محمود النشوي -2 - بين المعري ودانتي

في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة

تحدثنا فيما سبق عن رسالة أبن القارح، وأن أسلوبها أثار في نفس المعري رغبة في الضرب على غرارها، والاتجاه مع تيارها. بيد أن المعري أرانا أفانين من الخيال مما يحدونا أن نقول: إن رسالة أبن القارح وإن تكن أثارت لديه فكرة نقد الشعراء، ومحاورة الرواء والأدباء. . فلا يدور بخلدنا إنها كونت فيه روحاً ليست عنده، أو ألهمته فكرة لم يكن هضمها من قبل. على إنها وإن ذكرته الحوار والنقد فأن ثوب الخيال الذي ألقاه أبو العلاء على رسالة غفرانه يتسامى عن طوق أبن القارح وآلاف مثله. وما كان أبن القارح ليستطيع أن يتخيل تلك الرحلة العجيبة في طبقات الجنان، وبين دركات الجحيم.

ولدينا برهان قوي على أن المعري لم يسلك سبيلاً عبدها له أبن القارح، وأن رسالته ما كانت غير سبب مباشر، نبه من المعري فكرة راسخة. ذلك البرهان هو رسالة الملائكة التي نرى فيها خيال المعري يطوف بالجنة وبالنار يقرع أبوابهما، ويمزح مع الخزنة والحراس والملائكة في محاورة تستهوي اللب، وتضحك أشد الناس عبوساً. إذ يحاور عزرائيل حين يزوره زورة الموت، فيقول له: أمهلني ساعة حتى أخبرك بوزن عزرائيل. ولكن ملك الموت إذا جاء لا يؤخر عمله، فيستل روحه من بين جنبيه، ثم بقذف به إلى القبر فيلقى منكراً ونكيراً. وبدلا من أن يجيب سؤالهما. يبتدرهما هو بالسؤال فيقول: كيف جاء اسماكما عربيين منصرفين وأسماء الملائكة كلها أعجمية مثل إسرافيل وجبرائيل وميكائيل؟

فيقولان هات حجتك. . وكأني بأحدهما يهوي إليه (بالارزبة) فيتملقها قائلاً. قد كان ينبغي لكما أن تعرفا وزن ميكائيل وجبرائيل على اختلاف اللغات إذ كانا أخويكما في الله عز وجل. فلا يزيدهما ذلك إلا غيظا. . ثم يتخيل أنه تلاقى مع (مالك) خازن النيران فيحاوره لا في العذاب ولا في الزبانية. ولكن في أوزان الأسماء وجموعها فيقول له: أخبرني - رحمك الله - ما واحد الزبانية؟

فيعبس مالك لما يسمع ويكفهر. ثم يسائله عن (غسلين) قائلاً أهو مصدر أم واحد أم جمع؟.

ويحاوره في (جهنم) سائلاً: هل النون في جهنم زائدة؟ فيجيبه مالك بقوله: ما أجهلك وأقل تمييزك؟ ما جلست هنا للتصريف ولكن جلست لعقاب الكفرة والمشركين والقانطين. ثم يذهب في جماعة من الأدباء إلى رضوان خازن الجنان فيناديه بعضهم قائلاً. (يا رضؤ) بالترخيم. فيقول له ما حاجتكم؟ فيقول بعضهم نسألك أن تكون واسطتنا لدخول الجنة فأنهم لا يستغنون عن مثلنا: فقبيح بالعبد أن ينال هذه النعم وهو إذا سبح الله لحن. . ولعل في الفردوس قوماً لا يدركون أحرف (الكمثرى) أكلها أصلية أم بعضها زوائد فيبتسم رضوان ويقول: أن أهل الجنة اليوم في شغل فاكهون. هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون:

فانصرفوا - رحمكم الله - فقد أكثرتم الكلام فيما لا منفعة فيه، فيطلبون لقاء (الخليل بن أحمد) فيطل عليهم قائلاً: ماذا تريدون؟ فيعرضون عليه مثل ما عرضوا على رضوان فيقول لهم: إن الله جلت قدرته جعل من يسكن الجنة ممن يتكلم بكلام العرب ناطقاً بأفصح اللغات كما نطق بها (يعرب بن قحطان أو معد بن عدنان) فاذهبوا راشدين - إن شاء الله - فينصرف الأدباء وتنتهي رسالة الملائكة. تلك التي نتلمس من أسلوبها وخيالها أن رسالة الغفران أينعت في نفس أبي العلاء فأرسلها تحمل صنعته على الرواة الذين صحفوا أحاديث الشعراء. وعلى الشعراء الذين نجوا من عذاب الله دون عمل يسلك بهم سبيل النجاة (في رأيه).

وأما دانتي فقد علمنا أنه عذب وشرد في الآفاق. . وحكم عليه بالإعدام حرقاً. ثم كان محباً من قبل ذلك لبياتريشي وتفتحت أزهار حياته الأولى على أيدي القديسين والرهبان يغرسون في نفسه بذور التفكير في الجنان والنيران. وعذاب العصاة ونعيم الطائعين. فلما أوشك أن ينطفئ سراج حياته، وأذنت شمسه بالمغيب قبيل وفاته بأسابيع قلائل نظر وراءه فرأى قوماً اضطهدوه وشردوه ورأى حباً مضاعاً لم يستمتع به ثار في نفسه ما يثور في كل نفس عجزت عن نيل الأماني فعمدت للخيال تحقق به ما أضلته في الحقيقة. وتخيل رحلته في الجحيم وفي النعيم يلقى في جهنم من شردوه وعذبوه ويلقى فيها البابا بونيفاشيو الذي كان السبب في تشريده وتشتيت شمله، يراه في الدرك الثامن من جهنم في ثلة من المعذبين أمثاله غرست رؤوسهم وأكتافهم إلى الأسفل في حفر عميقة. وأما بقية أجسامهم فقد ظلت معرضة لوابل النيران التي كانت تنصب عليها جزاء على اتجارهم بالدين. واتخاذهم من أسم الله ذريعة لجلب المنفعة لأشخاصهم، ويرى فيها الكونت جويدو منفيلترو الذي خدعه البابا بونيفاشيو. . ويرى بياتريشي حبيبته في طبقات الجنان مستمتعا عن طريق الخيال بما لم يستطعه لدى الحقيقة. ووصف استقبالها عند باب الجنان وصفا هو أخصب ناحية في أدبه. وسنذكر ذلك الوصف كاملاً غير منقوص حين الحديث عن الموازنة بين الخيالين عند الشاعرين. أفرأيت إذن كيف كانت الحوافز النفسية الخاصة تدفع كلا من الشاعرين أن يتخيل تلك الرحلة العجيبة؟ نعم كل منهما كان في نفسه نزوع لما كتب.

هل سرق دانتي رسالة المعري؟

مسألة طال حولها الحوار والجدل، ولم نر دليلاً مادياً على السرقة أو على البراءة منها. ولكن قوما يردونها. . فقد قال الأستاذ محمد كرد علي إن أعمى المعرة كان معلماً لنابغة إيطاليا في الشعر والخيال. وبعض الباحثين من المستشرقين في أوروبا على أن دانتي في روايته الإلهية قد اقتبسها - ولا سيما الجحيم - من رسالة الغفران للمعري.

وقال جورجي زيدان: إن المعري توفي سنة 449هـ ودانتي توفي سنة 720هـ، وملتن الإنجليزي توفي سنة 1084هـ. فلا بدع إذا قلنا باقتباس هذا الفكر عنه. وأقدمهما (دانتي) لم يظهر إلا بعد احتكاك الإفرنج بالمسلمين والإيطاليان أسبق الإفرنج إلى ذلك.

ذلك هو رأي جورجي زيدان توسع فيه حتى أدخل ملتن أيضاً في الاقتباس من المعري وحجته تأخر الزمن بدانتي وملتن واحتكاك الإفرنج بالمسلمين، فهل ذلك كله ينهض دليلاً على اقتباس الفكرة أو يكفي برهانا على الأخذ؟ المسألة لا تعدو الحدس والظن. وأما لنرى البراهين تنحاز دانتي فتبعده عن الأخذ وعن الاقتباس.

فقد بدأ حياته يتعلم الدين، يكفل ثقافته القديس فرانشكو

ولقد كان عصره عهده قوة سلطان الباباوات والكهنة. ولن يقوم لهؤلاء سلطان إلا بقوة النزعة الدينية. وإبان ذلك تتكاثر صور الجنة والنار واردة في أخيلة الناس وأذهانهم. أليس في نشأته الدينية، وفي عهده المليء بالتعصب الديني ما يكفي في أن ترد الجنة والنار في خياله؟ على أن فكرة الجنة والنار والنعيم والجحيم تدور برؤوس الناس منبلج الصباح وأفول الشمس في كل يوم. فهي حق شائع لجميعهم لا يعده الأدباء أخذاً. ولم أنهم عدوه لكان كل شعرائنا وأدبائنا سراقا. ولكان امرؤ القيس سارقا لأنه بكى الديار كما بكاها أبن حذام من قبله، إذ يقول امرؤ القيس

عوجا على الطلل المحيل لعلنا ... نبكي الديار كما بكى أبن حذام

وإنما الذي يعده الأدباء سرقة هو أخذ الفكرة النادرة التي ينفرد واحد بها. أو الترتيب الذي لا يستطيعه إلا الشواذ والأفذاذ فهل سرق دانتي الترتيب من رسالة الغفران؟ اللهم لا

فحراس الجحيم في خيال المعري ملائكة، وفي خيال دانتي شياطين، وأشخاص الرواية عند المعري شعراء ورواة. وعند دانتي رجال دين وعصاة ومذنبين، والجنة عند دانتي تسعة أقسام لكل قسم طائفة عملوا الخيرات كل على حسب عمله. وعند المعري ثلاثة أقسام (جنة الجن) وجنة (الرجاز) والجنة الأصلية.

وقد بلغ المعري أسمى خياله لدى وصفه الفردوس. كما كان أخصب النواحي خيالا عند دانتي هو وصف الجحيم

وسنعرض لذلك بالموازنة التامة (إن شاء الله)

على أنه إن كان لا بد من أن نتهم الشاعر الطلياني بالاقتباس. فأولى أن نعتقد أخذه من فرجيليو الذي كان دليله في رحلته وهاديه في ظلمات الجحيم. ولفرجيليو هو الآخر رحلة في أعماق الجحيم هي أقرب لخيال دانتي من رسالة الغفران.

ولقد كانت لدانتي أحلام فيها ملائكة وفيها موتى، هي إرهاص ومقدمة لرسالته العتيدة.

فقد رأى في حلم من الأحلام أنه ضل في غابة موحشة فأطلت عليه محبوبته بياتريشي في سحابة من الملائكة وعليها لهب قرمزي كأنه اللهب المتأجج. وخيل إليه أنه يتغلغل في عالم الأموات.

كما تحدث في بعض أشعاره قائلا: ها أنذا جالس في مكاني أذكرها وأذكر أيامها السعيدة فيلوح لي كأن ملائكة من السماء تهبط من عل وتأخذ أماكنها على المقاعد الموجودة حولي.

فإذا ضممنا لذلك كله أن حبه ألهمه خيال الجنة ليستمتع بمن أحب، وأن بغضه لمن حاربوه ونفوه وشردوه يوحي إليه أن يتخيلهم في دركات الجحيم، وأن تلك طبيعة النفس تشره لنيل آمالها ولو عن طريق الخيال. عرفنا براءته من السرقة.

يتبع

محمود أحمد النشوي


مجلة الرسالة - العدد 43
بتاريخ: 30 - 04 - 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى