إدوارد وليم لين - المصريون المحدثون.. شمائلهم وعاداتهم - ترجمة : عدلي طاهر نور -1-

مقدمة المؤلف - القاهرة سنة 1835

في زيارة سابقة للقاهرة قصدت بها - على الأخص - دراسة اللغة العربية في أشهر مدرسة، جعلت اكثر همي ملاحظة شمائل المصريين المسلمين وعاداتهم؛ وسرعان ما أدركت بعد معاشرة هذا الشعب سنتين ونصف سنة أن كل ما أمكنني الحصول عليه سابقا من الأخبار المتعلقة بهم، لا يكفي ليكون ذا فائدة كبيرة لمن يدرس الأدب العربي، أو ليقضي حاجة القارئ العادي. لذلك رغبت في تدوين الملاحظات عن أشهر عاداتهم لاستزيد لنفسي من جهة، ولأستطيع أن أزيد في معرفة مواطني بالطبقات المتحضرة لامة من أهم أمم العالم من جهة أخرى، وذلك برسم صورة مفصلة عن سكان أكبر مدينة عربية. إلا أن زيارتي الأولى لم تكف لبلوغ هذا الغرض مع متابعة دروسي الأخرى، فصرفت النية عن نشر ما قيدته عن المصريين المحدثين. وبعد خمس سنوات من عودتي إلى إنجلترا عُرِضت هذه المذكرات على بعض أعضاء من لجنة جمعية نشر المعارف المفيدة استحسنوها وأوعزوا إلى اللجنة أن تعني بموضوعاتها، وطرافة بعض محتوياتها، فعهدت إلى تكملتها ثم طبعها. وقد كان ذلك حافزاً لي على قبول النصيحة ومتابعة العمل. وفي أقرب فرصة عدت ثانية إلى مصر. وبعد أن أقمت أكثر من سنة في عاصمة ذلك البلد، ورحلت نصف سنة في الوجه القبلي، أتممت - بقدر ما استطعت - العمل الذي تعهدت به

قد يقال إن القارئ الإنجليزي استفاد من كتاب الدكتور رَسِل عن أهل حلب وصفاً صادقاً لشمائل العرب وعاداتهم؛ ولا أحب أن أصم أمانتي الكتابية التي أدعيها بمحاولة التقليل من المزايا الحقيقية لهذا الكتاب القيم؛ ولكن يجب أن أؤكد أن الكتاب في مجموعه قد وصف العادات التركية أكثر مما وصف العادات العربية، وأن المؤلف الأصلي وأخاه الذي ندين له بالطبعة المزيدة المنقحة، لم يكونا يعرفان اللغة العربية معرفة كافية لإنعام النظر في بعض ما يقتضي وضع الكتاب معالجته من الموضوعات المهمة، ولم يكن منصبهما المعروف في حلب ولا شعورهما الوطني يسمحان لهما أن يتنكرا هذا التنكر الضروري الذي يمكنهما من إيلاف الكثير المهم من الحفلات الدينية، والأفكار الاجتماعية، والأساطير الشعبية، التي قاما بوصفها. فنقص الملاحظة هو الخطأ الوحيد الذي استطعت أن أكشف عنه في كتابهما العلمي الجليل

أما ظروفي فكانت غير ذلك. فقبل قدومي الأول إلى هذا البلد شدوت شيئاً من العلم بلغة العرب وآدابهم. وكنت أستطيع - بعد سنة من قدومي - أن أتحدث إلى الشعب الذي كنت أعيش بين أفراده في شيء من السهولة. وقد عايشت صفة خاصة مسلمين من جميع الطبقات؛ وأخذت أخذهم في الحياة العامة. وكنت أصرح دائماً أنني أوافقهم على آرائهم كلما سمح بذلك ضميري اكتساباً صداقتهم وإخلاصهم؛ وفي أحوال كثيرة أخرى أمسكت عن مخالفتهم في الرأي، بقدر ما امتنعت عن أي عمل ينفرون منه. فأمسكت عما يحرمه دينهم من الطعام والشراب، وتركت ما لا يألفونه من العادات والأساليب: كاستعمال الشوك والسكاكين. واستطعت بفضل ألفتي لحفلاتهم الدينية العامة أن أشاهد أعيادهم وطقوسهم، من غير أن أثير الشك في أنني أجنبي لا يحق له التدخل في شؤونهم. وبينما كان العامة يظنونني تركياً - من ملابسي التي وجدتها أكثر ملاءمة لي - كان أصدقائي يعرفون طبعاً أنني إنجليزي. ولكني ألزمتهم أن يعاملوني معاملة المسلم باعترافي مختاراً بأثر العناية الإلهية في ظهور الإسلام وانتشاره، وبإقراري، عندما أسأل، باعتقادي في المسيح طبقاً لما جاء في القرآن من أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه. وهكذا حسُن رأيهم فيَّ وقويت ثقتهم بي، ولكن إلى حد لم يغنني على مجابهة بعض الصعاب. والمسلمون يكرهون أن يبوحوا بشيء يتعلق بدينهم أو بأساطيرهم للذين يشتبهون في أنهم يخالفونهم في العاطفة؛ لكنهم لا يأبون الكلام في هذه الموضوعات مع من يعتقدون أن بينه وبينهم معرفة وألفة. لذلك كنت اعمد إلى سؤال الذين هم اكثر تساهلا واقل علما لأحمل الذين هم أوسع معرفة وأضيق صدرا على الكلام في المسائل التي أريدها. وبهذه الطريقة نجحت في التغلب على ترددهم. وكان لي أستاذان للعربية وآدابها، وللدين الإسلامي وفقهه، يدرسان لي بانتظام وباجر. وكنت أسالهما عما اشك فيه لأحقق ما سمعته في أحاديثي مع أصدقائي، أو أصححه أو أضيف أليه. وأحيانا كنت اتصل بالسلطات العليا، وكان من دواعي غبطتي أن اعد بين أصدقائي في هذه المدينة بعض رجال بلغوا شأواً بعيداً في المعارف الشرقية

وربما يفيد القارئ أن اعرفه بأحد معلمي اللذين أشرت أليهما أنفا، وان أبين له في الوقت نفسه كيف كان كغيره من مواطنيه ينظر ألي: ذلك هو الشيخ احمد (أو السيد احمد، لأنه من طبقة (الأشراف) الكثيرة العدد: أي من سلالة النبي) وكانت سنه تربى على الأربعين باعترافه، ولكن يبدو عليه أنه يناهز الخمسين. وكانت سحنته وخليقته تستحقان الذكر: كان ربعة إلى القصر، وكان أصهب اللحية قد وشعها لمشيب. ويظهر أن العور قد أصابه منذ سنوات عديدة. وهو يكحل عينيه في المناسبات الخاصة ولا سيما في عيدي الفطر والأضحى. والكحل قلما يستعمله غير النساء. وهو لا يفتخر بانتمائه إلى الرسول فحسب، بل يتمدح كذلك بانتسابه إلى الولي المشهور الشعراوي. وبشرته الصافية تؤيد ادعاءه أن أجداده عاشوا منذ أجيال في مناطق أفريقيا الشمالية الغربية. وكان يعيش على ميراث قليل مع اتجاره في الكتب. وكان يزورني كل ليلة تقريباً لينتفع من مهنته من ناحية، وليجتمع بي، أو ليتحدث ألي للتدخين وشرب القهوة من ناحية أخرى

وكان قبل احترافه تجارة الكتب وراثةً عن أبيه، قد قضى بضع سنوات لم يحترف فيها غير الذكر في الحفلات الصوفية. والذكر عبارة عن جماعة يقفون مترنحين يرددون اسم الله وصفاته الخ. وهو لا يزال إلى اليوم يقوم بهذا العمل. وكان حينئذ درويشاً في الطريقة السعدية، وأهل هذه الطريقة معروفون على الأخص بأكل الثعابين الحية. ويقال انه كان واحداً من آكلي الثعابين، ولكنه لم يقصر نفسه على أكل يهضم بمثل هذه السهولة. ففي ذات ليلة بينما كان فريق من أهل طريقته في حفل حضره شيخهم، اعترت صديقي جذبة، فخطف زجاجة طويلة كانت تحيط بقنديل موضوع على الأرض واكل جزءاً كبيرا منها. . . فدهش الشيخ والدراويش الآخرون، نعوا عليه خروجه على نظم الطريقة، لان أكل الزجاج لم يكن من الكرامات التي كان يسمح لهم بأظهرها. ثم طردوه في الحال، فدخل في الطريقة الأحمدية. ولما كان أهل هذه الطريقة هم أيضاً لا يأكلون الزجاج، فقد عزم على ألا يعود إلى فعلته مرة أخرى. . . غير انه بعد ذلك بقليل أخذته هذه الجذبة في اجتماع بعض الأخوان من أهل الطريقة وفي حضرة كثير من رجال الطريقة السعدية، فوثب على شمعدان وقبض على مصباح من مصابيحه الزجاجية الصغيرة، فابتلع نصفه وشرب ما فيه من الزيت والماء. فقادوه إلى شيخه ليعزره على هذا التعدي، ولكنه اقسم ألا يعود إلى أكل الزجاج أبداً، فعفا عنه وأبقاه في الطريقة. وعلى الرغم من حلفه اليمين لم يلبث أن عاد إلى ديدنه من أكل الزجاج. وقد حاول أحد الحاضرين من الأخوان أن يقلده فنشبت قطعة كبيرة من الزجاج بين لسانه وسقف حلقه، وقد شق على صديقي أحمد استخراجها. فأعيد ثانية إلى شيخه، ولما لامه على الحنث بقسمه والرجوع في توبته أجاب بهدوء: أتوب مرة أخرى. وما أحسن التوبة، لان الله قال في كتابه العزيز: (إن الله يحب التوابين) فصاح الشيخ مغتاظاً: أتجرؤ على هذا التصرف ثم تستشهد بالقرآن أمامي؟) ثم أمر بعد هذا التوبيخ أن يسجن عشرة أيام. ثم طلب منه القسم مرة أخرى على أن يمتنع عن أكل الزجاج وبهذا سمح له بالبقاء في الطريقة الاحمدية؛ وقد حرص على أن يبر بقسمه هذه المرة

وقد قص على هذه الوقائع من كان مكلفا بمراقبته من الأخوان ثم اعترف لي هو بعد ذلك بحقيقتها

وقد عرفت الشيخ أحمد قانعاً بزوجة واحدة من زمن طويل؛ إلا أنه سمح لنفسه الآن بزوجة أخرى استمرت تعيش في منزل أهلها. ومع ذلك فقد أهتم بأن يؤكد لي أنه ليس من الغنى بحيث يرفض الكسوة السنوية التي أهديها إليه. وفي زيارتي الثانية لمنزله أثناء إقامتي الحالية في هذا المكان حضرت أمه لدى باب الغرفة التي كنت جالساً فيها معه، تشكو إليّ سوء عمله باتخاذه زوجة جديدة. وكانت تشير بيديها من خلال الباب بالحركة اللائقة ليكون لكلامها تأثير؛ أو لعلها كانت تريد أن تظهر جمال راحة اليد وأطراف البنان المخضوبة بالحناء الرطبة. إلا أنها كانت تستر شخصها، فأخذت تناشد شعوري بقوة وتقول:

(يا أفندي! إني أضع نفسي تحت رحمتك! أقبل قدميك! لا أمل عندي إلا في الله وفيك)

فقلت لها: (ما هذا الكلام يا سيدتي؟ أي مصيبة أصابتك؟ وماذا أستطيع أن أصنع لك؟ أخبريني)

فاستمرت تقول: ابني هذا، ابني احمد، شخص لا قيمة له. له زوجة طيبة، عاش معها سعيداً على بركة الله ستة عشر عاماً. وهاهو الآن يهملها ويهملني ويتخذ زوجة أخرى صغيرة السن قليلة الحياء. . . وهو يبدد نقوده على هذه القردة وعلى غيرها من أمثالها، وينفق على أبيها وأمها وأعمامها وأخيها وأولاد أخيها، ولا اعلم من عداهم، ثم يقصر في حقنا - أنا وزوجته الأولى - ولا يوفر لنا الراحة التي تعودناها من قبل. . . والنبي! ورأسك الغالي! إنني أقول الحق. . اقبل قدميك أرجوك أن تلح في تطليق زوجته الجديدة. . .

وكان الرجل المسكين أثناء مخاطبة أمه لي من وراء الباب ينظر بغباء، وما كادت تذهب حتى وعد بتحقيق رغباتها. . . ثم قال: على أن المسالة صعبة، فقد كنت متعوداً أن أنام أحياناً في منزل شقيق البنت التي تزوجتها أخيراً، وهو يشتغل كاتباً عند عباس باشا. . . ومنذ اكثر من سنة، أرسل عباس باشا في طلبي وقال: سمعت انك تنام غالبا في منزل كاتبي محمد. . . لماذا تفعل هذا؟ إلا تعلم أن هذا غير لائق وفي المنزل نساء؟. . .

فقلت: سأتزوج من أخته. . .

فسألني الباشا: إذاً لماذا لم تتزوجها من قبل؟

- لان سنها تسع سنوات فقط!

- هل عقد العقد؟

- لا. . .

- ولم لا؟

- ليس في قدرتي الآن دفع المهر

- وما مقدار المهر؟

- تسعون قرشاً. فقال الباشا

- هاك إذاً النقود. . . وليعقد العقد حالاً

فهكذا تراني إنني اضطررت إلى التزوج من البنت، وأخشى أن يغضب الباشا إذا طلقتها؛ ولكني سأتصرف تصرفاً يجعل أخاها يشدد في طلب الطلاق، ويومئذ أعود ثانية إلى عيش السلام والهدوء. وهذا مثل طيب للراحة التي ينعم بها من يتزوج اثنتين!

ومنذ وقت قريب عرض علي نسخة من القران لأشتريها، وظن من الضروري أن يلقي ألي بعض المعاذير. وقد لاحظ إنني من طول ما الفت طقوس المسلمين اقر ضمناً إنني واحد منهم، وان من الواجب عليه أن يعتبرني احسن اعتبار، وانه يفعل ذلك مطمئن النفس، ولأنه يعلم أن اعتقادي علانية بالإسلام يغضب علي مليكي، وانه لأجل ذلك لا يمكنني أن افعل هنا وقال لي: (انك تحييني بقولك: السلام عليك. لذلك أكون أثماً لو قلت انك كافر، لان الله عز اسمه قال: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً). ثم أضاف إلى ذلك قوله: (وعلى هذا ليس حراماً أن أضع بين يديك القران الكريم. ولكن من مواطنيك من يأخذه بيده القذرة، بل ويجلس عليه وأنا استغفر الله من مثل هذا الكلام واستبعد أن نفعل هذا وأنت والحمد لله تعرف انه: (لا يمسه ألا المطهرون) وتراعيه. وفي مرة أخرى باع نسخة من القران بناء على طلبي لمواطن لي؛ وفي أثناء انعقاد الصفقة دخل الغرفة إنسان، فانزعج مواطني وأسرع فوضع الكتاب على المقعد وخبأه بجزء من ملابسه، فاخجل هذا العمل الكتبي، وظن أن صديقي جلس على الكتاب، وانه يفعل هذا احتقارا له؛ فلم يخف باعتقاده أن الله سيعاقبه اشد عقاب على هذا البيع الحرام؛ وكان هناك شيء واحد صعب علي أن أقنعه بعمله أثناء زيارتي السابقة لهذا البلد؛ وهو أن يذهب معي في وقت خاص إلى مسجد الحسين - وهو المدفن المشهور لراس الحسين - واقدس المساجد في العاصمة المصرية. وبعد ظهر يوم من أيام رمضان كنت امشي وإياه أمام أحد أبواب هذا الجامع، وكان ساعتئذ يغص بالأتراك وكثير من سكان المدينة العظماء بين الحشد. . فظننت أنها مناسبة طيبة لأشاهده من كثب، وطلبت من رفيقي الدخول معي فرفض بحزم خوفاً من أن يعرف إنني إنجليزي، وكان من الممكن أن يثير ذلك غضب المتعصبين من الأتراك الموجودين هناك فاعرض نفسي إلى بعض الأذى. فدخلت وحدي وبقى هو بالباب يتبعني بعينه الوحيدة متعجباً من جراتي؛ فلما راني عارفاً بالأساليب العادية: أطوف حول الستر البرنزي المحيط بالضريح، وأقوم بأوضاع الصلاة المنتظمة، دخل وأقام صلاته بجانبي

وأود بعد سرد هذه الحكايات أن اذكر أن أخلاق أصدقائي الآخرين لا يلاحظ عليها مثل هذا الشذوذ. وكان استقبالي لضيوفي لا يخرج عن عادات الضيافة الشرقية المألوفة. كنت اقدم إليهم الشبك والقهوة وأدعوهم إلى مشاركتي الغداء أو العشاء. وقد كتبت الكثير من أخبارهم بالعربية بإملائهم ثم ترجمتها إلى الإنجليزية ونشرتها في هذه الصفحات والمقصد الأول من وضع هذا الكتاب هو تمحيص الأشياء وتحقيق الحوادث؛ فلم أضح بالحقيقة في سبيل تجميل القصة أما الصور التي نشرت فيه فقد رسمتها للشرح لا للزينة.

(يتبع)


تأليف المستشرق الإنجليزي ادوارد وليم لين


مجلة الرسالة - العدد 424
بتاريخ: 18 - 08 - 1941

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى