سعيد مكاوى - أختُ حبيبتي

جارتنا التي كنت أحبها قديماً .. أدس لها الرسائل في كرسي المصعد .. أرقب وجنتيها المحمرتين وضفائرها المرتعشة وبسمتها الخجلى ، وهي تختلس النظر إلي ظلي المختبئ خلف الزجاج المصنفر لباب مسكننا . وكنت أعدو طائراً إلى الداخل بينما صوت جرس باب مسكنها الحاد- وهي تضغط على زره بلا توقف- يغرد في أذني ....
جارتنا التي كنت أحبها قديماً كانت لها أخت أكبر ، تكرهني ولا تطيقني دونا سبب .. وكلما وجدتني بالشرفة تكورت شفتاها كالحرباء التي تتأهب لصيدها ..مرسلة سبابها الذي لا يسمعه سوانا..
كنت أكتب كل يوم رسالة لحبيبتي لكني لم أطلب أبداً لقاءً بالخارج ، كنت سعيداً بعالمي الذي رسمت كل حدوده فيما وراء باب مسكننا وفيما أمام الردهة التي يتوقف عندها المصعد وفي خطواتها القليلة المهرولة حين تدخل شقتها .. وقد تتسع حدود عالمي أحياناً للشارع الذي به منزلنا حين ترتفع رأسي بحذر تترقب شرفتها التي نادراً ما وجدت بها حبيبتي بقدر ما وجدت أختها الكبرى التي كانت تكرهني وهى واقفة تتوعدني .
لم تصعد حبيبتي بالمصعد هذه المرة .. التي صعدت أختها التي تكبرها بسنوات قلائل وتكرهني . فتكت بحشوة كرسي المصعد حتى وجدت رسالتي ودخلت بها إلى مسكنها غاضبة .. انساب البول رغماً عني ملوِّثاً بنطلوني القصير وجوربي وحذائي .. وفررت من عالمي الصغير إلى غرف إخوتي الكبار فلم أجد من يجبرني .. حتى أختي التي تكبرني بسنة واحدة رمقتني بنظرة بائسة ولطمت بيدها على خدها وأبي يطلبني بصوت جهوري .. لم أجرؤ على الذهاب إليه طوعًا وتطوع أخوتي الكبار بحملي إليه كاتمين ابتسامات التشفي .
كانت الرسائل في حجر أبي وأخت حبيبتي الواقفة قبالته تمزق كل رسالة بعد أن يتأملها أبي .. أصبح أبي قاسياً جداً معي بعد تلك الحادثة.
سنوات قليلة مرت ومات أبي وتزوجت أخت حبيبتي الكبرى برجل ضئيل مسن أقام معهم في مسكنهم .. لم يدْعُني أحد لحضور حفل زفاف أخت حبيبتي الكبرى ، ولا حتى حفل زفاف حبيبتي اللاحق ، وإن كان كل إخوتي بلا استثناء حضروا كلا الفرحين ..
أخت حبيبتي لم تكن تصعد معي بالمصعد أبداً .. إن وجدتني أنتظره تباعدت أمتاراً حتى أوشكت أن تلتصق بباب المنزل الخارجي ثم تدير لي ظهرها حتى أصعد .. وإن كانت بانتظاره ولمحتني خلفها أسرعت بالدخول وهي تغلق الباب في وجهي بصوت مدوٍّ .
لم يعد أخوتي يتكلمون عن جيراننا وأنا موجود بينهم وإن دخلت فجأة وهم يتحدثون عنهم قطعوا الحديث ومضوا يتحاورون بأعينهم .. ورغم ذلك علمت أن زوج أخت حبيبتي الكبرى مريض جداً ،وتألمت بحق لكنني لم أجرؤ على الذهاب إلى المستشفي .
كانت الليلة شتوية والمطر الملوث بالوحل الملتصق بورق الشجر يتساقط برتابة .. وأنا أحاذر أن أسقط في حفرة أو أقترب من إحدى أعمدة الإنارة المفتوحة بطونها وأسلاكها الكهربية تومض على فترات ، ودخلت إلى بهو المنزل واستدعيت المصعد .. وهو في منتصف المسافة .. تصاعدت إلى أذني خطوات مهرولة تجتاز الشارع ثم تتوقف فجأة في بهو المنزل .. التفتُّ بالتزامن مع نزول المصعد .. كانت أخت حبيبتي الكبرى تتراجع ببطء إلى ركنها الأثير .. لكنها لم تُدِرْ لي ظهرها هذه المرة .. فقط أشاحت بوجهها عني .. كانت ملابسها مبللة وجسدها يرتعد من البرد .. تجاهلتها وصعدت لكني بمجرد دخولي مسكني داهمني صوتها الحاد الصاعد من أسفل يصرخ بجنون ..
كل الجيران هرولوا ونزلوا وإخوتي الموجودون بالمسكن عدوا على الدرجات الحجرية بعد أن فاتهم المصعد .. وظللت بغرفتي ساكناً متوجساً منتظراً شراً أجهله .. رجع أخوتي واحداً أثر الآخر وبعد أن أنهوا اجتماعاتهم أخبرني أحدهم بأن زوج أخت حبيبتي الكبرى مات بالمستشفي وسنقوم بالواجب تجاه العائلة نيابة عنك ..
سنوات مرت أكثر وأكثر ، وما عدنا نلتقي أنا وأخت حبيبتي لا بالصعود ولا بالهبوط ولا حتى في الشرفتين المتجاورتين .. ومهما اجتهدت كي أسترجع اسمها فشلت أكثر .. وحتى ظلها بالرداء الأسود الذي لم تغيره منذ وفاة زوجها والذي كان يخيفينى جداً إذا ما لمحته مصادفة أختفي نهائياً .
أخت حبيبتي الكبرى والتي تكبرها بسنوات قليلة .. ماتت أمس .. وسار إخوتي الذين صاروا شيوخاً الآن في جنازتها التي لم أجرؤ حتى على الاقتراب منها خوفاً من أن تخرج إليّ وتوبخني ... أختي التي تكبرني بعام تركت أولادها وزوجها ولازمتهم .. تشارك بهمة حماس إعداد الولائم للمعزين وغسيل الأواني والملابس وفاءً لجارتها وصديقتها ..
وأنا بغرفتي وحيداً بعد كل هذه السنوات .. انسلت أختي من مسكنهم ليلاً في اليوم التالي للعزاء .. وجثمت على بغرفتي .. جلست أمامي متثاقلة وأزاحت بيدها الضخمة المجلة التي كنت أتصفحها، ثم ألقت أمامي بسلسلة ذهبية تنتهي بحلقة بلاتينية .. وأومأت إليّ بأن أتلمسها .. تفحصت الحلقة كانت بها صورة شخصية باهتة لزوج الراحلة خلف زجاج يكاد يكون معتم .. قلبت شفتي متسائلاً .. أمسكت أختي الحلقة وفتحتها بعنف فسقطت صورة كانت منزوية خلف صورة الزوج الراحل .. كانت الصورة راقدة على الأرض بين قدمي .. ولم أكن بحاجة لتأملها .. كانت صورة لفتى في السادسة عشر من العمر .. وكانت صورتي .. أعادت أختي إحكام الحلقة وقامت غير مبالية بقدمها التي تطأ صورتي وقالت وهي تمضى ..
- ها روح أسلمهم بقيت الصيغة .. يا ريتهم ما خلوها في عهدتي ..
كان صدى صوت خطوات أختي الثقيلة يتباعد وأنا منهمك بإخراج رسائلي القديمة التي كنت قد أعدت لصقهم بمهارة .. كان الصمغ مازال قوياً .. لم أفلح في تمزيقهم ولم تعد بي حاجة لقراءتها .. كنت فقط أرقبها وهي تحترق واحدةً تلو الأخرى .



مكاوي سعيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى