سمير الفيل - جبل النرجس

قررت أن أورث ابني مهنتي . كان القرار مدروسا ولم أتعجل في اتخاذه فالأسطى بومة العجلاتي هو أول من أشار عليّ بذلك حتى لا يضيع المحل بين الورثة وكلهم طامعون ، وجاء الريس بيومي الحنش فهمس في أذني أن هذا خير يعم على الجميع فبذلك لن يدخل غريب الزقاق أما صديقي الصدوق سدرة الخياط الذي أكرهه ، وأتبادل معه القبلات كلما التقينا فهو الذي أتبع القول بالفعل فجاء لي بورق أبيض مسطر وكتب الوصية.
لستم بغرباء فمحلي واسع ، ببابين وصندرة ، وهو ملك لنا نحن عائلة الطنازي التي هي من أقدم عائلات المنطقة، وهو يقع في الجهة البحرية ، وقد عملت فيه بعد وفاة معلمي الأسطى عيان المحلاوي بعد أن صدمته سيارة جيش وهو راجع من فرح حسنين الخربوطلي . كان أبي يرحمه الله قد ألحقني بالمحل الذي استأجره الأسطى عيان كي أكون عينا عليه ، ولأتعلم مهنة تنفعني .
شيعناه وكانت المفاتيح معي فتوكلت على الذي لا يغفل ولا ينام ، وفتحت الباب . سقيت الجيران قهوة سادة وزدت عليها بإرسال أقماع سكر وعبوات زيت بذرة القطن وقطع صابون " نابلسي شاهين"، يوصلها الصبي خلاف إلى حيث يسكنون.
بما أن المحل عبارة عن ورشة موبليات فقد أجدت الصنعة ، وحدث أن بعت واشتريت مئات الأطقم حتى تضخمت ثروتي فتوسعت ، وقامرت بشراء مخزن في بيت أعمامي الذين وقف حالهم لخمود همتهم . جملت المدخل القديم بأعمدة رخام تعكس ضوء الشمس الرباني ، وعشت في بحبوحة من العيش مع ولدين من صلبي وبنت دلوعة تربت على الغالي .
حين اعتلت صحتي وجدت أشقائي يزورنني بعد انقطاع دام لعدة أعوام . ألمح كبيرهم إلى فضيلة الزهد ونصحني أن أكتب المحل لمن بقي من الأشقاء لأنهم يعولون أكواما من لحم ، ويعانون الفقر . بعدها بأسبوع استوقفني واحد من أعمامي . زأر في وجهي : اعمل طيب وارمه البحر.
كان يقصد بالبحر أهلي الذين كان أغلبهم ينفث حقده وغله وحسده عليّ . مرة احترقت الواجهة ولم يكن قد مر على تجديدها شهران ، ومرة انهارت الصندرة بعد أن تسوس خشبها بفعل الرطوبة والأكلة. في مرة ثالثة شب ماس كهربي أتى على حجرة صالون من طراز " لويس " قبل أن يسرع الجيران بإطفاء النار المهلكة .
دبرت حالي وأحضرت الولدين ، وأخبرتهم بقراري فمن يضمن الحياة ليوم واحد؟ قال مصيلحي : دعني أعمل في التجارة . أقلب رزقي حلالا . أما بلال فقد هز رأسه موافقا : هذا حقي .علمت البنت سمية بما يدور في عقلي فطلبت مني مفتاح حجرة الخزين فوق السطوح وهي مليئة بزلع المش والزيتون والجبن الرومي .
قمت فلكمت الصغير المتهور في فكه، وهممت باحتضان الكبير العاقل فأوقفني بيده : أرجوك حاسب . البدلة سينكسر كيها.
البنت لوت بوزها ، وهي تكلم نفسها . بلعت ريقي . قلت في نفسي : لم تفسدهم إلا وجنات ابنة الأقرع الطرشجي الذي مات في برميل لفت مملح في رمضان قبل الماضي .
أنتم تعرفونني . أحب الملبس الجيد والطعام الشهي والقعدة المسترخية في ظلال شجرة كافور تظل المحل . الصبيان والصنايعية يعملون في المحل وينقلون الإنتاج للمخزن الواسع المفضي لزقاق آخر حتى يعطش السوق فتروح البضاعة على راحتها.
وجنات زوجتي بعد أن استقالت من عملها كممرضة في المستشفى الأميري صارت من سيدات المدينة ، فهي تشارك في كل عمل خيري بجنيهات تسرقها من دولاب ملابسي . تغمر نفسها بالكولونيا ، وتضع الشال الفرو على كتفيها ، وتتركني في فراشي أتقلب على نار جهنم التي تظهر لي كلما غطست في النوم حيث يسوقني من بيدهم مذبات خشبية عريضة ، ينغسونني بها لأقوم كي أتلقى حسابي .
وهبت الجامع المجاور نصف دستة سجاجيد ، وأقمت سبيلا عبارة عن قلل قناوي مليئة بماء المزهر حسب طلب الشيخ نفيس خادم المسجد الأمين لكن لا شيء يتغير. المذبات تنخسني بشكل يوجع ضلوعي ويسد نفسي عن الدنيا كل ليلة .
وجدتني على جبل النرجس الذي يحتل منطقة تطل على البحر المتوسط . أسبقهم بمقدار خطوة وهم يتبعونني . الرمال تثقل خطواتنا ونحن ننتزع أقدامنا في صعوبة : الخمسة أشقاء الذين أنجبهم أبي والبنات الثلاث.
تحسرت أن كبيرنا مات ولم يكن يمتلك سوى ثوبين : واحدا للشتاء والآخر للصيف ، ولقد دفن في مشهد مهيب حضره السيد المحافظ والسيد مدير الأمن ورجال المرافق الذين كانوا يوسعون الطريق ، ويطردون الباعة بعرباتهم التي يحط عليها الذباب الكسول .
في انحدار محسوب رأيتني أهبط وهم خلفي . كل منهم يريد أن يخطف شيئا من لحمي الحي . لا أعرف من أخبرهم بوجود رصيد في البنك ، وعمارتين في المدينة ، وشاليه في الأسكندرية . الشيء الذي غاب عنهم شقة مصر الجديدة التي اشتريتها لأتزوج فيها نبيلة خادمة البيت التي يعرفون أنها هربت من خدمة زوجتي النكدية ، ولا يعرفون أكثر من هذا. تلك المرأة بضة الجسد التي كانت مثل قطعة الملبن ، وقد عاشرتها حتى ضبطتها تخونني مع شاب رقيع هو صبي المكوجي الذي يدهن شعره بالفازلين ويخطط حواجبه بقلم الفحم .
كنت أهبط وهم يتبعونني ، والنرجس يطل من بين فجوات التكعيبة التي وصلنا إليها مجهدين . قلت أتحسس طلباتهم : نحن أخوة . والظفر لا يطلع من اللحم. قالوا بصوت واحد: عليك نور.
تقدم مني خليفة الذي شق رجال القبائل في اليمن صدره ، وعاد في تابوت ، هزني بعنف: حاربت من أجلكم ، وأنت تريد أخذ المحل ونهب البيت ؟!
قلت له : لا شأن لي بك. فجمال عبدالناصر هو الذي أرسلك للوقوف مع الثورة اليمنية ضد حكم الإمامة . وأنت لم تأخذ حذرك وذهبت لبيت امرأة حرة لتواقعها فأوردت نفسك مورد التهلكة. كان الموت مصيرك . لست ببطل ولا بشهيد .
حين وصلت لهذه النقطة لطمني بيده المضرجة بالدم ، واختفى بعد أن آذاني أمام بقية أخوتي.
في الحال تقدم مرعي خطوتين ، وأزاح فرعا من فروع الشجرة التي جلسنا تحت ظلالها ، وبدون مقدمات قال : أنا الذي دفنت حيا في رمال سيناء وافتديتكم بنفسي.
قلت مدافعا عن نفسي : بل القيادة العامة هي التي دفعتك للحرب ، واسأل عبدالحكيم عامر الذي أمر بالانسحاب المهين. ليتكم تمسكتم بالممرات ، وزدتم عن مواقعكم بالدم .
قال وهو يتأفف : هذا أمر مرّ عليه وقت طويل . طائرة " السكاي هوك " الإسرائيلية أمطرتنا بصواريخها فردمت علينا الرمل وتم دفننا أحياء . أولادي بلا مورد ، ويحتاجون المحل كي يقيموا فيه مشروعا تجاريا . أقبل قدميك أن تعطيهم إياه.
قلت ونفسي لا يخرج من صدري إلا بصعوبة : وعدت ابني بلال . هل أسحب كلامي من أجل تخاريفك الفارغة ؟ لم أكن أملك إنقاذك من الدفن.
جاءت الدبابير ودارت حولنا وهي تطن فأردت أن أشعل النار لطردها فامتدت يد مرعي وأطفأتها لأننا في مرمى نيران مدفعية العدو.
ثرت عليه : اصح من رقدتك . الحرب انتهت .
ركلني بقدمه في بطني فارتميت متألما. حين أوشكت أن آخذ بثأري وجدته يتلاشي في الفراغ المزرق للبحر الذي كان يغطس في العتمة رويدا رويدا .
مالت علي ميمونة ، شقيقتي التي كنت أميل إليها . فبعد طلاقها من ثلاثة أزواج بقيت في شقة العائلة بدون أولاد . تنظف وتغسل وتطبخ لمن يحضر من الأشقاء أو أولادهم. قالت في مودة مصطنعة : لتقتسم معهم ريع البيت والمحل . ولتفوت الفرصة على الدخلاء والغرباء وأهل السوء .
قلت لها وأنا أتوجع : هل أنت معهم في مؤامرتهم الدنيئة ؟
همست مستنجدة بالست الطاهرة : احفظ نفسك بمرضاتهم .
هززت رأسي رافضا الصفقة . رددت بكل ما أوتيت من قوة : المحل لي والبيت على المشاع ، وثروتي لن يمسها أحد من غير أولادي الذين هم من صلبي.
رأيته يضحك وهو يشملني بنظرة أرعبتني . تحرك باتجاهي في خط مستقيم ، وأشعل شمعة بددت الظلام الذي كان قد بدأ يسكن الأشياء من حولنا : سأوجد لك حلا سيخرجك من المحنة.
تطلعت لشفتيه اليابستين ، وهما تتحركان بالكلام . ياه . هذا هو أخي الملازم أول عطوة الذي جاء في زي الجيش ، يظلع في مشيته بعد أن ركب ساقا صناعية إثر عمليات القنص ضد قوات " شارون" التي تسللت إلى منطقة الدفرسوار . ما باله يضع الأوسمة على صدره وقد انتهت الحرب منذ زمن بعيد . كدت أخسره حين أوشكت على القول بأن زمنه قد انتهى ، وأن حرب أكتوبر 73 التي خاضها قد وضعت في ملف أصفرت أوراقه بمرور السنوات ، ووضع بأيد أمينة في غرفة الأرشيف المليئة بالأتربة والعناكب وجماعات الجرذان.
توقفت وقلت له: لا تتدخل فيما لا يعنيك. سأعطيك نصيبك أنت وحدك بشرط أن تتخلى عنهم ، وتوقــّع على هذا الإيصال .
وقف يتملى ملامحي كأنه يراني لأول مرة ، وامتدت يده لتصفعني فتحاشيت يده وضربته برأسي في بطنه فانحنى متألما.
انطفأت الشمعة ولم يكن أحد معه عود ثقاب ، فتهيأت للهروب من حصارهم ، لكنهم أحكموا سيطرتهم وأبقوني فصحت ملوحا بحزام في يدي : ستكون نهايتكم على يدي . هويت بالحزام على جسد الملازم أول عطوة فسمعت صوت طقطقة عظام ، ولم أره بعدها أبدا.
كان يظن أن خططه العسكرية البالية ستصلح معي . أنا الذي عشت حياتي مخالطا الأشقياء والمجرمين واللصوص من كل جنس ولون في "غرزة " الحشيش .
مرت سيارة دهست كلبا ضالا في ممر رملي قريب من جبل النرجس . أتاح لي الضوء أن أجدها تقترب مني . هند شقيقتي الوسطى ، وموضع أسراري . وجدتها تربت على كتفي وهي تهمس لي : لا تخش شيئا. أنت أحق بالمحل وريع البيت . فأنت الوحيد الذي نمت ثروته وجميعهم أفلسوا بخيباتهم وسوء تصرفهم .
هززت رأسي ممتنا ، وكما تعودت معها مددت يدي بمائة جنيه كنت أدخرها للمواقف الصعبة فهزت رأسها رافضة : لا أقل من ألفي جنيه. أهي لعبة؟!
واستطردت : هل يصير الدم ماء ؟!
إنها تعرف أنني ضعيف تجاهها لكن ليس لدرجة الابتزاز . اللعينة تقطع من لحمي بالشوكة والسكين . ابنة عائلة الطنازي المفلسة ، المتداعية ، المجهولة الأصل والنسب عن بكرة أبيها ، والتي لم يكن لها شأن بغير تعبي ومسعاي .
لمحته يحتك بي ، وهو يشير إلى خاتم بفص أحمر في بنصري: أتتذكر يوم زواجك ؟ لم تكن تملك مليما وأهديتك إياه؟!
صرخت في الحصري : كنت أغنانا ، وقد فتحت محلين لتجارة الفواكه لكنك توحشت وتزوجت زيجتين واشتريت حديقة مانجو بطريق الإسماعيلية ، ثم حاصرتك الضرائب ومصاريف الزيجتين الفاشلتين فعدت لأصلك . يا مولاي كما خلقتني.
احتج بحشرجة حشت صدره: لا تشمت في أهلك . أنسيت أن تبسمك في وجه أخيك صدقة ؟
كشرت عن أنيابي حين رأيت الشرر يتطاير من عيني الحصري . كانت هناك شائعات تقول أن زوجتيه قد اختفيتا في ظروف مريبة ، وأكد المقربون منه أنه قتل المرأتين في السر ، وأذابهما في حمض الكبريتيك المركز.
ركز عينيه على جسدي العليل وقال بصوت كالفحيح: أنت الآن في السبعين، وجهك مصفر ، وجسدك طالته العلل ، فارجع الحق لأصحابه وإلا..
قاطعته بصوت مليء بالاتهام المبطن بفضحه لو استمر في خصومته : وإلا أذبتني في حمض الكبريتيك.
امتدت يده فقرص مكانا تحت السرة . عقب على كلامي : ستموت وترمى في حفرة كالجيفة ، ولن يزورك أحد . ياقاطع الأرحام.
خفت صوته وكل ما تبقى منه مجرد تمتمات مليئة بالسباب واللعنات والأدعية المعكوسة .
كل واحد تكلم بما يريد . لم يبق إلاه. شقيقي الأصغر برهام . كان الوحيد الذي اصطحب معه زوجته المنقبة ، وقد سارت في إثره دون أن نرى لها وجها. مجرد قطعة من القماش الأسود السميك تغطي جسدا مرعبا ممتلئا باللحم والشحم.
قلت له فيما عيني تجول في المكان المعتم : وأنت يا برهام . لقد أتيت معهم ، وبالتأكيد لك مطالب تخصك؟
رد بحسم لينفي عن نفسه اتهامي : لا شأن لي بمطالبكم الدنيوية. جئت لآمرك بالعودة إلى فسطاط الإيمان .
قلت متلفتا حولي : المحل لابني بالمخزن والصندرة . البيت يقسم قسمة شرعية فيما بيننا. عماراتي ومالي في البنوك هو إرث شرعي بين الولدين والبنت.
هزني من كتفي ولحيته الطويلة تتحرك : يا عدو الله. طهر مالك.
صرخت فيه : أخرج عنه الزكاة ، والضرائب تلاحقني . فماذا تريد أكثر من هذا؟
مالت زوجته على أذنه كأنها تلقنه ما يجب قوله . خرج صوته مبحوحا يغالب السعال: المحل يتحول إلى مسجد ليكون رحمة على والدنا الميت.
احتججت ، وأنا أفتح عيني وأغلقهما ، متلمسا بعض النور : كل منا أدرى بشئون دنياه.
زغدني في جنبي : خسئت يا أسوأ البشر طرا.
كان جبل النرجس يشملنا جميعا بسكونه ، أصغيت بكل جوارحي للشجر والطيور فإذا بصوت الكروان يتردد في المكان.
تجولت العين باحثة عنه في ظلام المكان. تذكرت نجوى أصغر شقيقاتي التي ماتت غرقا في خليج السويس حين ذهبنا إلى هناك خلال حرب الاستنزاف سنة 1969 ، يومها خلعنا جميعا ملابسنا ورحنا نسبح مخترقين الحذر العسكري في منطقة غيرمأمونة ، ولم ندر إلا بدوامة تبتلعها ، فدفنناها ليلا دون جنازة . وحدها التي لم تأت هنا .
ما السر في غيابها ؟ هل تتحاشاني أم تعرف أن جبل النرجس لن يعصمنا من جشع الدنيا وأطماع الأنفس المريضة ؟
في تلك اللحظة بالذات ودون مقدمات وجدت بلالا يقف وسطنا. شهقت فيه مستنجدا : أنقذني من أطماعهم . أبعد الأشقياء عني .
قال لي بلهجة مطمئنة: سوف أخلصك منهم.
مال بعنقه نحو تلك السائرة في خفة ، الصامتة بحزن جنائزي. في إشارة متفق عليها ومض ضوء أغشى الأبصار لثوان قليلة ثم لوح بيده فجاءت نجوى . رأيتها تسير كالمنومة حاملة كفنا شاهق البياض . تقدمت نحوي ودموعها تنحدر فتتحول كل دمعة لزهرة نرجس تنبت فوق الرمل ، تتفتح في ثوان ثم تذبل في لحظة .
أخرج سكينته التي برقت في ضوء نجمة بعيدة كانت ترسل شعاعها الواهن . جز رأسي ، ولم أشعر بعدها بشيء أبدا!


دمياط
في 12/10/2009

تعليقات

د
ألف مبروك لصديقى العتيد سمير الفيل الفوز بجائزة الدولة التشجيعية ، مبارك لنا جميعا ، لقد وصلت الجائزة لمن يستحقها


د. محمد عبدالحليم غنيم
 
أعلى