَرَتها بالدّفء ... ابتسمَتْ واقتربَت مني قليلاً.. كاقتراب السّجناء الغرباء من بعضهم في زنزاتهم الجديدة .. يرثون لحالهم ويعترفون لبعضهم صادقين .. يشعرون بوحدة الحال ووحدة المصير .. محكومون أرضياً وتنقصهم البراءة .. وينتظرون عدالة السماء...

وقفتُ ونظرتُ في وجهها .. جميلة.. ملوّنة .. جذابة .. شعرَتْ بإعجابي بها فضحِكت بصوتٍ عالٍ .. ضحكاتها لها موسيقى خاصّة تذكّرني بضحكات الغانيات في الأفلام العربية .. أعطيتها سيجارة فلم تتمنّع .. سحبَتْ دخانها بحرفيةٍ واضحة .. قلت لها:

- لا داعي لأن أسمع منكِ اعترافاتكِ .. أظن أن لديكِ الكثير والمثير مما قد تقولينه .. ستشرحين لي أنك مؤمنة وزوجة صالحة ... جار عليها الزمان فأسقطها وأسقط في يدها ... كأي مجرم يرى جريمته نوعاً من العبادة ..هيا بنا نعود ونقف على باب الكنيسة خارجاً.. قد يُقرع الناقوس بعد ثوان .. ننتظر قليلاً ويرانا القس سوية .. أظنه سيقول .. إن الطيور على أشكالها تقع!

لم يطل انتظارنا .. كان عددنا كبيراً نحن الواقفون خارجاً... خرج القس ولحيته معه .. رأيتها أكبر من ذي قبل .. لم أنظر في وجهه .. رأيت لحيته تتحرّك فعرفت أنه سيخطب فينا .. وكأن الكلمات تخرج من بين أشعار ذقنه .. خشنة وجارحة .. أشهر سبابته كمسدس الشرطي .. وأطلق علينا كلماته .. والزبد يتطاير من أشداقه:

- أنتم معشر المصلين خارجاً .. أنتم خوارج عن الإيمان .. أنت أيضاً خارجٌ عن القانون .. وأنتِ خارجة عن الأخلاق .. وذاك خارجٌ عن المألوف .. وتلك خارجة عن الأعراف والتقاليد .. وذلك خارج عن النص .. وتلك خارجة عن طوع زوجها .. أعوذ بالله منكم.. كلكم خوارج ... المصلون داخلاً سيكونون صواعد إلى الجنة .. وأنتم ستكونون نوازل إلى جهنم.

سحبتها من يدها .. وقلت مبتسماً:

- هلمّي بنا .. أصبح القس أيضاً من الخوارج ... إذ خرج الآن عن طوره !


د. جورج سلوم

************************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى